أطلق الاستشراق في غمار بحثه الجاد أحكاماً وصوراً نمطيّة وقحة عن "الشرق"، إلا أنه قدّم درساً مذهلاً في البحث الأكاديمي وتقفّي آثار الوقائع والأحداث والشخصيات. ينطبق هذا على كتاب "الاستعمار البريطاني وإجهاض الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936-1939" (2021) للمؤرخ البريطاني ماثيو هيوز.1صدر الكتاب عن جامعة كامبردج عام 2019، وبالعربية عام 2021 عن مركز دراسات الوحدة العربية، بترجمة ممتازة وذكية لمصعب بشير. يُسهب الكتاب في تِبيان الآليات والأساليب الممنهجة والوحشية التي مارستها بريطانيا على أجدادنا، لإجهاض ثورتهم التي اندلعت عام 1936 إثر تزايد الهجرات اليهودية الاستيطانية إلى فلسطين، إذ بلغ عددهم في العام السابق للثورة 62 ألف مهاجر يهودي، من بينهم كبار الرأسماليين والبرجوازيين الذين بلغت تحويلات رؤوس أموالهم المسخّرة لتوسعة نطاق الاستيطان 15 مليون جنيه. 2ماهر شريف وعصام نصار، تاريخ الفلسطينيين وحركتهم الوطنية (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018) ص 110.
حلّل هيوز الثورة مرتكزاً على أدواتٍ ماركسيّة، باعتبارها ثورة الفلاحين في فلسطين على المشروع اليهودي والاستعمار البريطاني والبرجوازية الفلسطينية، ويمكن القول إنه كان ناقداً صارماً للسياسيين الفلسطينيين المدنيين. غير أنّ الكتاب تشوبه توصيفات وأحكام غير عادلة، أطلقها كاتبه على الهوية الفلسطينية والفلسطينيين، تفككهم من موقعه كمستشرق، مقارناً ثورتهم بثوراتٍ مختلفة بكل المعايير والسياقات الزمنية والمكانية.
وممّا تجدر الإشارة إليه، وهو ممّا يشاع في الأوساط الأكاديمية العربية، أن مرحلة الاستعمار البريطاني على فلسطين كانت هي المدرسة التي علّمت اليهود الصهاينة معنى بناء الدولة، حيث توزّعوا داخل بيروقراطية الاستعمار ومؤسساته التعليمية والصحية والمالية والعسكرية، مراكمين الخبرات اللازمة لبناء دولة مؤسسات حديثة. ولأن صانع هذه الدولة الاستيطانية هو الجيش، كان الاستقاء من التجربة والخبرة العسكرية والأمنية للبريطانيين مهمّاً جداً، فدُرّست لقادة عصابات الهاغانا والبلماخ، وطبّقوا ما تعلّموه على الفلسطينيين. من هنا، فإنّ معرفة الآليات التي استخدمها البريطانيون في قمع الثوّار الفلسطينيين وإجهاض ثورتهم، تساعد في فهم الآليات التي يستخدمها الإسرائيليون اليوم.
استعمار على نفقتنا الخاصّة!
ليس بالضرورة أن تكون ثورياً لينزل بك المُستعمِر أشد أصناف العقاب، هذا ما يمكن إدراكه من الفاجعة التي حدثت في ساعات الصباح الأولى في قرية عين الزيتون، حين فرض فوج الرماة "ألتسر" الملكي طوقاً على القرية، وأخرج كلّ من فيها، مع بدء عملية تفتيش دقيقة لكل تفصيلة في القرية، انتهت بترحيل 50 رجلاً منها إلى قرية المالكية على الحدود اللبنانية، رغم عدم وجود ما يثير "الشبهة" أمنياً في القرية أو محيطها.
يتخذ العنف أشكالاً أخرى عند مقاومة الثوار، مثلاً؛ حين وضع الثوار في قرية البصة لغماً أوقع أربعة قتلى في صفوف فوج الرماة ألتسر، قتل الجيش ثلاثة فلسطينيين مبدئياً، ثم صوّب فوهات بنادقه على السكان عشوائيا وأوقع عدداً من الشهداء، ثم فتّش الأهالي تفتيشاً لم يخلُ من التعذيب والإهانة، بل ومن سرقة الممتلكات من مجوهرات وأموال، فسُجّل أن سرق جنود بريطان ساعات بقيمة 12 و18 جنيه فلسطيني، وكذلك سجّاد منازل.3المصدر السابق. 297-298.
.
اقرؤوا المزيد: العَمارة في مقاومة الاستعمار البريطاني
إضافة إلى السرقة وسحب المواشي وحصد المحاصيل الزراعية كلياً من عشرات القرى تدفيعاً لأهلها ثمن دعمهم للثورة والثوار، وظّفت القوات البريطانية الغرامات المالية واحدة من أبرز آليّات وأد الثورة، ففي اللد غُرّم الأهالي بـ 5 آلاف جنيه فلسطيني لإخراجهم قطاراً عن سكته، وفي قرية المجيدل قرب الناصرة فرضت غرامة بـ 10 جنيهات لسرقة إسمنت لليهود عام 1937، و275 جنيها لحرقهم مطحنة، و100 جنيه لإشعالهم النار بأحراش سيطر عليها اليهود، أما قرية الطيبة بقضاء بيسان فقد غُرّم أهلها 25 كيساً من القمح في تموز 1936 لقطعهم أسلاك الهاتف، في حين دفعت قرية سمخ 300 جنيه لقوات الأمن البريطاني لقاء حرق مطحنة قمح يهودية، وغير تلك الحوادث العشرات.4المصدر السابق، 306-309.
زد على ذلك إجبار بريطانيا الفلسطينيين على إطعام معذّبيهم وبناء ودفع ثمن مراكز تعذيبهم بأنفسهم، إذ تحمّل أهالي القرى نفقات مخافر البوليس والقوات المقيمة عندهم، بل إنّ ضابط البوليس جاك بينسلي وأحد ضباط البوليس الفلسطينيين كانا يطالبان كل قرية بـ"وليمة" لما عرف عن الفلاحين من كرم، فيقول بينسلي: "فكانوا [الفلاحين] يقدمون لنا طعاماً أفضل مما كانوا يأكلونه". وكان الفلسطينيون يدفعون أجور سجّانيهم، ويطعمونهم وينزلونهم للإقامة في بيوتهم بالمجان، وفي ذلك يقول الشرطي توماس نيومان: "إن الأمر كما هو معروف، مكلف بالنسبة إليهم، فذلك سيدفعهم إلى تقديم البيض والحليب والألبان التي عادة ما يبيعونها في المدن أو يستهلكونها، أعتقد أن العقاب بإحلال القوات في القرى كان أكثر فاعلية من حملات التفتيش".
وكان أهل القرى يدفعون ثمن ملابس رجال الشرطة ومواصلاتهم، بل حتى رواتبهم، ففي شباط 1938 طلب البوليس من حاكم اللواء أن تدفع أربعة أحياء من مدينة حيفا رواتب 32 شرطياً لمدة 3 أشهر، وفي أيلول من العام نفسه أرغم البريطانيون أهالي شرقي حيفا على دفع رواتب جيشين و16 عنصرا إضافيا من البوليس لمدة شهرين، وفي إحدى القرى المحيطة بحيفا صادرت قوات الأمن كل مخزون الحبوب بعد رفض الأهالي دفع نفقات مخفر البوليس، وعليه قال الضابط جون براينس إن هذا السلوك العقابي هو من أنجع الحلول المؤدية للسلام الدائم، يقصد إخماد الثورة.
أدرك البريطانيون أن تفتيت الثورات ضد الاستعمار يمر بتفكيك حاضنة الثوّار الشعبية والمرتكزات الاجتماعية والاقتصادية للثورة، فأثخنت في الفلسطينيين اجتماعياً واقتصادياً ونشرت الفقر والخوف بين الناس، حتى قال الطبيب البريطاني إليوت فورستر إن "كل من يرى الجيش هذه الأيام يفر كالأرنب البري، وأنا كذلك"، أما الشرطي رايموند كافيراتا فكتب لزوجته رسالة قال فيها: "إن كل ما يحدث ليس إلا قتلاً وقتلاً وقتلاً، والمذنبون والأبرياء فيه سواء".
إحياء العداوات
إلى جانب القمع البريطاني اليومي طوال سنوات الثورة، بيّن هيوز كيف وظفت القوة الاستعمارية التناقضات الطائفية والمطامع العربية وحالة الفقر التي ألمّت بالفلسطينيين حينئذ، للقضاء على الثورة، استغلّت العداء الذي نجم لدى بعض أبناء الأقليات الفلسطينية جرّاء سيطرة الخطاب الإسلامي على الثورة ونشوب بعض الحوادث الطائفية، لا سيما الدروز الذين لم يكتفوا بالوشاية بالثوار وأعمالهم، بل وقاتلوهم حتى اعتبر الضابط دوغلاس داف أنهم من "أكثر الناس عسكرةً وبسالة في العالم"، وأنهم "من عرق أفضل من العرب"، وفق "دراسة أنثروبولوجية" صدرت عن جامعة برلين في حينه.5المصدر السابق، 391.
ليس هذا فحسب، بل امتدت العمالة إلى حدود تشكيل فصائل فلسطينية بأكملها مضادة للثورة، وهي ما عرفت في حينه بـ"فصائل السلام". صحيح أنها صناعة بريطانية ولكن مادتها الخام بحسب هيوز كانت فلسطينية بامتياز، إذ توزعت بين فصائل بقيادة فخري عبد الهادي، وفصائل بدعم من عائلة النشاشيبي، وأخرى متنوعة بدعمٍ عشائري. والملاحظ أن القاسم المشترك بين هذه الفصائل هو الدعم من عائلات فلسطينية إقطاعية متصارعة فيما بينها، كالنشاشيبي والحسيني، مما أسهم بفاعلية كبيرة، يداً بيد مع عامل عدم اتحاد القوى الفلسطينية الثائرة وافتقارها إلى الاستراتيجية والقيادة القوية، في تمدد هذه الفصائل وإسهامها بشكل فعال في إجهاض الثورة. فمثلاً، ساعدت هذه الفصائل البريطانيين على تتبع ومراقبة القائد عبد الرحيم الحاج محمد وتصفيته في آذار/ مارس 1939، كذلك قدّم البريطانيون لفخري عبد الهادي وكل فرد يعمل معه راتباً شهرياً يصل إلى 6 جنيهات فلسطينية، فالمكان الذي كان يقطن فيه استراتيجيٌّ بامتياز، حيث تقع قريته عرابة الموالية للنشاشيبي في قلب "مثلث الرعب" الذي صنعه الثوار بين نابلس وجنين وطولكرم، وهو ما سهّل عمله على إحياء العداوات القديمة بين أهالي القرى والمدن التي كان يقع هو في منتصفها، وإفشاله العمليات العسكرية للثوار والوشاية بهم.
اقرؤوا المزيد: ما الذي يهدد أمن بريطانيا في وثيقة "الحسيني"؟
فرقٌ ليلية للقتل
شكّل البريطانيون في خضم الثورة (من حزيران إلى كانون الأول 1938) فرقاً ليلية خاصة بقيادة ضابط الاستخبارات العسكرية أورد وينغيت، وقواها ثلاث فصائل مختلطة من جنود بريطانيين وجنود من العصابات الصهيونية، درّبت هذه الفرق بشكل غير رسمي، وعلى مدى 6 أشهر، عدداً كبيراً من المقاتلين اليهود الذين لم يكونوا مسجّلين في السجلّات والكشوفات الرسمية. كان الدور الرسمي المعلن لهذه الفرق هو حماية خط النفط العراقي الواصل إلى حيفا، لكنّ دورها الفعلي كما وصفها أحد القادة الإنجليز هو أنها وحدات "بلطجة بمعنى الكلمة"، وأن من قتلهم الضابط وينغيت "لم يكونوا سوى عرب متنائين، تصادف أنهم في طريقهم إلى قراهم في الليل، ولم يكونوا أشخاصاً بصدد تفجير خط أنابيب النفط"، أما تشرشل فوصف وينغيت في مذكراته بأنه "ضابط مجنون"، فقد كان "يُنزل العقوبات البطيئة غير المميتة على الفلسطينيين، ويذل الفلاحين ويجعلهم يهرولون لأميال أمام عربات الجيش التي كانت تسير على مهل، وكان يحشو الرمل في أفواه الفلاحين حتى التقيؤ".
كان وينغيت ضابطاً صهيونياً مسيحياً متطرفاً حاقداً على الفلسطينيين، ومتيّما باليهود ومؤمناً مهووساً بحقّهم في أرضنا، فكما وصفه أحد الزوّار الإنجليز للأماكن الأثرية في فلسطين: "لم أجد أحداً من الزوار شبيهاً بوينغيت، في عمق معرفته، واطلاعه المذهل، وقدرته على تفسير ما ورد في التوراة، فقد كان يروي شفاهاً مقطعاً من التوراة في إثر مقطع... وكان يتحدث بألم، وانفعال وغضب، كما لو أن الأمر حدث بالأمس، وكان انقسام بني إسرائيل أمراً يهمه شخصياً".6زكريا السنوار، "أورد وينغيت، ودوره في تطوير القدرات العسكرية الصهيونية"، مجلة الجامعة الإسلامية (سلسلة الدراسات الإنسانية) المجلد الخامس عشر، العدد الثاني، يونيو 2007، 287 – 316.
لُقّبت الوحدات الليلية الخاصة بـ"سرايا النار"، وكان وينغيت ينظر إليها على أنها الطور الجنيني لإنشاء جيش يهودي، ففيها كان يعلّم الجنود اليهود الصغار أبشع الممارسات في أثناء قمعه للثورة، ومنها تخرّج موشيه ديان ويغال آلون اللذين كانا من تلامذته النجباء. بدوره ورّث ديان ما تعلّمه من وينغيت إلى آخرين كإسحاق رابين وعيزرا وايزمن وحاييم بارليف، حتى بلغ عدد القادة الصهاينة الذين تأثروا بأفكاره 22 قائداً، قاموا بتطبيقها في حرب 1948،7المرجع السابق.. قال عنه إيغال آلون، وهو من القادة الذين تدربوا على يدي وينغيت وأكنّوا له احتراماً كبيراً: "إن ظهور وينغيت، وحماسته الصهيونية العالية المستوحاة من التوراة، ومواهبه العسكرية غير العادية، وشجاعته المدهشة، كانت حدثاً هاماً في تاريخ الهاغاناه"، 8المرجع السابق.، كما اعتبره رشيد الخالدي "الأب المؤسس للجيش الإسرائيلي".9رشيد الخالدي، محاضرة "الاستعمار الاستيطاني في إيرلندا وفلسطين"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 24/9/2022، الدقيقة 37.
فوزي القاوقجي
مجحفٌ أن نتجاهل ما جاء به هيوز عن القائد فوزي القاوقجي10للمزيد؛ فوزي القاوقجي، مذكرات فوزي القاوقجي 1890-1977، تقديم واعداد خيرية قاسمية (دمشق: دار الدباس، 1995).، فالسياق الذي وضعه به مخالفٌ تماماً لما هو مستقرّ في تصوراتنا. لم يقدم هيوز معلومات جديدة بخصوص إسهام القاوقجي في ثورة 1936، لكنه وضعه في سياقه السياسي والعسكري الدقيق، وقرأه بوصفه قائداً عسكرياً لا نظير له في هذه الثورة، رغم ما وصفه به كل من ليلى بارسونز في كتابها "القائد"11 Laila Parsons, The Commander: Fawzi al-Qawuqji and the Fight for Arab Independence 1914–1948 (London: Saqi Books, 2017).والمؤرخ الفذ يوجين روجان في كتابه "العرب" 12 يوجين روجان، العرب: من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2011) 320-330.بالضابط "الفاشل بالتربيع"، إلا أنه في كتاب هيوز قائد ناجح بمقدار ما كانت الظروف الموضوعية تتيح ذلك.
كبّد القاوقجي الجيش البريطاني في فترة الشهرين (أيلول 36 إلى تشرين الثاني 36) التي مكث فيها، قرابة 28 قتيلاً من مجموع 244 قتيلا من القوات البريطانية طوال سنوات الثورة، وتميز بالتنظيم في قيادة الأركان، والتخطيط والإشراف على غرفة العمليات، والتجنيد والتدريب، وإدارة العمل الاستخباري والاستخباري المضاد، شأنه شأن عز الدين القسام من قبله. وقد أدركت أيضاً بريطانيا ذلك، إذ قال النقيب إدموند تشارلز وولف مايرز من سلاح الهندسة الملكي البريطاني إن القاوقجي "ليس عسكرياً قليل الشأن، فلا بد أنه قد ارتاد أكاديمية "سان سير" العسكرية الفرنسية لما أبداه من تفوق، إذ تعلم منه العرب أن يقدّروا قيمة الاستطلاع الأولي والتخطيط المفصل قبل شن الهجوم"، أما تيد هورن فقال إنه "كان القائد العام للثورة العربية وأطول القادة باعاً"، مضيفاً في مقابلة أجريت معه أن القاوقجي "ولد ليكون قائدًا وقدوة". 13هيوز، الاستعمار البريطاني، 182-183.
ملاحظات ختامية
سَقَفَ ماثيو هيوز كتابه من النواحي المنهجية والموضوعية والمضامينية والشكليّة سقفًا يفوق في صلابته إنتاج كثيرٍ من الباحثين الفلسطينيين ومؤسسات الدراسات التي اتّخذت من فلسطين مبحثاً، ومع ذلك فهو لا يخلو من بعض العيوب التي كان أبرزها التعميم، فبالغ في تضخيم ظاهرة العمالة لصالح الإنجليز إلى الحد الذي يصوّر الفلسطينيين وكأن جلّهم خونة، كما عدّهم مجتمعاً مفكّكاً على مستوى الهوية السياسية والاجتماعية، وهو ما تنفيه شراسة استهداف الاستعمار البريطاني للمؤسسات الاجتماعية والسياسية التي حاول الفلسطينيون تأسيسها، وهي التي تُعّد أساساً في عملية بناء الهويات والقوميات، إضافة إلى إسهامات جموع المثقفين والمتعلمين14أحمد مأمون، حرب المئة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917–2017، دورية عمران للعلوم الاجتماعية، مج 10، العدد 38 (خريف 2021)، 221183.، وتأسيس أكثر من 32 صحيفة ومجلة بين عامي 1908-1914، إذ مثّلت أداة الجماعة الفلسطينية لتخيّل ذاتها ضمن الجماعة العربية المتخيلة.15بندكت أندرسن، الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها، ترجمة ثائر ديب، تقديم عزمي بشارة (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014) 110.
وأكّد هيوز بثقة عدم وجود دعم عربي لثورة 1936 في فلسطين، لا على مستوى الدول ولا حتى على مستوى الشعوب التي لم يعتبرها أكثر من جماعات متوائمة مع الاستعمار. وهذا بحد ذاته فخ استشراقي وقلة اطلاع معرفي واضح، وصحيح أن مطامع أمير شرق الأردن عبد الله وتفضيله رؤية القدس في أحضان بريطانيا على أن يراها تحت زعامة أمين الحسيني بحسب وصف السياسي الفلسطيني عزت طنوس، لا ينكرها إلا جاهل بالتاريخ، لكن الدعم السعودي والمصري والسوري لا يمكن تجاهله البتة، فقد توافد على فلسطين في الأشهر الأولى عشرات المناضلين العرب، من ذلك أن ألقت بريطانيا في 23 مايو/ أيار القبض على 61 مناضلاً عربياً، كما استشهد في تشرين الأول من عام الثورة الأول ضباط عرب أشاوس هم سعيد العاص، والشيخ محمد الأشمر،16عبد الوهاب الكيالي، الموجز في تاريخ فلسطين الحديث (عمان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022) الطبعة الرابعة، ص 193، 200. ولا يُنسى مفجر الثورة عزالدين القسام، وفوزي القاوقجي، أما الدعم المالي وإرسال السلاح للثوار الفلسطينيين فلم يتوقّف، تحديداً من سورية التي كانت مركزاً وقاعدة إسناد مهمة جداً للثورة،17محمود محارب، العلاقات السرية بين الوكالة اليهودية وقيادات سورية في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى (بيروت: جسور للترجمة والنشر، 2021) 13. وهو ما دفع الوكالة اليهودية لمحاولة إسقاط بعض السياسيين السوريين في أثناء الثورة.
اقرؤوا المزيد: "الوكالة اليهودية".. كتاب يصطاد في مياهنا العكرة؟
الجدير بالذكر أن الكتاب ذو طابعٍ يساري، فهو يستحضر تجربة ماو والتجربة الفيتنامية بشدة طوال صفحات الكتاب، وتحديداً حين يقيّم سلوك الثوار وتكتيكاتهم العسكرية، كما يعقد مقارنات بين سلوك المستعمرين والغزاة وتعاملهم مع الثوار في كلا الحالتين الأمريكية والبريطانية. ليست المشكلة في مقارنات هيوز العسكرية، بل في مقارناته غير العادلة بين نتائج ثورة 36 والتجربة الفيتنامية وماو، إذ يتناسى عامل الاستيطان الصهيوني بالغ الأهمية، ويحاكم الثورة بمعايير الثورات على الاستعمار التقليدي.