26 مارس 2021

المحاجر في فلسطين: "مين حفّر الجبل؟"

المحاجر في فلسطين: "مين حفّر الجبل؟"

قبل أكثر من سبعين عاماً حصلَ الهدمُ الكبيرُ في فلسطين، سوّت "إسرائيل" مئاتِ القرى الفلسطينيّة بالأرض، ومكانها أقامت بسرعةٍ قياسيّةٍ مئات المستوطنات، مئات آلاف الوحدات السكنيّة وآلاف الكيلومترات من الطرق المُعبّدة. هذا البناء، والذي احتاجَ على مرّ السنين مئاتِ ملايين الأطنان من المواد الخامّ، تركَ اليوم 1123 محجراً على مساحةٍ تفوق الـ100 ألف دونم داخل أراضي الـ1948 متروكةً بعد نفاد مخزونِها من المواد.

حسب ادعاء اللجنة الماليّة التابعة للكنيست الإسرائيليّ عام 2018، تعاني "إسرائيل" من أزمة توفّر المواد الخامّ لقطاع البناء والبنى التحتيّة. إذ لم يُفتَتَح أيُّ محجرٍ جديدٍ داخل أراضي الـ1948 في الـ25 سنة الأخيرة، وذلك رغم ازدياد أعمال البناء وشقّ الطرق. كذلك، أُغلقت نصفُ المحاجر في "إسرائيل" في العشرين سنة الأخيرة، ليبقى 27 محجراً فاعلاً فقط.

تعود أزمة المحاجر في "إسرائيل" إلى العديد من التغييرات القانونيّة التي طالت هذا المجال على مرّ السنين، وجعلت من افتتاح أو توسيع المحاجر أمراً معقّداً. السبب المركزيّ والذي يدفع "إسرائيل" إلى سنّ قوانين مقيِّدة على المحاجر هو أضرارها البيئيّة والصحيّة الكثيرة، إذ تمسّ المحاجر بالتنوّع الحيويّ، وتقلّص من رقعة الأرض الزراعيّة أو الرعويّة، وتغيّر من المعالم الطبيعيّة للأرض، ناهيك عن تلويثها الكبير للجوّ والتربة والمياه الجوفيّة والأجسام المائيّة المختلفة.

بعد سنوات من عمل الشركات الخاصّة على افتتاح وترخيص المحاجر، ضبطت "إسرائيل" هذه السوق، ونقلت عام 1993 مسؤوليّةَ تجهيز المخطّطات اللازمة لافتتاح المحاجر وإعلان المناقصات إلى مؤسساتِها الرسميّة. كذلك، أُقرّ عام 1998 المخطّطُ الهيكليّ القطريّ للتحجير والتعدين (مخطّط رقم 14) والذي أضاف تقييداتٍ أخرى، إذ تقع اليوم على الشركات المُشَغِّلة للمحاجر مسؤوليّةُ الالتزام بالشروط البيئيّة، وتعويض المتضرّرين، والحفاظ على شروط الأمان، ودفع الرسوم للجهات الرسميّة مقابل تشغيل المحجر وترميمه في وقتٍ لاحقٍ.1المخطّط الهيكلي للتحجير والتعدين: مخطّط رسمي مصادق عليه من قبل المؤسّسات الإسرائيليّة وهو بمثابة القانون المرجع لتخطيط المحاجر. هدف المخطّط  ضمان مناطق للتحجير والتعدين لتوفير المواد الخام التي تحتاجها السوق الإسرائيليّة. المخطّط الأخير، 14 ب، يعالج متطلّبات السوق في مجال البناء وشقّ الطرق حتّى عام 2040.  

في المقابل، يستمرّ أصحابُ الكسّارات في "إسرائيل" بالاحتجاج على التكاليف المرتفعة التي يتوجّب عليهم دفعها، وتستمرّ الجمعيّاتُ البيئيّة بالملاحقة القضائيّة لأعمال المحاجر، والنتيجة هي "أزمة" في المواد الخامّ تتحدّث عنها اللّجانُ وتُعِدّ من أجلها مخطّطاتٍ قطريّةً إضافيّة لطرح حلولٍ مستقبليّة. 

لكن في الحقيقة، لا يوجد أيُّ نقصٍ في مواد البناء، وما جرى من تعديلاتٍ قانونيّةٍ ومن إغلاق للمحاجر لم يرفع أسعارَ تلك المواد، ولا أسعار الوحدات السكنيّة حتى. تستهلك "إسرائيل" سنويّاً ما يقدّر بـ50 مليون طنّ من المواد الخامّ للبناء، تحصل على أكثر من ربعها من المحاجر في الأراضي المحتلّة عام 1967. 2حسب المخطّط الهيكليّ القطريّ للتحجير والتعدين، 14 ب، المصادق عليه عام 2018. إنّ الدّولة التي ضبطت نفسها بقوانين الحفاظ على البيئة حوّلت جبالَ الضفّة الغربيّة إلى ساحةٍ خلفيّةٍ لسوق المواد الخام الإسرائيليّ. في هذه السّاحة أرضٌ تتقلّص تحت الغبار الكثيف.  

سرقة إسرائيليّة في مناطق "ج"

منذ احتلال الضفّة الغربيّة عام 1967 يؤثّر الاحتلال تأثيراً مباشراً على الموارد الطبيعيّة الفلسطينيّة فيها، ومن بينها المواد الخامّ للبناء. بدأت أعمال التحجير الربحيّة الإسرائيليّة في الضفّة في السبعينيّات، وأخذت طابعاً مختلفاً لاحقاً بعد تقسيم الأراضي المحتلّة إلى ثلاث مناطق إداريّة مختلفة حسب اتفاقيّة أوسلو. تسيطر الإدارةُ المدنية الإسرائيليّة اليوم على ثلثيّ مساحة الضفّة الغربيّة (مناطق "ج")، وتطبّق هناك قانوناً عسكريّاً إسرائيليّاً. أمّا السّلطة الفلسطينيّة فتدير الثلث الباقي في مناطق "أ" و "ب". 

رغم أن قوانين إسرائيليّة هي المسيطرة على مناطق "ج" إلّا أنها قوانين عسكريّة تختلف عن تلك السارية داخل أراضي الـ1948، ولا يوجد فيها أي اعتبار للأمور البيئيّة، بالتالي يصبح تشغيل المحاجر في تلك المناطق أسهل بكثير على المستثمرين. حسب تقرير جمعيّة "يش دين"، عملت عام 2017 عشرة محاجر بملكيّة إسرائيليّة في مناطق "ج". في العام 2008 تمّ استخراج حوالي 12 مليون طنّ من تلك المحاجر، وفي عام 2015 استخرج 17 مليون طنّ. عموماً، يقدّر مدخول المحاجر للخزينة الإسرائيليّة عام 2014 بـ6.1 مليار شيكل، من بينها 20% من محاجر الضفّة الغربيّة.

علاوةً على السرقة الواضحة التي ترتكبها المحاجرُ المملوكة إسرائيليّاً والمخطّطة والمرخّصة من قبل الإدارة المدنيّة، تمنع هذه الإدارةُ الفلسطينيّين منذ العام 1994 (عامٌ بعد اتفاقيّة أوسلو) من الحصول على تصاريح لتفعيل محاجر في مناطق "ج"، ومنذ عام 2012 توقّفت كذلك عن تجديد تصاريح التشغيل لأولئك الذين يملكونها.3حسب منظمة هيومان رايتس ووتش. بالتالي توقّف عمل العديد من المحاجر الفلسطينيّة؛ أحياناً بقوّة الجيش أو بتغريم أصحاب المحاجر ومصادرة أجهزتهم. 

هكذا احتكرت "إسرائيل" السوق في الضفّة، وحوّلت الفلسطينيّين إلى عمّال في المحاجر الإسرائيليّة. يقدّر البنك الدوليّ أنّ الخسارة الفلسطينيّة تصل إلى 241 مليون دولار سنويّاً بسبب التقييدات الإسرائيليّة على ترخيص المحاجر للفلسطينيّين. تُعتبر المحاجر الإسرائيليّة في الضفّة خرقاً واضحاً للاتّفاقيّات الدوليّة، إلّا أنّ المحكمة الإسرائيليّة العليا شرّعت عملها، مستندةً إلى ادّعاءات كثيرة من بينها أن "إسرائيل" لم تمسّ ببند المحاجر الموقّع في اتفاقيّة أوسلو.4رفضت المحكمة العليا دعوى جمعيّة "يش دين" بإغلاق المحاجر الإسرائيليّة. في جلسات المحكمة ادّعت "إسرائيل" بأنّها لا يجب أن تمتثل لقوانين وأعراف الحرب الدولية كما هي، إذ أنّها تدير المناطق المحتلّة عام 1967 لفترة طويلة الأمد – "سيطرة مستمرّة"، وبالتالي فإن تفعيل الاقتصاد هو من "واجباتها". تدّعي "إسرائيل" بأن محاجرها في الضفّة ضروريّة اقتصادياً، إذ أنها تشغّل مئات العمّال الفلسطينيّين وتستثمر أرباحها بتطوير المناطق المحتلّة وسكّانها المحليّين (ويعتبر المستوطنون سكّاناً محليّين حسب قرارات سابقة للمحكمة العليا الإسرائيليّة). بالإضافة إلى هذه الادعاءات فإن المحكمة استندت في قرارها إلى أن الدولة الإسرائيليّة ملتزمة بالاتفّاقية المرحليّة الموقّعة عام 1995 بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة وإسرائيل ضمن معاهدة أوسلو، والتي بحسبها سيتمّ البتّ في قضيّة المحاجر في المفاوضات اللّاحقة بين الطرفين. إذ ينصّ البند 31 من الاتفاقية بأن إدارة، تخطيط وتوسيع المحاجر في منطقة "ج" سينتقل بالتدريج من المسؤوليّة الإسرائيليّة إلى مسؤوليّة السّلطة الفلسطينيّة، ولكنّه منوط بمفاوضات وبقرارات لجنة مشتركة يجب تشكيلها. وحتّى وصول اللّجنة إلى قرارات بهذا الشأن يُمنع من الفلسطينيّن القيام بأي خطوة من شأنها عرقلة عمل المحاجر الإسرائيليّة.  

تُنقل 94% من المواد المستخرجة من المحاجر الإسرائيليّة في مناطق "ج" إلى داخل الخطّ الأخضر.5حسب ردّ الحكومة الإسرائيلية على التماس قدّمته جمعية "يش دين" ضد المحاجر، 2011. يحفر الاحتلال الإسرائيليّ الأرض بعد أن صادرها من أصحابها، ويُحاصر القرى بالغبار والأمراض والجدران الصخريّة والتصدّعات، يستنزف الطبيعة والإنسان ويترك شروخاً في الجبال دون ترميم. 

فوضى المحاجر الفلسطينيّة

لا تعتمد "إسرائيل" في حصولها على المواد الخام من الضفّة الغربيّة على المحاجر الإسرائيليّة فقط، إنّما على محاجر يملكها فلسطينيّون أيضاً. وفي قصّة المحاجر الفلسطينيّة في الضفّة وجهٌ مظلمٌ آخر تتحكّم فيه "إسرائيل" من بعيد وتستفيد منه. 

القوانين المتساهِلة أو غيابها في المناطق الإداريّة الثلاثة تسهّل على المستثمرين افتتاح المحاجر، والطلب من السوق الإسرائيليّ على المواد القادمة من الضفّة الغربيّة مستمرٌ أيضاً. فالقرب الجغرافيّ للضفّة الغربيّة من القدس ومن منطقة المركز داخل الخطّ الأخضر (حيث مشاريع البناء الكبيرة) يخفّض من تكاليف الشحن الباهظة عادةً لمواد البناء. كذلك فإن الأيدي الفلسطينيّة العاملة الأرخص، ووفرة المواد في الضفّة الغربيّة وأزمة المحاجر داخل الخطّ الأخضر، كلّها تساهم في استمرار الطلب الإسرائيليّ على المواد من الضفّة. 

في ظلّ الجدوى الاستثماريّة من المحاجر وحاجة الفلسطينيّين لأماكن العمل، وفي ظلّ التضييق الإسرائيليّ على الفلسطينيّين من كلّ الجهات، تنتشر المحاجر الفلسطينيّة انتشاراً عشوائيّاً في المناطق الإداريّة الثلاثة. تُشغّل في مناطق "ج" بدون ترخيص وبتهاونٍ إسرائيليّ، وتنتشر في مناطق "أ" و "ب" تحت تراخي وفساد السّلطة الفلسطينيّة في تطبيق القوانين، فتُنتِج هي الأخرى، إضافة للمحاجر الإسرائيليّة، مأساة بيئيّة وانسانيّة.

تقام بعض المحاجر في مناطق السُّلطة الفلسطينيّة على أراضٍ عامّة تابعة للسلطة، أو أراضٍ خاصّة يشتريها أصحاب المحاجر من الأهالي دون رادع. المساحة ضيّقة في مناطق "أ" و "ب"، والغالبية العظمى من فلسطينيّي الضفّة يعيشون هناك، والمحاجر تزداد حتى في وسط المناطق السكنيّة.

يذهب أكثر من 80% من منتوج هذه المحاجر إلى داخل الخطّ الأخضر، وهكذا تحاصر المحاجر الفلسطينيّة الناسَ هي الأخرى، ليسود قانون غابٍ داخليّ، فيه يستغلّ المشغّل حاجة السكّان للعمل فيُحضِر أماكن العمل والكسّارات إلى تحت بيوتهم

تحت شعار حماية البيئة 

تسنّ "إسرائيل" القوانين داخل الخطّ الأخضر للحفاظ على البيئة، فماذا إذاً عن البيئة ذاتها في الساحة الخلفيّة – المناطق المحتلّة عام 1967؟ 

هنا، تجد المنظّمات البيئيّة الإستيطانيّة مساحةً للتدخّل بحجّة الائتمان على البيئة.6كعمل جمعيّة "ريغافيم" وجمعيّة "الفوروم لإسرائيل خضراء". تقوم بملاحقة المحاجر الفلسطينيّة، تلاحق تلك غير المرخّصة في مناطق "ج"، تطالب الإسرائيليّين بتحمّل المسؤوليّة للحدّ من التلوّث الذي تسبّبه المحاجر في مناطق السلطة الفلسطينيّة، ويطالبون بحماية المواطنين اليهود في المستوطنات. هذا كلّه في محاولة لتطبيق السيادة الإسرائيليّة على أوسع نطاق في الضفّة الغربيّة. تخدم هذه الادّعاءات الاحتلال الإسرائيليّ بالتأكيد، وتوفّر له مخزوناً من المسوّغات القانونية في لعبة السيادة. إلّا أن التعلّق الإسرائيليّ بمواد البناء بات يتطلّب مساحة الفوضى والعشوائيّة المتاحة ويتغذّى على الوضع القائم.

لا يمكن لـ"إسرائيل" الاستغناء اليوم عن محاجر الضفّة الغربيّة، وتُشير في دراساتها الرسميّة إلى حاجتها لهذه المحاجر؛ حسب اللّجنة لدراسة سياسات الأراضي في مجال المحاجر، المعيّنة من قبل "دائرة أراضي إسرائيل"، فإنّه لولا المحاجر في الضفّة لكان مجال البناء والبنى التحتيّة الإسرائيليّ اليوم في أزمة. في الدراسة للمخطّط الهيكليّ القطريّ الجديد (رقم 14 ب)، تمّ احتساب المواد من الضفّة الغربيّة في احتياطيّ المواد الخام حتى سنة 2040، ومن المتوقّع حسب إدعاء دولة "إسرائيل" ردًا على دعوى جمعيّة "يش دين" أن يستهلك السوق الإسرائيليّ حتى سنة 2040 ما يقارب 276 مليون طنّ من المواد الخام من مناطق الضفّة الغربيّة. 

هكذا أصبحت الإدارة المدنيّة الإسرائيليّة، للمفارقة، تدافع أحياناً عن محاجر فلسطينيّة في وجه شكاوى الجمعيّات البيئيّة الاستيطانيّة (كما حصل في حالة كسارة الطريفي في شارع 60 وسط الضفة)، بل وتستغلّ ترخيص محاجر فلسطينيّة لتبييض وجه الاحتلال، وتبني تعلّقاً اقتصاديّاً بين الفئات العاملة في سوق المحاجر وعائلاتها وبين "إسرائيل"، وهو ما يُوفّر المزيد من السيطرة لجهة واحدة : الاحتلال.

على هذه الأرض سيّدٌ واحد: إسرائيليّ يسيطر على الموارد جميعها، حتّى في المساحة القليلة التي تبدو خارج سيطرته. الإسرائيليّ يخطّط لعشرات السنين القادمة دارساً توفّر الموارد في كلّ فلسطين التاريخيّة، والفلسطينيّ لا يملك حتّى ترف تخيّل ساحة بيته دون هوّة بعمق 100 متر. 

من الدّاخل الصّورة واحدة

 الإسرائيليّ هو سيّد كلّ الجغرافيا الفلسطينيّة، يعاملها بالتّساوي وإن اختلفت القوانين والمراحل. فبالعودة إلى داخل الخطّ الأخضر وعودة بالزمن إلى سنوات "إسرائيل" الأولى، نرى الصورة مشابهة: صادرت "إسرائيل" الأرض، وحوّلت فلسطينيّي الداخل المحاصرين تحت حكمٍ عسكريّ إلى عمّال بناء وعمّال في المحاجر التي أصبحت منذ الآن إسرائيليّة. لاحقاً، بعد تثبيت الهيمنة والأمن الإسرائيليّ التفتت "إسرائيل" إلى البيئة التي استنزفتها؛ تستثمر ملايين الشواكل سنويّاً لترميم آلاف الدونمات من المحاجر المتروكة لتحويلها إلى متنزّهات وأماكن سياحيّة ومناطق سكنيّة جديدة.7محاجر قرى الشاغور في الجّليل مثلاً، صودرت وتوسّعت عليها محاجر إسرائيليّة بمساحة 80 دونماً. أُغلق هذا المحجر بداية سنوات الستّين مع إقامة مستوطنة كرميئيل ضمن خطّة تهويد الجّليل، وتحوّل لاحقاً إلى متنزّهٍ ضخمٍ يخدم سكّان المدينة. وتُرك أهالي الشاغور، كغيرهم من فلسطينيّي الداخل، مكتظّين في بلداتٍ حاصرها المشروع الإسرائيليّ.

أما المحاجر التي ما زالت فاعلة اليوم داخل الخطّ الأخضر فما زالت تلقي بغبارها على البلدات الفلسطينيّة في الداخل وتخنق توسّعها وتلتصق ببيوتها وتصادر أراضيها الخاصّة. فرغم أن فلسطينيّي الدّاخل يشكّلون أقلّ من 20% من مجمل سكّان "إسرائيل" إلّا أن نسبتهم 54% من مجموع السكّان الذين يعيشون على مقربةٍ من المحاجر، حسب بحثٍ أجرته جمعيّة الجليل. بعد الفشل بإغلاق هذه المحاجر، وبعدما خرج فلسطينيّو الداخل من معادلة السيادة على الموارد والأراضي، تحوّل نضالنا السّياسي ضدّ المحاجر إلى نضال ميزانيّات يُطالب بتحويل بعضٍ من مردود الضّرائب إلى السلطات المحليّة العربيّة، بدلاً من أن يذهب كلّه إلى السلطات اليهوديّة. 

سؤال العدل والجغرافيا

على مرّ عقود، كلّما ارتفع طابقٌ في مدينة إسرائيليّة انحنى ظهرُ فلسطينيّ، وكلّما شُقّ شارعٌ اتّسعت مساحة الظلم، وكلّما اشتدّت "إسرائيل" انكسرت جبال فلسطين وبانت بطونُ الأرض حزينةً فارغة. إن ما أنتجته اليوم آلياتُ السيطرة الإسرائيليّة في كلّ فلسطين ليس ضرراً بيئيّاً أو سرقة موارد فحسب، بل تكريساً لهيمنة إسرائيليّة وفوارق جغرافيّة وأفق فلسطينيّ مسدود؛ إنه خرابٌ كبير.

ليست قضيّة المحاجر هي الوحيدة في هذا السياق، لكنّها تعكس واقعاً أليماً عن سؤال السيادة الفلسطينيّة ومعناها الجغرافيّ. فحتّى عندما لا تكون للإسرائيليّ سلطة مباشرة على الأرض (كمناطق "أ" و "ب") يبقى تفوّقه مصدرَ قوّة مباشراً وحاجزاً أمام قدرة الفلسطينيّ على تحقيق أي عدلٍ أو استقلاليّة. بعد كلّ تلك السنوات من التطوّر الإسرائيليّ على حساب الفلسطينيّين في كلّ مكان، ولطالما أن الإسرائيليّ يخطّط مستقبله دارِساً جغرافية فلسطين التاريخيّة كلّها، لا عدالة ستتحقّق إلّا إذا أصبح الفلسطينيّ قادراً على تخيّل مشروعه كمشروعٍ ندّيّ يطال كلّ الخريطة التي لعبت فيها "إسرائيل" لعقود؛ مشروعٍ فلسطينيّ لا يرى بالأرض حدوداً وتقسيمات، إنّما يراها مساحته الرحبة لتحقيق العدل.