30 أكتوبر 2020

بيع الذات في سوق "اللايكات".. عن مؤثّري الـ"سوشال ميديا"

بيع الذات في سوق "اللايكات".. عن مؤثّري الـ"سوشال ميديا"

هذا زمنٌ مفعمٌ بالتفاهة. هذا ما أقولُه. فإن كنتَ توافقني، أكمل المقال، لتجدَ طرفاً من تحليل مظاهر تفاهته. وإنْ خالفتني، قلت لك انظر في صناديق الدنيا (يوتيوب، انستغرام، تويتر، سناب شات، تيك توك)، وقل لي ما أكثر الحسابات متابعة ومشاهدة، ثم تعال وأكمل المقال. 

قديماً، إذا "تابعك" جماعةٌ من الناس، فأنتَ إمام، فإنْ زادوا وصاروا بالمئات، فأنت قائد جيش، فإذا بلغوا الآلاف، فأنت والٍ على إقليم، فإذا بلغوا الملايين، فالسلام على أمير المؤمنين، فقد أصبحت خليفةً للمسلمين. واليوم إذا تابعك مثلهم فأنتَ مؤثر "Influencer".

مريبٌ هذا الوصف المحايد: "مؤثِّر"، ويبدو غريباً عن المجتمع والاشتباك مع قضاياه والتفاعل مع أهله. فالمجتمع يعرف التأثير الإيجابيّ الذي يُحدِث نفعاً وصلاحاً، فيسمّون فاعله "قدوةَ خير، ورفيقاً صالحاً" ويعرفون نقيضه فيسمّونه "قدوة شرٍّ، ورفيق سوء". 

يدلّنا معجم أوكسفورد على المجال القادم منه هذا الوصف، حيث يقول: "المؤثر: هو الشخص الذي يمتلك القدرة على التأثير في قرار المستهلك المُحتمَل، لشراء سلعة أو خدمة، عن طريق مواقع التواصل الاجتماعيّ". 

وإذن، المؤثر مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بصناعة المال، وهو قناة يحقق من خلالها أصحابُ المال أهدافَهم بالوصول إلى جيب المستهلك. بيْد أنّ بيئة مواقع التواصل الاجتماعيّ أكثر تعقيداً، فهي لا تعرض حقيقة الأمر بصورة مباشرة، وإنما تمزجها بأنماط من المحتوى المتنوّع، فيكون المؤثّر رجلَ دين، أو فناناً، أو كاتباً أو شاباً وفتاةً يأكلان من شبابهما وجمالهما. ويرتبط كلّ هؤلاء بالسوق كارتباط سحابة هارون الرشيد  ببيت ماله.1اتسعت رقعة الخلافة الإسلامية في عصر هارون الرشيد، وكانت الأموال تُحمل من كلّ الأقاليم إلى بيت المال، فينظر الخليفة إلى السحاب في السماء، مخاطباً إياها: "اذهبي إلى حيثُ شئت؛ خراجُك يأتيني بإذن الله."

ولهذا الارتباط بالسوق أثرٌ في صنع التفاهة، لأنّ أخلاق السوق وقوانينه القائمة على الربح وشهوة التكثّر لا تكاد تدخل في شيءٍ إلا وأفسدته، ولهذا كانت الأسواق أبغض الأماكن إلى الله، كما في صحيح مسلم. ونحن نحاول في هذا المقال قراءة هذه الظاهرة وتجلية نقاط التباسها بمفاهيم السوق، ومآلات ذلك في تشويهها لنفوس المؤثرين، وتعميم التفاهة على المجتمع.

قل لي كم لايك.. أقل لك "كم" أنت!

لنبدأ بمبدأ الكثرة، أيْ أبرز معالم السوق، فأهميّة التاجر في السوق تعود إلى وفرة ما لديه من المال، وكذلك المؤثّر؛ كلما زاد عدد متابعيه زادت أهميته واتسعت دائرة تأثيره. وهنا تصبح الكثرة فضيلةً في حدّ ذاتها، بصرف النظر عن العمل الذي يقوم به المؤثِّر. فرأي المؤثر، الذي يتابعه عشرات الملايين، أكثر أهميةً وتأثيراً من رأي مختصٍّ يتابعه بِضع مئات، فالخبرة والمعرفة وهما القيمتان المعتبرتان في صناعة الرأي في الواقع، تتلاشيان أمام "الكثرة" في مواقع التواصل الاجتماعي.

وبينما تعبّر السلعة عن رأس مال التجار، فإنّ سلعة المؤثر في السوق هي ذاتُه. ولذلك يُجري عليها ما يجريه التاجر على بضائعه، فيلزمه تجديدها بين وقتٍ وآخر، مع وضع الاعتبار أنّ التجديد هنا ليس حركةً باتجاه الأفضل، كما يوحي اللفظ في استعماله في بيئة طبيعية. وإنما التجديد هو غايةٌ في حدّ ذاته لمواكبة حركة المجتمع والشريحة المتلقية. وهنا يتساوى لدى تلك الذات الترقي والتردّي، فالغاية هي المواكبة وليس توجيه المجتمع مثلاً. ولذلك تكون الفضائح الأخلاقية، وممارسة الأفعال الغريبة على المجتمع تحقيقاً لمفهوم التجديد.

اقرأ/ي أيضاً: "عزاءات الفلسفة".. وهم جديد بقالب التنمية البشريّة

ينشغل المؤثِّر بذاته/سلعته، وتسعفه الأضواء الموجّهة (بقوة اللايكات) في رؤية نفسه على ما يحبّ، فتتضخمُ "أناه". ويصبح عصيّاً على التغيير، فالناصح له مساوٍ عنده للناقم، كلاهما يريد أن يظهر له جانباً من عيوبه. وتزوّده منصات التواصل بأدواتٍ لقمع الآراء المخالفة، فيصبح بمقدوره أن يحجب كلّ صوتٍ لا يطربه بكبسةِ (بلوك).

ويلحُّ منطق العرض والطلب على المؤثّر ويزيّن له المشاركة في كلِّ موجة تواصل، حتى تستولي على المؤثّر شهوة الكلام، فيصبح "مختصاً" في كلّ قضية يتداولها الجمهور. ويكثر خطؤه، ولكن أخطاء المؤثرين لا تنتهي باعتذار، فسلطة الجمهور وفتنتهم حاضرة. يتحوّل الخطأ إلى "وجهة نظر" بسلطان الكثرة.

إنه مجالٌ محشوٌ بالزيف. فـــ"الصَنْعَةُ" تقف خلفَ كل منشورٍ يصدره المؤثِّر. ولذلك تفقدُ كثير من الشخصيات المؤثرة ألَقَها وبريقها في الحياة العادية، أو في برامج "تلفزيون الواقع" لعدم توفّر عامل "الصنعة" فيظهر المؤثر بمواهبه الحقيقية، وهذا محبط لجمهوره العريض الذي تعوّد أن يراه كما أراد المؤثر أن يُرى. وعندها يسود شعورُ الانخداع لدى الجمهور، فيعبر عن نقمته.

الجيوب بعين الاعتبار

ولهذا كان حضور "المؤثِّر" في حياتنا اليوم اغتيالاً لمفهوم القدوة. فللبشرِ ميلٌ إلى رؤية مبادئهم وقيمهم مجسّدة، وهذا الميلُ يوجبُ انجذاباً للاقتداء والتقليد، وقد كانت القدوات تُصنع في المجتمع على أساس طول المخالطة الحياتية والاستقامة وحسن السيرة، ثم جاء المؤثرون فقفزوا على ذلك كله، وتصدّروا لتمثيل دور القدوات. ولكن هذا التصدّر "المصنوع" لا يلبث أن تذيبه مصالحُ الربح، وتعرّيه أخلاقُ التاجر. وقد كان أبو حيان التوحيدي2فيلسوف متصوف وأديب، من أعلام القرن الرابع الهجري. يقول: "أما التجّار فكسبُ الدرهم والدينار سدَّ بينهم وبين كلِّ مروءة".

اقرأ/ي أيضاً: الزبون والبائع.. عن الكتب الأكثر مبيعاً

يصعبُ على المؤثِّر الاستمرار بدور القدوة، لأنها تقتضي منه نوعاً من الانحياز الكامل للأخلاق والمبادئ، وهذا الانحياز الأخلاقي يولّدُ مواقفَ واضحةً في كثير من القضايا التي تغصّ بها مواقع التواصل. والمؤثِّر بطبيعته صاحب "مصلحة" لا يمكن أن يرفع صوته في وجه "الزبون". فيكتفي المؤثّر بالوقوف في المساحات الرماديّة المريحة. يقول: "أنا مع العدالة!" لكن لا تطلب مني أن أطالب "بحقوق البدون في الخليج!"، وأنا مع السلام "لكن قضايا اللاجئين معقّدة"، "وأنا مع الحريّات! لكن ملف معتقلي الرأي ليس واضحاً لديّ!" وهكذا. يبقى المؤثِّر يخاتل جمهوره، لأنه لا يريد أن "يزعّل حدا". لا يحبُّ أن يغضب منه الجمهور، لأنهم زبائن مُحتَملون، ولا الأنظمة لأنهم زبائن "دفّيعة". 

وهذا يفسّر لنا محبة المؤثرين لحكومة قمعيّة وبوليسيّة مثل حكومة الإمارات، إذ نجحت الحكومة (بسبب ثرائها) في تسخير قطاع كبير من المؤثرين لخدمتها وترويج نمط حياتها الباذخ، بل وشكّلت لعملهم هيئة خاصة تتواصل معهم، اسمها "مجلس القوة الناعمة لدولة الإمارات العربية المتحدة"، والذي "يهدف لتعزيز سمعة الدولة إقليمياً وعالميّاً وترسيخ احترامها ومحبتها بين شعوب العالم".

السّوق مع كل منشور

وقد ساهم المؤثرون في نشر ثقافة الاستهلاك بطريقة لم يسبق لها مثيلٌ في التاريخ البشري، فمن خلال حساباتهم، أصبحت الطبقة الوسطى والدنيا في المجتمع تعيش مع الأغنياء حياتهم الفارهة عبر الشاشة، حتى تولّد عند متابعيهم انفصالٌ بين أحلامهم وواقعهم. وتحوّل هذا الانفصال إلى نمطٍ قريب من الحقد الطبقي يتمنى فيه المتابع حياة شبيهة بذلك المؤثر.  في دراسة أجريت في كوريا، وُجِدَ أنّ غالبيّة الفتيات اللاتي خضعن للدراسة "يحسدن" نجمات مواقع التواصل الاجتماعي على نمط حياتهن الباذخ.

اقرأ/ي أيضاً: "ناس ديلي".. دُمية جديدة لتلميع "إسرائيل"

كما تتجلى مفاهيم السوق لدى المؤثرين في ظاهرة ملازمة لهم، وهي السطحيّة. لأن منتجهم لا يستمد قيمته من محتواه، وإنما من انتشاره. فمفهوم الكثّرة أحد محددات هذا المجال كما ذكرنا. فيظل المؤثّر مرتهناً لما يروج، وليس لما ينفع. كما أنه يضطر للمشاركة في كل "تقليعة" أو "تحدٍ" ليواصل حضوره في الساحة، وهذه الظاهرة على تفاهتها مفهوم سوقيٌّ بحت، حيث يجعل المؤثر من نفسه متلقٍ لطلبات الوسط التواصليّ، وليعرض عليهم ما يريدونه.

للاستماع إلى المزيد من المقالات، يمكنكم الاشتراك في خدمة «صفحات صوت» إما من خلال الموقع أو تطبيق آبل بودكاست.

إنّ هذه السطحيّة لا تتخلف عنهم حتى في تناولهم للقضايا الكبرى والمسائل المصيرية، فتعاطيهم مع القضايا الكبرى تقوم على تسجيل الموقف اللحظي (بوست، صورة في مظاهرة، فيديو ترويجي)، وليس على النضال وتسخير الوقت والجهد والمعايشة لتلك القضايا على المدى الطويل. وعليه، فمعرفتهم بتلك القضايا  تكون سطحيّةً بقدر تعاطيهم معها، وربما تطغى شخصيتهم، التي هم أكثر ملابسة لها ولتلميعها من ملابستهم للقضية، فتسحرهم فكرة حلول القضية في ذات المؤثر، وتصبح الإساءة لأشخاصهم جناية على القضية التي يناصرونها.

في الختام، قد لا يكون المؤثرون بشراً سيئين بالضرورة، وليس ثمة حتميّة للتفاهة تصيب المتصدرين في مواقع التواصل، بيد أنَّ آليات نظام السوق والثقافة الاستهلاكيّة التي تحكم هذه المواقع، وسهولة الوصول إليها (garbage in garbage out)3مفهوم في علم الحاسوب، يشيرُ إلى أنَّ المُدخلات غير المنطقيَّة، ينتج عنها بالضرورة مُخرجات مثلها، أقرب للهُراء.، وواقعها البائس، تغلّب من  تحويل مرتاديها إلى خطباء على منابر نشر التفاهة.