18 أبريل 2019

حِرفَة اليد وصَنعة الروح

حِرفَة اليد وصَنعة الروح

تتناول هذه المادّة العمل اليدويّ من زاوية فلسفيّة ونفسيّة وإدراكيّة، ثم اقتصاديّة. وكاتبُها ماثيو كراوفورد Matthew B. Crawford بات اليوم باحثاً مساعداً في معهد الدراسات المتقدّمة للثقافة في جامعة فرجينيا. حصل كراوفورد على درجة الدكتوراه في الفلسفة السياسيّة، ثمّ افتتح مشغله الخاصّ لإصلاح الدراجات النارية. من تجربته الخاصّة تلك، طوّر أفكاره بخصوص قيمة العمل اليدويّ، والتي فصّلها في كتابيه Shop Class as Soulcraft: an Inquiry Into The Value of Work الذي وسّع فيه هذه المقالة المُطوّلة، ثمّ كتابه The World Beyond Your Head: On Becoming an Individual in an Age of Distraction.

لاقى الكتابان صدىً واسعاً أوّلاً، في المجال التعليمي، بالدعوة إلى إعادة حصص الحرف اليدويّة إلى المدارس؛ ثمّ في المجال الاجتماعي، حيث تنشط عدّة حركات كامتداد لحركة الفنون والحرف Arts and Crafts Movement، التي ناهضت تغوّل التصنيع وافتقار مصنوعات خطوط الإنتاج للحسّ الجمالي واللمسة الإنسانية منذ بداية القرن الماضي؛ وأخيراً في المجال الفكري والفلسفي، ذلك أنّ عمل كراوفورد يُمثّل تمريناً فكريّاً جديداً يوظّف أدوات مختلفة في دراسة ظاهرة أهملتها حقول الدراسة الأكاديمية المنظّمة، كما إنّه يُعيد الانتباه إلى الجسد بوصفه الوسيط الضروري للوعي.

تقع المادّة الأصلية المنشورة في مجلة ذي نيو أتلانتس The New Atlantis في نحو 7000 كلمة، وقد تصرّف المترجم في ترجمتها بما يخدم القارئ العربيّ ويُرشّق المادّة، فيما أسقطت الأجزاء التي تناولت النظام التعليمي الأميركي، والتحوّلات التي مسّت الطبقة العاملة وتحوّلات هرم الوظائف في أميركا، فهي أقلّ صلةً بما يهمّ القارئ العربي.


 

إن كنت تبحث عن معدّات ورش مستعملة، فما عليك إلا التواصل مع نويل ديمبسي، وهو تاجر في ريتشموند في ولاية فرجينيا، فمخزنُهُ يغصّ بمخارط المعادن، وماكينات التفريز، وطاولات المناشير، وكلّها وصلت إلى محلّه بعد أن قرّرت المدارس بيعها. ولك أن تبحث عن هذه المعدّات في متجر eBay الإلكتروني، وستجد أنّ معظمها كذلك قد وصل من المدارس. يبدو أنّ حصص التعليم المهني قد أصبحت شيئاً من الماضي، فقد باتت أنظمة التعليم اليوم تهيّئ الطلّاب ليصبحوا "شغّيلة معرفة" Knowledge worker.

في الوقت نفسه، تطوّرت في الآونة الأخيرة ثقافة هندسيّة هدفها إخفاء الشغل، كي تجعل المنتج الصناعيّ غير مفهوم لك عندما تتفحّصه. ارفع غطاء سيارتك (خاصّةً إن كانت ألمانية) وستجد أمامك غطاءً أسفل الغطاء. سيبدو لك المحرّك شيئاً شبيهاً بذلك النصب اللامع الخالي من الملامح، الذي سلب عقول إنسان الكهف في المشهد الافتتاحي من فيلم 2001: A Space Odyssey. يتّخذ هذا الإخفاء المفزع أشكالاً عدّة: باتت براغي الآلات الصغيرة تتطلّب هي الأخرى أنواعـاً خاصّة من المفكّات، بهدف منع أيّ شخص فضوليّ -أو غاضب- من محاولة استكشاف الأجزاء الداخلية من الآلة. قد يتذكّر بعض القرّاء كيف كانت كتالوجات شركة "سيرز" Sears تحتوي، حتى وقت قريب، على صورٍ توضيحيّةٍ تُفَصِّلُ أجزاءها، وعلى مخططات شارحة لجميع آلاتها وأدواتها الميكانيكية. كان من المُسلّم به حينها أنّ المستهلك سيطالب بهذه المعلومات وسيحتاجها.

إنّ تراجع استعمالنا للأدوات قد يُشير إلى انزياح وتحوّلٍ في نمط سكنانا للعالم، إذ تَحوّل إلى نمط سكنى نصبح بمقتضاه أكثر سلبيّة واتّكالية. لقد قلّت المناسبات التي يُتاح لنا فيها أن نعيش تلك الحيويّة الجذلة التي تنبعث في الواحد منّا حينما يعمل على إصلاح شيء أو على صناعته. هكذا بات الإنسان العاديّ يشتري الأشياء التي كان يصنعها بنفسه، وبات يستبدل بجديدٍ ما كان يُصلحه بنفسه، وإن لم يفعل فإنّه غالباً ما سيلجأ إلى استئجار خبير، أو غالباً ما سيقوم باستبدال إحدى القطع الداخليّة بقطعة جديدة.

ربّما آن الأوان لنُعيد الاعتبار للقيمة التي خرجت عن الخدمة: المهارة اليدويّة، وما تتضمّنه من موقف تجاه العالم المادّي الذي يبنيه الإنسان. لم يعد ثمّة ما يدعو معظمنا، لا بوصفنا صنّاعاً ولا بوصفنا مستهلكين، إلى ممارسة هذه المهارة اليدويّة؛ وإذا ما فكّر أحدنا بضرورة تنمية هذه المهارة، فإنه سيواجه أوّل ما سيواجه تعنّت أولئك الواقعيين المتصلّبين وسخريتهم: سيخبره الاقتصاديّ الواقعيّ عن تكلفة صناعةِ ما يُمكن شراؤه، وسيخبره المعلّم الواقعيّ كم هو أمرٌ غير مسؤول أن يتعلّم تلاميذ المدارس فنون الحرف والمهن، التي باتت في نظره وظائف من الماضي. بيد أنّ علينا أن نتوقّف لبرهة ونفكّر في مدى "واقعيّة" هذه الافتراضات، وعمّا إذا كانت في الواقع تنبع من نوعٍ مخصوص من "المثاليّة"؛ نوع يقود الشبّان اليوم أفواجاً إلى وظائف شبحيّة!

باستقراء متسرّع، أستطيع أن أقول بأنّ مقالات بعناوين مثل "الثورة التكنولوجية المتصاعدة" و"إعداد الأطفال للتكنولوجيا العالية والمستقبل العالمي" قد بدأت تظهر في المجلات العلمية منذ عام 1985. بالطبع، ليس ثمّة ما هو جديد في هذه النزعة المستقبليّة Futurism الأميركيّة، لكنّ الجديد أنّ هذه النزعة قد باتت مقترنةً اليوم بنزعة نحو العالم الافتراضيّ Virtualism، في رؤية للمستقبل تدفعنا نحو ترك الواقع المادّي والانزلاق إلى واقع اقتصادي معلوماتي صرف. منذ خمسين سنة قيل لنا إننا متّجهون نحو "اقتصاد ما بعد صناعي". صحيحٌ أنّ الوظائف الصناعيّة قد غادرت شواطئنا مع الأسف، إلا أنّ المهن اليدويّة لم تفعل. فإذا كنت ترغب في إصلاح سيّارتك أو تنجيد سطح قاربك، فإنّ الصينيين لن يسعفوك، ببساطة لأنهم في الصين. في الواقع، تتوارد التقارير عن نقص الأيدي العاملة في قطاعات الإنشاء والتصليح اليدوي. كما أنّ كلّ الحرف والصناعات باتت اليوم في نظر طبقة "الخبراء" وظائف تنتمي إلى الطبقات العمّالية Blue-collar.

مع ذلك، طرحت صحيفة Wall Street Journal مؤخّراً تساؤلاً عمّا إذا كان "العمل [اليدوي] الماهر قد أصبح اليوم إحدى الطرق القليلة المضمونة لحياة كريمة وجيّدة". أصبح هذا التساؤل مشروعاً ومقبولاً عند الكثيرين بعد أن بيّن كتاب "المليونير في البيت المجاور"، الأكثر مبيعاً، أنّ الشكل الأكثر شيوعاً من "المليونيريّة" هو في الواقع شخص يقود سيارته "البيك أب"، حاملاً معه مصنوعاته وعدّته.

على أنّ ما يهمّني في الحقيقة ليس الأفضليّة الاقتصاديّة للعمل اليدوي الماهر، وإنّما ما يُدرّه على المرء من رضا داخليّ. ولم أورد هذه الحقائق الاقتصاديّة إلا لأُثير بعض الشكّ، وأُخلخل التحامل الشائع ضدّ هذا النوع من الأعمال بوصفها أعمالاً لا تصلح كوسيلة للرزق.

البُعد النفسي للعمل اليدوي

بدأتُ العمل مساعداً لكهربائيّ في سنّ الرابعة عشر، ثمّ افتتحت مشروعاً صغيراً في نفس المجال بعد تخرّجي من الكليّة في سانتا باربارا. خلال سنوات العمل تلك، لطالما غمرني شعور البهجة حينما أنتهي من إصلاح الأعطال، ثمّ أضغط الزرّ، "فكان نور"1. كان في ذلك تجربة عميقة بالفعاليّة والجدارة والقدرة. كانت نتائج عملي ظاهرة للجميع، ثمّ إنّ مهارتي وجدارتي كانت واقعاً لا شكّ فيه للآخرين أيضاً؛ أي، كان لها رصيد اجتماعي. إنّ ما يشعر به صاحب العمل من فخر مُستحقّ يفوق بأضعاف ما يُمكن لمعلّمي المدارس أن يغرسوه في تلاميذهم من "ثقة في النفس"، ظانّين بأنّ هذه الثقة ستولد من تلقاء نفسها بمفعولٍ سحريّ!

كثيراً ما كنت أقف مفتوناً حين أرى في محلّ تجاريّ عشرات الأسلاك التي تتداخل ثمّ تتفرّق في منحنيات مدروسة معقّدة حتى تتصل كلّها في لوحة كهربائيّة كبيرة واحدة. كانت هذه المهارة تفوق قدراتي آنذاك، وكنت أشعر كما لو أنني في حضرة عبقريّ ما؛ وليس عندي شكّ في أنّ الرجل الذي صمّم هذه اللوحة وتوصيلاتها كان يتخيّل اللحظة التي سيأتي فيها من يُقدّر عمله. ومع أنّ عملي كهربائيّاً في المنازل كان يعني أنّ معظم عملي مُخبّأ خلف الجدران، إلا أنني كنت أشعر بالفخر حين أُنجز عملي على نحوٍ متقن. وحتى عندما لا يتمكّن المرء من إنجاز عمله على أفضل وجه، فإنّ في داخله حسّاً من المسؤوليّة يدعوه أن يكون شخصاً أفضل. بل وربّما يستيقظ حسّ المسؤوليّة تجاه "الشيء" في حدّ ذاته (ذلك أنّ الحرفة اليدويّة قد تكون في عمقها هي الرغبة في أن ننجز شيئاً على الوجه الأمثل، من أجله هو ذاته، دون رغبة متعدّية إلى ما وراءه). وإذا كان هذا الشعور العميق بالرضا شعوراً شخصياً وداخليّاً بالأساس، فإنّ هذا النوع من الأعمال يستبطن، بلا شكّ، نوعاً من "الإفصاح عن الذات" أيضاً.

كتب ألكسندر كوجيف Alexandre Kojève:

"إنّ من يعمل، يُدرك ما يُنتجه ضمن عالمٍ قد خضع للتحوّل بواسطة عمله: إنّه يدرك نفسه فيه، ويرى حقيقتَه الإنسانيّة ماثلةً في العالم. وفي عمله يكتشف ويكشف للآخرين الواقعَ الموضوعي لوجوده الإنسانيّ وللفكرة المجرّدة الأصلية والذاتيّة الخالصة التي يملكها عن نفسه".

من المعروف والمُشاهَد بأنّ الشعور بالرضا الذي يشعر به الإنسان، عندما يُظهر نفسه من خلال مهارته اليدوية على نحوٍ محسوس وصلب في العالم، يجعله أكثر هدوءاً وأريحيّة. إذ إنّ عمله يكفيه مؤونة أن يثرثر عن نفسه بُغية تأكيد جدارته. يكفيه أن يُشير إلى ما صنعه: ها هو البناء شاخصاً، ها هي السيارة تعمل، ها هو النور قد أضاء. إنّ التفاخر فعلٌ صبيانيٌّ، لا يُكثر منه إلا من لا يملكون أثراً فعليّاً في الواقع. أما جدارة العمل الحرفيّ فمسألة لا تحتاج إلى برهان، كما أنّ الفشل والتقصير فيها ظاهران للعيان.

لو سألتَ أحدَ الهواة، سَيُخبرك بأنّ صناعة الإنسان لأثاث بيته ليست مسألةً مجديةً اقتصاديّاً، لكنّ ذلك لا يمنعه من المواصلة. إنّ ذكرياتنا عالقة في شقوق التذكارات الماديّة التي مررنا بها؛ وعندما نصنع شيئاً فإننا نتواصل بعمق من خلاله مع الآخرين ومع المستقبل. أذكرُ أنني وجدت سعةً في وقتي في نهاية صيفٍ قضيته في بيركلي، فقمت بصناعة طاولة قهوة من خشب الماهوجاني، ولم آلُ جهداً في العمل عليها. في ذلك الوقت، لم يكن لدي أطفال، ولم أكن أتوقّع أن أصبح أباً عن قريب، لكنني وجدت نفسي أتخيّل أنّ طفلي سيكوّن انطباعات عميقة عن تلك الطاولة لأنّه يعرف أنّها من صنع أبيه. لقد تخيّلت طاولتي وهي تتعتّق في حياة مستقبليّة، بحيث تغدو عيوب التنفيذ والخدوش والبقع التي ستتراكم على سطحها ملاذات للذاكرة ونتوءات تتعلّق بها العواطفُ يوماً بعد يوم. لعلّ الأهمّ من ذلك أنّ استعمالنا المستمرّ لأدواتٍ من صنعنا "يجعل العالم، وأعرافه وعاداته التي يفرضها على التواصل بين البشر وبين الأشياء، وبين البشر والبشر، مألوفاً لنا"، كما تقول حنة آرندت، ذلك "أنّ واقعيّة العالم الإنساني وشعورنا بموثوقيّته تقوم بالدرجة الأساس على حقيقة أننا محاطون بأشياء أكثر دواميّةً من دوام النشاط الذي أنتجها، بل وربّما تكون أبقى من حياة مؤلّفيها وصانعيها".

ولما كان العمل الحرفيّ يفترض وجود معايير موضوعيّة لا تنبع من الذات ورغباتها، فإنّه يتحدّى أخلاق الاستهلاك، وفقاً لما يُحاجج به عالم الاجتماع ريتشارد سينيت Richard Sennett. فالحرفيّ فخور بما يصنع، يتعلّق به كشيء ثمين، أما المستهلك فإنّه قد يتخلّى عن أشياء لا تزال صالحة في سعيه الدائم نحو الجديد. إنّ الحرفيّ أكثر تملّكيّة، وأكثر ارتباطاً بما هو حاضرٌ بين يديه، لأنّه يُمثّل تجسيداً لعمله في الماضي. أما المستهلك فأكثر تحرّراً وخفّة وخياليّةً، ومن ثمّ فإنّه أكثر جرأة في الشراء، في نظرِ من يبيعوننا الأشياء. حين يكون المرء على علاقة مادّية بالسلع، فإنّه يكون أكثر نقدية، وهو ما يمنحه شيئاً من الحصانة في وجه ألاعيب السوق، التي تحاول أن تصرف انتباهنا عن ماهيّة "الشيء" لتجعلنا نركّز على القصّة الخلفية المرتبطة به، وهو ما يُضخّم الفروقات بين العلامات التجارية المختلفة. أما حين نكون على دراية بكيفيّة إنتاج المنتج، أو على الأقل حين نكون قادرين على تخيّل عمليّة صناعته، فإنّ ذلك يجعل الإعلانات التجاريّة أقلّ تأثيراً علينا. من هذه الناحية، فإنّ حياة رجل الصناعة والحرفة أفقر في خيالها من حياة المستهلك النموذجي؛ إنّه أكثر عمليّة ونفعيّة وأقلّ انجذاباً إلى الآمال المحلّقة، لكنّه في الوقت نفسه أكثر استقلالية.

لطالما شكّك المنظّرون السياسيّون، من أرسطو إلى توماس جيفرسون في مدى أهليّة طبقة الصنّاع لتحقيق فضائل الجمهوريّة، ذلك أنّهم عدّوهم ذوي اهتمامات محدّدة تضيق عن الاهتمام بالصالح العام. على أنّ هذا الرأي كان وجيهاً قبل أن تبلغ وسائل التواصل الجماهيري ذروتها وقبل أن تستشري حالة التماثل بين أفراد المجموع، وهي تطوّرات أدّت إلى ظهور مشكلات جديدة في وجه فضائل الجمهوريّة: تبلّد القدرة على الحكم وتآكل الروح المستقلّة. ولأنّ معايير العمل الحرفيّ تنبع من قانون الأشياء، لا من فنّ الإقناع، فإنّ ممارسة العمل اليدوي قد تمنح المرء تكويناً نفسيّاً يؤهّله لمواجهة الآمال الفنتازيّة التي يبثّها محرّضو الغوغاء Demagogues، سواء كانوا من رجال الأعمال أو السياسة. ذلك أنّ نهج الحِرفيّ لا يحثّه على تبجيل الجديد، بل يعلّمه بالدرجة الأولى التمييز بين الطريقة الصحيحة والطريقة الخاطئة، وهو موقف بات يندر في مؤسسات الرأسمالية الحديثة فائقة التطوّر وفي النظام التعليمي الذي يسعى لتلبية احتياجاتها.

في مدارسنا اليوم، لم يعد العمل اليدوي يحظى بأيّ احترام. ويبدو أنّ هاجس التحاق الطلاب بالكليات أو بالتعليم المهني يصاحبُه هاجس آخر: الخوف من أنّ تعلّم المرء لمهارة معيّنة يعني تحديد مسار حياته سلفاً. في الكليّات، لا يتعلّم الطلاب أيّ شيء ذا تطبيق عمليّ مباشر؛ فالكليّة بمثابة تذكرة لمستقبل مفتوح. إنّ العمل الحِرفي واليدوي يعني أن يتعلّم المرء شيئاً واحداً ويتقنه، في حين أنّ مبدأ الاقتصاد الجديد هو أن يظلّ المرء قادراً على تعلّم أشياء جديدة شتّى، أي أن يمتلك الإمكان لتعلّمها لا أن يتعلّمها بالفعل. وبطريقةٍ ما، بات على كلّ عامل في أيّ ميدان من ميادين العمل المتطوّر والحديث أن يتصرّف وكأنّه رائد أعمال Entrepreneur، أي أن يحاول باستمرار أن يُعيد تعريف عمله. وهنا يُمثّل العمل الحرفيّ نوعاً من الثبات الذي يقف في وجه ما يعتبره ريتشارد سينيت "العنصر المحوري في تصوّر الاقتصاد الحديث عن الشخص المثالي: أن يكون قادراً على الخضوع، وأن يتخلّى عن تملّكه لأيّ واقعٍ أكيد وراسخ". لا شكّ أنّ مثل هذا الموقف من "الواقع الأكيد والراسخ" -والذي يصحّ وصفه بأنّه مخدّر هلوسي- لا يصلح لشخصٍ يعمل بالقرب من طاولة المناشير الآلية. إنّه موقف غير قانعٍ بما أسمته آرندت "واقعيّة العالم وموثوقيّته".

يُحاجج سينيت ضدّ هذه الصورة عن الشخص المثالي -التي لا تناسب إلا طينة مخصوصة من الأفراد- بأنّ معظم الأشخاص يفتخرون بإتقانهم لعملٍ محدّد، يتراكم كلّما طالت خبرتهم فيه. غير أنّ جيل المدراء الثوريين اليوم يحاولون فرض هذا الموقف المتذبذب على العمّال من الأعلى، ويرون بأنّ من الضروريّ تخليص القوّة العاملة من بقايا أخلاقيات العمل الحرفيّ. إنّ العمل الحرفيّ يعني بالأساس الإخلاص لمهمّة واحدة لوقتٍ طويل والتعمّق فيها بهدف إتقانها وإنجازها على أكمل وجه، ولكنّ ذلك يُصنّف في قاموس الإدارة المعاصرة باعتباره نمواً في نفس الموضع Ingrown. إنّ النموذج المُفضّل اليوم في عالم الأعمال هو نموذج المستشار الإداري، الذي يتسلّل داخلاً وخارجاً، وربّما يفتخر كلّما قلّت خبرته العملية. ومثل حال المستهلك النموذجيّ، فإنّ المستشار الإداريّ يُمثّل صورة الحريّة المحلّقة، التي تبدو الحرف اليدويّة في ضوئها ضيّقة الأفق إلى حدّ خانق.

القيمة المعرفية/الإدراكية للعمل اليدوي

يتطلّب العمل اليدويّ اتصالاً مباشراً ومنظّماً بالعالم الماديّ، وهذا النوع من الاتصال هو ما أنتج العلوم الطبيعيّة في السابق. منذ القديم، كانت المعرفة الحِرفيّة تنطوي على معرفة الصانع بأساليب وطرائق الموادّ التي يستعملها (أي معرفة بطبائع الموادّ، يتمّ تحصيلها من خلال الملاحظة المتواصلة ومن خلال مقاربة المشكلات المختلفة). في واقع الأمر، كان الفهم العلميّ خطوة تالية تتأتّى بعد حصول التطويرات التقنيّة في مجالات الحرف المتطوّرة، لا العكس. ولعلّ المحرّك البخاريّ مثالٌ جيّد على ذلك. فقد تطوّر المحرّك البخاري على أيدي ميكانيكيين دأبوا على ملاحظة العلاقات بين الحجم والضغط والحرارة، في الوقت الذي كان العلماء النظريّون لا يزالون عالقين في نظرية الكالوريك2، وهي نظريّة ثبت لاحقاً أنّها عقيمة. أسهم نجاح المحرّك البخاريّ لاحقاً في تطوّر ما بات اليوم الديناميكا الحرارية الكلاسيكية. إنّ هذا المثال التاريخي يؤكّد نقطة سبَقَ لأرسطو إيضاحها:

"إنّ افتقارنا للتجارب يضعف من قدرتنا على الإدراك الشامل للحقائق المُسلّم بها. لذلك فإنّك تجد بأنّ من يحافظون على علاقة وثيقة وقريبة من الطبيعة وظواهرها أقدرُ على وضع مبادئ من شأنها أن تُراعي التطوّرات الكثيرة والمترابطة؛ أما الذين باتت الحقائق عندهم، بسبب انكبابهم على النقاشات التجريدية، حقائقَ غير مُلاحظة، فهم أسرع الناس إلى التعصّب على أساس القليل من الملاحظات".

في إحدى أفضل الدراسات التي نُشرت حول التعليم، قدّم عالما الإدراك مايك إيسنبرج وآن نيشيوكا3 دعماً بيداغوجياً قوياً لهذه النقطة. إذ اعتمدت دراستهما على أن يُقدّم برنامج حاسوب إرشادات للطلاب لإنتاج مجسّمات أرخميدس [أشكال متماثلة ثلاثية الأبعاد مكوّنة من أسطح ثنائية الأبعاد] من خلال الأوريغامي (فن طيّ الورق). وكان مما خلصا إليه أنّ البرنامج يُقدّم حلولاً صحيحةً رياضيّاً لصناعة هرم أو شكل ثماني الأوجه من الورق، لكنّها حلول لا تتوافق مع ما يقوم به التلاميذ الذين ألفوا استعمال الورق وأساليب طيّه.

إنّ ما يعنيانه بذلك، فيما أرى، هو أنّ المشكلة الحرفيّة لا يُمكن أن تُختزل إلى مشكلة خوارزمية. أو بالأدق، لا يُمكن تقديم حلّ خوارزميّ لمشكلة حرفيّة من خلال البرمجة المحضة، إذا لم تأخذ باعتبارها القيود المخصوصة التي تطرأ أثناء الممارسة، أي أثناء العمل المتجسّد. وهي قيود لا يُمكن أن يتمّ اشتقاقها نظريّاً أو رياضياً. إنّ لهذه الحقيقة تداعيات مهمّة على نظريّات العقل التي يتناولها الباحثون في قضايا الذكاء الصناعي، خاصّة أولئك المؤمنين بإمكانيّة "حوسبة" الإدراك البشري العملي. إنّ من شأن علماء الإدراك أن يُقرّروا ما إذا كانت هذه الاعتبارات تضع قيوداً نظريّة على إمكانيّة أتمتة العمل أو لا، ولكنني أستطيع الحديث بثقة عن استعصاء بعض أشكال العمل أمام التفكير الخوارزمي المحوسب.

بعد إنهائي الدراسة في شيكاغو، التحقت بإحدى المراكز البحثية الكبرى في العاصمة واشنطن. كرهت ذلك العمل، فتركته وافتتحت ورشة لإصلاح الدراجات النارية في ريتشموند. عندما كنت أعود إلى البيت، كانت زوجتي تشتمّ رائحتي وتحدس قائلة "كاربوريتر" أو "فرامل" بحسب رائحة الموادّ التي كنت أعمل بها. كان عملي يترك أثراً حسّياً يُمكنها من خلاله أن تتخيّل مسارَ يومي. لكن، في حين أن الأوساخ والروائح بادية عليّ حين أعود، فإنّ عاصفة التفكير التي تدور في رأسي حول حلول الأعطال التي أواجهها لم تكن ظاهرة.

كان مايك روس كتب عن ممارسة الجراحة قائلاً إنّ "الثنائيات التي نعرفها عن التقابل بين المجرّد والمحسوس وبين التطبيق التقني والتفكير، تختفي كلّها أثناء الممارسة. فحين يتّخذ الجرّاح قراراً أثناء العمليّة الجراحيّة، فإنّه يُزاوج بين الاعتبارات العمليّة التقنيّة وبين معارفه النظريّة، وفي هذا المزج تكمن قوّته". يصحّ هذا الوصف في حقّ جميع أشكال الحرف اليدويّة، التي تتطلّب نوعاً من تشخيص المشكلات قبل حلّها، بما في ذلك إصلاح الدرّاجات الناريّة. يقف الميكانيكيّ أمام قطار من الأسباب التي يُمكن أن تُفسّر الأعراض الظاهرة، ثمّ يُقارن ويرجّح فيما بينها. تعتمد هذه العمليّة التخيّلية على مخزونه الذهني مما يعرفه عن أنواع المحرّكات ووظائفها وقابليّة كلّ نوعٍ منها، بحسب مُصنّعها، لمجموعة معيّنة من الأعطال. ثمّ إنّه يُطوّر مع الوقت مكتبةً من الأصوات والروائح والأحاسيس؛ فيصبح، على سبيل المثال، قادراً على تمييز صوت الفرقعة الصادر عن البوجيه (شمعة الاحتراق) وصوت الفرقعة الناجم عن الاحتراق المبكّر للوقود. أحياناً، إذا ما كانت الدرّاجة الناريّة قديمة الطراز، وكانت الشركة المصنّعة لها قد خرجت من السوق، فلا يُمكنك أن تُصلّحها وحدك دون أن تستفيد من الذاكرة الجماعيّة والتعاليم الشفهيّة للميكانيكيين الكبار المهووسين بالقطع القديمة؛ عليك في عملٍ من هذا النوع أن تكون متموضعاً ضمن مجتمعٍ من الحرفيين، الذين يتبادلون الخدمات فيما بينهم على طول البلد وعرضها.

يزداد الأمر تعقيداً حين تعمل على محرّك قديم متداعٍ، ويصبح منطق تشخيص محلّ العطب ذا كلفة مادّية. إذ عليك ألا تخاطر بفتح غطاء المحرّك وفكّ البراغي المتآكلة دون أن تكون متيقّناً من موضع العطب. في هكذا حالات، تتحدّد جاذبيّة أي فرضيّة تفكّر فيها باعتبارات مادية لا تتعلّق بمنطق تشخيص المشكلة المعتاد، وإنّما بنوع من الحسّ البراغماتي القوي. لو عدّت إلى كتيب دليل المصنع، فإنّه سيخبرك بأنّ عليك أن تستبعد الاحتمالات بشكل منظّم، ولكنّه لن يأخذ احتماليّة تضرّر المحرّك القديم في الحسبان. عليك إذاً أن تطوّر شجرة قرارك الخاصّة، بتقدير المخاطر المصاحبة لكلّ فرضيّة. عندها، ستعود خطوتين إلى الوراء، وتدخّن سيجارة، وتفكّر في الصورة الكبرى. سيخبرك أيّ ميكانيكيّ جادّ بضرورة أن تأخذ رأي ميكانيكيّ آخر، خاصّة إذا كان لدى من تستشيره ميول ذهنيّة مختلفة عنك. لطالما أذهلتني قدرة زميلي في الورشة تومي أوكن -وهو الذي أنهى دراسته في الفنون البصرية- على رؤية الأشياء التي تغيب عن نظري. إنّ رؤية الأشياء ليست مسألة بسيطة كما كان يظنّ عقلي التجريبيّ. إنّ معرفة مصدر العطب في أيّ دراجة مهما كانت بسيطة، قد يتطلّب في بعض الأحيان رؤية مجموعة كبيرة من العوامل وتحليلها، ثمّ إصدار حكم يتجاوز معطيات التجربة المباشرة؛ إنّ الأمر أقرب إلى الحدس منه إلى اتباع القواعد. إنّ في ورشة إصلاح الدراجات الناريّة قدراً من التفكير يفوق ما في مركز الأبحاث!

الحِرَفيّ بوصفه رواقيّاً

إنّ التنافر الأساسي الذي يحكم الحياة الاقتصادية هو التالي: العمل شاقّ، ودائماً ما يخدم مصلحة شخصٍ آخر، ولأجل ذلك تتقاضى أجرك. إذا فهمنا ذلك، فإنّ بإمكاننا طرح السؤال الصحيح: ما الذي نريده حقّاً لشابّ يافع حين نُعطيه نصيحة حول مستقبله المهنيّ؟ إنّ أيّ جواب لائق لا بدّ أن يتجنّب الطوباوية وأن يركّز على الصالح الإنساني: عملٌ يُشرك أكبر قدر ممكن من القدرات الإنسانية. ما حاولتُ قوله في هذه المادّة هو أنّ الجواب الإنسانيّ والمتوافق مع الحسّ السليم يسير في الاتجاه المعاكس من النزوع الرأسمالي الحثيث نحو فصل التفكير عن العمل.

صحيحٌ أنّ العمل اليدويّ خضعَ إلى قدرٍ من التنميط والروتين في القرن الماضي، لكنّ بعض هوامشه لا تزال توفّر فرصة للتطوير، ولا تزال قادرةً على مقاومة الروتين. إنّ عملاً من هذا النوع يُشعر المرء بأنّه إنسان، لا أنّه ترسٌ في آلة. إنّ الحرفة اليدويّة اختيارٌ ممتاز لمن يُريد أن يحيا بكلّ طاقاته، متحرّراً من التجريدات الميّتة ومن الآمال الخبيثة التي تستوطن حياتنا الاقتصادية المعاصرة. وهذا بالضبط هو النموذج الرواقيّ.

ما الذي ينبغي عمله؟ إنني لا أقدّم برنامجاً، إنّما مجرّد ملاحظة يُمكن أن تُفيد من تقع على عاتقهم مهمة إرشاد النشء وتوجيههم. وإذا كان لي أن أوجه نصيحة لهم فستكون: في كلّ الأحوال، اذهب إلى الكلّية. لكن تعامل مع الجامعة بروح الحرفة، تعمّق في الفنون والعلوم. في الصيف، تعلّم حرفة يدوية. سيكون في ذلك صيانة لك من الفساد، وستتقاضى أجراً جيّداً، وإذا انتهى بك الأمر كصاحب صنعةٍ مستقلّة فذلك أفضل من العمل في واحدة من المكاتب المتراصّة على تجهيز مناقصات أنظمة المعلومات. لكنّ قبولك هذه النصيحة يتطلّب منك أولاً أن ترفض فكرة أنّ مسار حياتك مُحدّد سلفاً على نحوٍ إلزاميّ وحتميّ.

 

  1. الإشارة هنا إلى عبارة الكتاب المقّدس في سفر التكوين: "وقال الله ليكن نور، فكان نوراً"،(م).
  2. نظرية الكالوريك أو السيال الحراري كانت تقوم على الاعتقاد بأنّ "الحرارة" عبارة عن سائل أو غاز (هو الكالوريك) ينتقل من الأجسام الساخنة إلى الباردة وينفذ عبر مسامها. سادت هذه النظرية منذ نهاية القرن الثامن عشر، بعد أن حلّت محلّ نظرية الفلوجستين، وانتهت مع تطوّر الديناميكا الحرارية في منتصف القرن التاسع عشر(م).
  3. Mike Eisenberg and Ann Nishioka Eisenberg, “Shop Class for the Next Millennium: Education Through Computer-Enriched Handicrafts,” in the Journal of Interactive Media in Education