10 يونيو 2025

الناجي من جحيم "سدي تيمان" 

الناجي من جحيم "سدي تيمان" 

"لا أعلم إن كانت هناك حياة بعد الموت، أو إن كان مصيركم إلى جنّة أو نار، لكن ما أعلمه يقيناً أنّكم لن تخرجوا من هنا أحياء. أهلاً بكم في جحيم إسرائيل."

هكذا صرخ جنديّ من جنود الاحتلال، وهو يركلني بعنف لإنزالي من شاحنة نقل الأسرى. كنتُ معصوب العينين، مقيّد اليدين، محشورًا بين عشرات الأجساد المنهكة، قبل أن أجد نفسي في "سدي تيمان"؛ المسلخ البشري الذي يجعل الموت أمنية، والحياة لعنة لا تنتهي.

كانت تلك الجملة الوحيدة التي قالها الجندي ولم تكن كذباً، طيلة سنة كاملة من الاعتقال في مسالخ الاحتلال، لم يكن "سدي تيمان" جحيماً فحسب، بل كان الدرك الأسفل منه، ففي هذا المسلخ، حيث أمضيت نحو مئة يوم، مارس جيش الاحتلال تعذيباً ممنهجاً وقاسياً وقاتلاً يهدف إلى كيّ وعي الأسرى، ودفعهم لاحقاً إلى الانفضاض عن المقاومة ومشروعها.

من فم الموت إلى بطن الجحيم

تدخل جحيم "إسرائيل" إن حالفك الحظ ونجوت من رحلة الموت الأولى. فمنذ لحظة اعتقالك حتى وصولك إلى "سدي تيمان"، تُنقل في حافلات يشرف عليها حفنة مرضى نفسيين في أثواب جنود يتلذذون بالتعذيب، يطيلون الطريق عمداً؛ رحلة لا تستغرق أكثر من ساعة قد تمتد معهم إلى سبع ساعات، لا ينقطع خلالها الضرب والشتائم والإهانات ولو للحظة.

أذكر أنّني في تلك الرحلة كنت أتشبّث بالدعاء وذكر الله، حتى لم أعد أملك إلا نطق الشهادتين، ظناً أنّها النهاية. وحتى اليوم، لا أفهم كيف ظللتُ حيّاً بين فكّي الموت.

اقرؤوا المزيد: نايف نصّار: كلّ ما أردته أن أمُدَّ قدمي!

خلال النقل إلى معسكر "سدي تيمان"، داخل الحافلات المغلقة، ينفرد الجنود بالأسرى بلا أيِّ رقابة. هناك، يتحوّل التعذيب إلى طقس يومي يمارسونه بشراهة: ضرب متواصل بالهراوات ومؤخرة البنادق على الرأس والوجه والرقبة والعمود الفقري، واستهداف مُتعمّد للأعضاء التناسلية، وصعق كهربائي متكرر.

إن نجوت من هذه الرحلة ووصلت على قيد الحياة، من دون شلل أو إعاقة دائمة، فأنت من القلة المحظوظين. فبحسب نادي الأسير الفلسطيني، استُشهد 69 أسيراً تحت التعذيب، خلال النقل إلى سدي تيمان أو داخله وفي سجون أخرى.

وجهي الذي لم أعد أتذكره!

في هذا المسلخ، كما في غيره من مسالخ الاحتلال، لا يُترك شيء للصدفة. التّعذيب هنا سياسة رسمية، تُنفَّذ بمنهجية باردة، تبدأ بالجسد ولا تنتهي عند الروح.

منذ أن تطأ قدمك أرض سدي تيمان حتى خروجك منه، لا ترى سوى سواد العصبة التي لا تُنزع عن عينيك مهما طال مكوثك. لم تكن مجرد قطعة قماش، بل كانت قيداً للذاكرة، وسلاحاً لمحو الوجوه والأحلام.

مع الوقت، تبدأ الأشياء بالتلاشي من رأسك: تنسى كيف يبدو شعاع الشمس وضوء القمر، وتفنى ملامح أحبّتك واحداً تلو الآخر.

تفقد نفسك تدريجيًا، حتى يصبح أحد أحلامك البسيطة أن ترى وجهك.

تصبح مهووساً بفكرة: كيف أبدو الآن؟ هل ما زلتُ أتذكرني؟

إلى جانب تعصيب العينين، يُبقي الاحتلال الأسرى في سدي تيمان مقيّدي اليدين على مدار الساعة؛ تأكل، وتشرب، وتنام، وتصحو، وتقضي حاجتك، وأنت مقيّد.

لوحة لـ جميلة عابد.
لوحة لـ جميلة عابد.

تخيّل أن تضطر إلى قضاء حاجتك من دون أن تتمكن من تنظيف نفسك، أو أن تصاب بمرض جلدي في ظهرك، ولا تستطيع حتى أن تحكّه!

كيف يُمكن للإنسان أن يحافظ على أدنى درجات الكرامة أو الطهارة، وهو لا يملك حتى يديه؟

التعذيب في سدي تيمان ليس سلوكاً فردياً، بل برنامج منظّم، لا يترك للجسد فرصة لالتقاط أنفاسه. فإلى جانب الضرب المبرّح والتعذيب الجسدي المستمر، يُمارَس تعذيب جنسي ممنهج: ضرب متكرر على الأعضاء التناسلية، تحرّش خلال التفتيش أو التحقيق، واغتصاب باستخدام العصي، الأدوات الحادة، أو حتى الحيوانات كما حدث مع عدد من الأسرى.

كما يُستخدم التعذيب النفسي بلا هوادة: تحقير دائم، وإغراق الأسير بسيل لا يتوقّف من أكثر الشتائم قذارة ووحشية.

تجويع، إذلال، وانهيار بطيء

يحرص الاحتلال على إبقاء الأسرى في حالة إنهاك تام، كأشباح لا تقوى على الوقوف، عبر سياسة تجويع متعمّدة، يُقدَّم لكل أسير نحو 100 غرام من خبز أكل العفن نصفه، مع قليل من اللبن أو المُربّى، وقطعة خضار صغيرة، جميعها فاسدة، لا تصلح حتى لطعام الحيوانات.

من بين ما يحترفه الاحتلال في التعذيب: سحق آدمية الأسير، ثلاث دقائق للاستحمام بالماء البارد، تشمل فيها وقت خلع الملابس وارتدائها، مئة يوم لا تُقلّم فيها أظافرك، لا تقُصُّ فيها شعر جسدك، لا تبدّل ملابسك ولا تجد فرصة لغسلها. مئة يوم لم يترك فيها مرضٌ  جلدي جسدك سالماً، ولم تبقَ حشرة ضارّة إلا واتّخذت من جسدك مقراً لها.

اقرؤوا المزيد: نزعُ الرهبة عن الاعتقال.. ما وراء الحملة المسعورة؟

قضاء الحاجة في سدي تيمان نوع آخر من العذاب، عليك أن تنتظر في طابور يضم مئة إلى مئة وعشرين أسيراً، وعندما يحين دورك، تُمنح دقيقة واحدة فقط، فلا نظافة، ولا خصوصية، ولا حدّ أدنى من شروط النّظافة أو الصِّحة.

في هذا المكان، تُكسر عظامك على إيقاع حقدٍ لا يُوصف، وتُزرع الندوب كأنها وشمٌ لا يمحوه الزمن. ومع كل اقتحام تنفذه قوات القمع، يتكرّر الطقس ذاته: جنود من القوات الخاصة، مدججون بالسلاح، يقتحمون الأقسام بعنف جنوني، لا يكون الاقتحام حدثاً عابراً، بل طقسًا من طقوس الألم والقهر المتجدّد.

النهاية هنا ليست دائمًا نجاة، الحياة ترف، والموت حلمٌ قد لا يأتي. أنا اليوم عائدٌ من الموت، خرجت لأتكلّم، لكن هناك آلافًا ما يزالون في "الجحيم"، يكابدونه لحظة بلحظة.

منهم من يموت ليرتاح، ومنهم من ينجو، لكنه لا يشفى.

أكتب هذه الشهادة لا لأستعيد وجعاً مضى، بل لأحكي عمّا لا يزال يحدث، عن جريمة مستمرّة، عن بشر يُعذَّبون لأنهم فلسطينيون فحسب، أو لأنهم من غزّة.



22 ديسمبر 2022
أداة تكلّست؟ أسئلة عن الإضراب

عند كلّ فاجعةٍ يُنزلها الاستعمار ببلادنا أو مع استشهاد كل فدائي ومقاتل، يفزع الفلسطيني إلى سلاح الإضراب بإغلاق المحلات التجاريّة…