21 فبراير 2022

"الفصح اليهودي" مع رمضان.. هل الأقصى على أعتاب مواجهة؟

"الفصح اليهودي" مع رمضان.. هل الأقصى على أعتاب مواجهة؟

لم تعد اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى خبراً استثنائيّاً لدى أيِّ متابعٍ لشؤون القدس والأقصى، فقد استطاع الاحتلال ترسيخ اقتحام المسجد ثابتاً رئيساً في رزنامة خططه التهويديّة، وانتقل من هذه النقطة إلى حشد أعدادٍ كبيرة من المستوطنين بالتزامن مع الأعياد اليهوديّة ومناسباته الوطنيّة. 

وفي الأعوام الماضية رّكز الاحتلال على تحقيق أمرين أساسيين في اقتحامات المسجد؛ الأول هو السماحُ لمستوطنيه بأداء الصلوات اليهوديّة في ساحات المسجد الأقصى، وهو ما نراه يوميّاً، وما يتكثّف في الأعياد اليهوديّة، ومنها ما شهدناه في سبتمبر/أيلول 2021 خلال عيدي "الغفران" و"العُرُش". والثاني هو ترسيخ أولوية المستوطنين في اقتحام المسجد في حال تزامنت أيٌّ من الأعياد اليهوديّة مع أي مناسبةٍ إسلاميّة، وذلك بعد أن كانت شرطةُ الاحتلال في السابق تمنعُ اقتحاماتِهم للأقصى تماماً في الأعياد الإسلاميّة.

في هذا المقال نتناول محاولات الاحتلالِ ترسيخَ اقتحامات الأقصى في المواسم الإسلاميّة، وفرضها أمراً واقعاً، وما يتصل بها من حشد مئات المقتحمين، ونستعرض أبرزَ المحطات التي شهدت اقتحاماتٍ حاشدةً، هدفت إلى ضرب مركزيّة المسجد الأقصى وقدسيته، إضافةً إلى إطلالة على أبرز المحطات القادمة، التي ستشهد المزيد من الالتقاء بين مناسباتٍ يهوديّة وأعيادٍ إسلاميّة، وأقربها إلينا رمضان المقبل، إذ سيتقاطع الأسبوع الثالث منه مع عيد الفصح اليهودي.

فلسطينيون يحتشدون أمام المصلى القبلي في ساحات الأقصى، في الجمعة الأخيرة من رمضان 2021، أحمد غرابلي/AFP.

تصاعدٌ منذ عام 2019

على الرغم من تثبيت سلطاتِ الاحتلال اقتحاماتِ الأقصى بشكلٍ شبه يوميّ، إلا أنّها كانت تمنع الاقتحاماتِ إبان المواسم والأعياد الإسلاميّة، فلم يكن المسجد يشهدُ أي اقتحاماتٍ تُذكر في العشر الأواخر من رمضان، أو في عيدي الفطر والأضحى. بدأت سياسةُ الاحتلال هذه بالتغير منذ عام 2019، إذ بدأ بترسيخ الاقتحامات خلال الأعياد الإسلاميّة، خاصَّةً إذا تزامن معها واحدٌ من الأعياد اليهوديّة، وعادةً ما يرافق ذلك تصاعدٌ في أداء الطقوس اليهوديّة العلنيّة داخل ساحات المسجد.

اقرؤوا المزيد: "ماذا تعرف عن اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى؟".

شكّلت العشر الأواخر من رمضان أولى محطات كسر العُرْف القائم بعدم اقتحام المسجد في المناسبات الإسلاميّة، وتزامن ذلك مع التضييق على المعتكفين بهدف إفراغ المكان من العنصر البشريّ الإسلاميّ. لاحقاً، كانت هناك أربعُ محطاتٍ رئيسة، تزامن فيها عيدٌ (أو مناسبة) يهوديّ مع عيد (أو مناسبةٍ) إسلاميّ، حاولت خلالها شرطة الاحتلال ومستوطنوه تثبيت أولويّتَهم في الاقتحام. أولى هذه المحطات، اقتحام "يوم القدس"، الثاني من يونيو/حزيران 2019، والذي تزامن حينها مع 28 رمضان. ثمّ اقتحام الأقصى في 11 أغسطس/آب 2019 بمناسبة ذكرى "خراب المعبد"، بالتزامن مع اليوم الأول من عيد الأضحى. ثمَّ محاولة اقتحام الأقصى في 10 مايو/أيار 2021، بالتزامن مع 28 رمضان، والتي فشلت بفعل ثبات الفلسطينيّين وتضحياتهم. وأخيراً، اقتحام الأقصى بمناسبة ذكرى "خراب المعبد" في 18 يوليو/تموز 2021، بالتزامن مع الثامن من شهر ذي الحجة (يوم التروية)، قبل عيد الأضحى بيومين.

اقرؤوا المزيد: "كيف انتهى عيد الرباط بالاقتحام؟".

تهدف سلطات الاحتلال من هذه الاقتحامات إلى كسر إرادة المقدسيّين عبر ترسيخ الاقتحام ثابتاً وحيداً، بغض النظر عن أعداد المصلين في الأقصى وعن طبيعة المناسبة والعيد. كأنها تقول إنّ القداسة الإسلاميّة للمسجد، ومن فيه من مصلين ومعتكفين، ليست إلا شأناً هامشيّاً، وذلك في مقابل فتح الباب أمام المستوطنين وصلواتهم فيه. 

قد يظنّ البعض أنّ هذه الخطوات تندرج ضمن مشروعيَ التقسيم الزمانيّ والمكانيّ للمسجد، إلا أنّها في الحقيقة تتجاوزهما، وتمضي قُدماً نحو مرحلةٍ جديدةٍ تُطلق عليها جماعاتُ المستوطنين "التأسيس المعنويّ للهيكل". تعني هذه الأجندة التي بدأ المستوطنون بمحاولات فرضها منذ النصف الثاني من عام 2019 إلى "التصرف وكأنّ المعبد اليهوديّ قد أُقيم فعلاً مكان الأقصى"، وبالتالي الحرص عند اقتحام المسجد على أداء كلّ الصلوات التي تتصل بـ"المعبد" وتحمل طابعاً "عباديّاً يهوديّاً". ويتصاعد ذلك في الشكل والمضمون في الأعياد اليهوديّة التي تتطلب صلواتٍ خاصّة. 

مستوطنون أثناء تأدية الصلوات اليهوديّة في المسجد الأقصى، بالقرب من مصلى باب الرحمة، 5 سبتمبر 2021، دائرة الأوقاف الإسلامية.

المناسبات اليهوديّة في مقابل الأعياد الإسلاميّة

يمكن اختزال ما جرى في هذه الاقتحامات بمحاولة فرض إرادة الاحتلال، وهو واقع تكرر في ثلاث مناسباتٍ إسلاميّة، وفشل في واحدة. في أواخر شهر مايو/أيار 2019 فتحت شرطةُ الاحتلال البابَ أمام اقتحامات المستوطنين في الأيام العشرة الأخيرة من رمضان، وبدأت "منظمات المعبد" الاستعداد لاقتحام المسجد في ذكرى "توحيد القدس" بالتزامن مع 28 رمضان. وفي 2 يونيو/حزيران 2019 اقتحمت قوات الاحتلال الأقصى في الصباح الباكر، وفرضت بقوة السلاح والغاز والرصاص المطاطيّ في الاقتحام، ليبلغ عدد المقتحمين حينها 1179 مستوطناً.

ومع اقتراب ذكرى "خراب المعبد" في 11 آب/أغسطس 2019، والمتزامنة مع اليوم الأول من عيد الأضحى، أعلنت شرطة الاحتلال أنّها ستجري تقييماً للوضع في المسجد في ساعات الصباح الأولى من يوم العيد، وبناءً عليه ستقرر السماح بالاقتحام من عدمه. أُخِّرت صلاة العيد ساعةً كاملةً في محاولةٍ من المقدسيين لإفشال الاقتحام، ثمّ تبعتها مواجهات عند باب المغاربة وفضٍّ لجموع المرابطين بالرصاص وقنابل الصوت ما أدى لإصابة العشرات واعتقال خمسة شبان. عند الساعة 11 تقريباً، ضربت شرطة الاحتلال بعرض الحائط احتفال المقدسيين بواحدة من أبرز مناسباتهم الإسلاميّة، وأدخلت عشرات المستوطنين إلى باحات الأقصى ليبلغ عددهم يومها نحو 1340 مستوطناً

ومما يؤشر على سعي الاحتلال ترسيخ اقتحام المسجد حتى في يوم عيد إسلاميّ هامّ، كعيد الأضحى، أنه أصرَّ على ذلك حتى لو كان في شكله المختصر، إذ كان الاقتحام يومها ضمن "المسار القصير"، الذي يبدأ من باب المغاربة وينتهي بعد أمتار عند باب السلسلة (على عكس المسار الطويل الذي يبدأ من باب المغاربة ويمرّ عند باب الرحمة وشمال الأقصى ثم ينتهي عند باب السلسلة)، في انعكاسٍ للأجندة التي تسعى لفرض التغيير مهما كان حجمه.

فلسطينيون يرابطون أمام باب المغاربة بعد انتهاء صلاة عيد الأضحى، 11 أغسطس 2019، في محاولة لصدّ اقتحام المستوطنين للمسجد في ذكرى ما يُسمى "خراب الهيكل". أحمد غرابلي/AFP

أما في المحطة الثالثة، فلم تستطع "جماعات الهيكل" اقتحام الأقصى في 10/5/2021، وذلك بالتزامن مع ذكرى "يوم القدس"، بسبب ثبات المقدسيين ودفاعهم المستميت عن المسجد، ودخول المقاومة في قطاع غزّة على خط الأحداث، وإطلاق معركة "سيف القدس" واندلاع الهبة الفلسطينيّة الشاملة.

اقرؤوا المزيد: "أعمدة المواجهة في باب العامود".

أما المناسبة الرابعة، فكانت فيما يُسمّى ذكرى "خراب المعبد"، والذي تزامن مع الثامن من شهر ذي الحجة (يوم التروية)، الموافق الثامن عشر من يوليو/تموز 2021. سعياً لتعويض فشلها السابق، حضرت المنظمات الاستيطانيّة للاقتحام بأعداد كبيرة، ووصل عدد المقتحمين يومها 1540 مستوطناً، من بينهم أعضاء سابقون وحاليون في البرلمان الإسرائيلي. وشَهِد الاقتحام ترديد المستوطنين نشيد "الهاتيكفا" بصوتٍ مرتفع وبحماية قوات الاحتلال، وأداء أعدادٍ كبيرة منهم طقوساً يهوديّة علنيّة في باحات الأقصى.

نقاط تفجر أم تهويد وسيطرة؟

يُشير باحثون في شؤون القدس إلى أن تزامن الأعياد الإسلاميّة مع اليهوديّة ليس أمراً جديداً، إذ تتضمن محطات التاريخ الفلسطينيّ العديد من محطات التوتر والثورة التي اندلعت جراء تزامن المناسبات الإسلاميّة مع تلك اليهوديّة. وذلك على غرار ثورة البراق عام 1929، فقد شهدت تقاطعاً بين ذكرى "خراب المعبد" وذكرى المولد النبويّ. وحاول المستوطنون حينها الاحتفال بالذكرى عند حائط البراق، في محاولة لاستعراض قوّتهم وتنامي أعدادهم في المدينة إبان الاحتلال البريطاني، ولكن حلول ذكرى المولد النبوي في 17/8/1929، والاحتفال بها في يوم الجمعة للاستفادة من الحشد الإسلاميّ على أثر صلاة الجمعة، وقف في طريق المستوطنين، وهو الحدث الذي أطلق شرارة واحدةٍ من أبرز الثورات الفلسطينيّة.

وفي عودة لمحطات تلاقي التقويمين العبريّ والهجريّ، ذكر تقرير "عين على الأقصى" الخامس عشر عدداً من "محطات التناظر" بين التقويمين، وأنَّ عامي 2022 و2023 سيشهدا المزيد من التقاء الأعياد الإسلاميّة واليهوديّة، على غرار "عيد الفصح العبري" بأيامه السبعة في مواجهة الأسبوع الثالث من رمضان المقبل (أبريل 2022)، والذين يسبق أيضاً بتصاعد التوتر في الشيخ جرّاح تحسباً لتهجير عائلة سالم، وذكرى "خراب المعبد" التي ستأتي قبل يومٍ واحد من يوم عاشوراء، وستأتي ذكرى المولد النبوي الشريف ما بين عيدي "الغفران" و"العُرش" اليهوديين.

وفي سياق التطلع إلى المحطات القادمة، سنكون أمام سيناريوهين أساسيين، الأول أن يتحوّل هذا التزامن بين التقويمين إلى محطات مواجهةٍ على غرار ما جرى في مايو/أيار2021، والثاني أن يستطيع الاحتلال فرض قوّته وتمرير الاقتحامات الحاشدة، بل وتطبيق المزيد من الطقوس اليهوديّة خلالها، على غرار الاقتحام في يوليو/تموز 2021، خاصّةً أنَّ المنظمات الاستيطانية ستحاول المضي قدماً في "التأسيس المعنوي للمعبد" عبر تنفيذ الطقوس اليهودية كاملة داخل المسجد، وصولاً إلى تقديم قرابين عيد الفصح.

شبان فلسطينيون في ساحات المسجد الأقصى دقائق قليلة قبل اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال، وصدّ اقتحام المستوطنين للمسجد، 28 رمضان، 9 مايو 2021، إياد الطويل/وكالة الأناضول.

وفي ظلّ تحول الأقصى والأعياد الإسلاميّة إلى الحصن الأخير الذي يُشعل جذوة المواجهة والحماية، لا بد من الوقوف أمام حصيلة التجربة الماضية. فعلى الرغم من قدرة الهبّة الفلسطينيّة على ردع الاحتلال، ودفعه إلى إغلاق الأقصى أمام الاقتحامات نحو 19 يوماً خلال عام 2021، إلا أنّه استطاع الالتفاف على نتائجها، فقد عادت الاقتحاماتُ إلى الأقصى بنسقها السابق، بل تصاعدت وتيرتها خلال الأعياد اليهوديّة الأخيرة، خاصة عيدي "الغفران" و"العُرُش" (في سبتمبر 2021)، وما شَهِداه من مشاركةٍ يهوديّة كثيفة، وأداء الطقوس العلنيّة. تطرح هذه التجربة من جديد السؤال عن دور مختلف الفئات الشعبيّة والسياسيّة في رفد الأقصى بالمرابطين، لألا يتحول إفشال اقتحام الـ 28 من رمضان (في 10/5/2021)، إلى نموذجٍ يتيم لا يتكرر.

ومع التأكيد المستمر على دور المقدسيين الأساسي والاستثنائي في مواجهة الاحتلال، والتضحيات الطويلة التي قدّموها، ولكن الخوف من عدم بناء حالة المواجهة مرةً ثانية، تدفع نحو طرح سؤال "الانتكاسة" على الرغم من وجود "النموذج"، فكسرُ الاحتلالِ بالوجود البشريّ الكثيف في الأقصى، وإسناد المقاومة لهذه الحالة في مختلف المناطق الفلسطينيّة، يفرض على الحالة الشعبيّة - خاصةً في ظلّ غياب العمل التنظيميّ الذي حاصرته "إسرائيل"- مزيداً من العمل،  للتصدي لأي اقتحاماتٍ مستقبليّة. ومن المهم أن نذكر أنَّ الأعياد الإسلاميّة قادرةٌ على تشكيل "الحصن الأخير" لكسر شوكة الاحتلال، وعدم مضيه في "تأسيس المعبد معنويّاً" أو في تقسيم المسجد والسيطرة عليه بشكلٍ كاملٍ.