4 أبريل 2022

العمّال في غزة.. كيف نعطي "إسرائيل" أوراقاً إضافيّة؟

العمّال في غزة.. كيف نعطي "إسرائيل" أوراقاً إضافيّة؟

عند الدخول إلى موقع "وزارة العمل" التابع لحكومة غزّة، لن تُخطئ عيناك الشريطَ البارز أعلى الصفحة، والمُخصّص للتسجيل من أجل استصدار تصاريح العمل "داخل الخطّ الأخضر". في الشريط أيقونة لعمّال فرحين وبجانبهم إشارة ()، كما لو أنّهم يقولون لك: سارع بالتسجيل!

وعلى ما في ملف العمّال من جديد، إلا أنّ التطوّر الأبرز هو أنّه لأوّل مرّة، وبعد صمتٍ التزمته حركة "حماس" بكافّة مستوياتها في هذا الملف طوال السنوات الماضية، فإنّ الإعلان الأخير عن التصاريح، في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، صدر من وزارة العمل التابعة لها، وليس من أي جهةٍ أخرى غير حكوميّة. 

كان ذلك الإعلان الأوّل من نوعه، الذي يشير لتدخل الجهاز الحكوميّ التابع لحركة "حماس" في غزّة، بشكلٍ مباشرٍ في ملف عودة عمّال غزّة للعمل داخل الأرض المحتلة، بعد أن اكتفت الحركة بالسعي لانتزاع العدد الأكبر من التصاريح عبر تفاهمات وقف إطلاق النّار، دون أن تتدخل على الأرض في مسارها العملياتيّ.

تصاريح العمل في أراضي الـ 48 المُشار إليها لا تتجاوز 20 ألف تصريح، حسب آخر تحديث من حكومة الاحتلال قبيل رمضان بأيام، بيد أنّ القطاع الذي تُشدّد "إسرائيل" حصاره منذ عام 2007، فيه أكثر من 225 ألف عاطلٍ عن العمل. ولذلك، لاقى الإعلان من يومه الأول فقط، تقديم أكثر من 10 آلاف طلب للعمل.

جاء الإعلان كجزءٍ من تفاهمات وقف إطلاق النار بعد معركة "سيف القدس" في مايو/ أيّار من نفس العام، والتي قدّمت فيها المقاومة دوراً عسكريّاً بارزاً. غير أنّ السؤال يبقى هنا: هل يُمكن التعويل على التصاريح في التخفيف من حدّة الحصار على الناس؟ معرفة استخدامات الاحتلال لهذه الأداة ستُقدّم لنا بعض الإجابة عن ذلك.

حنفيّة التصاريح "بتنقّط"؟

بعد احتلال الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة عام 1967، وما تلاه من ضربِ الحياة الاقتصاديّة الفلسطينيّة وتحجيم مسارها التنمويّ، ظهرت جملةٌ من التغييرات الاقتصاديّة والمجتمعيّة، أبرزها صعود شريحة العمّال الفلسطينيّين في الأراضي المحتلة عام 1948، أو ما يُطلق عليهم تجاوزاً "العمّال في "إسرائيل"". في ظلّ تضييق الاحتلال على القطاعات الصناعيّة والخدماتيّة الفلسطينيّة، وارتفاع فرق الأجور بين مناطق الـ67 ومناطق الـ48، وصلت نسبةُ هؤلاء العمّال خلال السبعينيّات وحتّى أوائل التسعينيّات إلى 40% من إجمالي القوى الفلسطينيّة العاملة في الضفّة والقطاع. 

اقرؤوا المزيد: "الأجور في فلسطين.. الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة".

لم تكن تلك الشريحة بمعزلٍ عن سياسات التضييق والحصار الإسرائيليّة، والتي بدأت أولى انعكاساتها على عمّال غزّة تحديداً، إذ قررت سلطاتُ الاحتلال عام 1991 إلزام أهالي القطاع حصراً بالحصول على تصاريح لدخول الضفّة أو أراضي الـ48. وبعد توقيع اتفاقيّة أوسلو، وتحديداً في الفترة ما بين 1993-2000، سُجّل تذبذبٌ واضحٌ في أعداد عُمّال الداخل القادمين من غزّة. في تلك الفترة، أقام الاحتلالُ جداراً إلكترونيّاً وخرسانيّاً حول القطاع، وبدأ بنصب الحواجز كأسلوب ردعٍ لأهله بعد أي عملية فدائيّة أو في الأعياد اليهوديّة. فمثلاً؛ فرض الاحتلال عام 1995 إغلاقاً شاملاً على القطاع وألغى كلّ التصاريح على إثر عملية بيت ليد الفدائية، التي نفّذها الاستشهاديّان صلاح شاكر وأنور سكر وهما من القطاع، ونتج عنها أن قُتل 22 جندياً إسرائيلياً وأصيب أكثر من 60 آخرين. 

عمال فلسطينيون يصلون إلى المحطة الأخيرة في الجهة الفلسطينيّة من حاجز بيت حانون، وذلك قبل انتقالهم إلى الجهة الإسرائيليّة من الحاجز. مارس 2022. (عدسة: مجدي فتحي/NurPhoto).

مع الانتفاضة الثانية، شدّدت سلطاتُ الاحتلال إجراءاتها في ملف عمّال غزّة في أراضي الـ 48 أكثر وأكثر، فانخفضت التصاريح لأهالي القطاع ومعها تصاريح العُمّال، وهكذا انخفض الرقم من 27 ألف عامل عام 1999 إلى 2000 عاملٍ فقط في عام 2001. ثمّ زادت سلطات الاحتلال من حدّة هذا التشديد مع الأحداث تباعاً: انسحابها من قطاع غزّة عام 2005، ثمّ فوز حركة "حماس" بالانتخابات عام 2006، ثمّ سيطرة الأخيرة على القطاع عام 2007. بعدها، توقّفت "إسرائيل" عن استصدار تصاريح للعمل تحت بند "الاحتياجات الاقتصاديّة" لسكّان القطاع، وشدّدت من القوانين المفروضة على المعابر، وضيّقت الخناق على البضائع والخَلق، كنوعٍ من تدفيع الناس ثمن مقاومتها. 

اقرؤوا المزيد: "المسموح والممنوع.. معابر تُحاصر غزّة".

بهذا، بقي ملف العمّال مغلقاً حتّى يوليو/تموز 2018، حينما أعلن السفير القطري محمد العمادي عن "مبادرة لتحسين الأوضاع الإنسانيّة" لسكان القطاع، تضمّنت في بنودها دخول 5 آلاف عامل من غزّة إلى أراضي الـ48، مقابل تخفيف حدّة المواجهات على حدود القطاع في مسيرات العودة، ووقف إطلاق البالونات والطائرات الورقيّة الحارقة. منذ ذلك الحين والاحتلال يُعلن كلّ فترة عن زيادةٍ "بالتنقيط" في أعداد التصاريح، في البداية رفع العدد إلى 12 ألف تصريح، أي 12 ألف عامل، إلى أن وصل اليوم إلى 20 ألف تصريح. والزيادة الأخيرة من 12 ألف إلى 20 ألف أقرّتها حكومة الاحتلال أواخر مارس/ آذار الماضي، ضمن استعدادتها لتنفيس أي هبّة شعبية محتملة، عبر مقايضة الهدوء بفُتات "التسهيلات".

التقديم على فيزا أسهل!

يسرد لنا حسن (30 عاماً)، من سكّان مدينة غزّة، رحلته الشّاقة في تحصيل تصريحٍ "تجاريٍّ" مشروطٍ بمجموعة من المتطلّبات، في الوقت الذي ينتظر فيه "على أحرّ من الجمر" ردّ الاحتلال على طلبه. كان على حسن أن يُحصّل أوّلاً سجلاً تجاريّاً، وهناك طريقتان لذلك: الأولى عبر الانضمام إلى سجلٍ تجاريٍّ لشركةٍ موجودة على الأرض، ويقتصر ذلك على بعض أصحاب الشركات الذين يُدرجون الشخص ضمن الكشوفات التجاريّة لشركاتهم، لقاء مقابلٍ ماديّ يتفاوت من شركةٍ لأخرى، لكنّه بحدود 1000 شيكل. أما الطريقة الثانية، فهي أن يلجأ الشخص إلى إحدى مكاتب المحاماة التي تتكفّل بإعداد الملف كاملاً، بما يشمل السجل التجاريّ والأوراق الثبوتيّة وإعداد الفواتير الضريبيّة الوهميّة والحصول على لقاح ضدّ كورونا، مقابل مبلغ يصل إلى 1500 شيكل. يوازي ذلك "عمليّة إيداع رصيد بالبنك عشان تدخل دولة معيّنة"، كما يصف حسن هذه الإجراءات الأوّليّة. 

بعدها، تُرسل ملفاتُ المُتقدمين إلى الاحتلال لدراستها، فيردّ عليهم برسائل نصيّة تُرسل إلى هواتفهم بأن طلباتهم "قيد الدراسة" أو "تمت الموافقة عليها". وهي عملية تستغرق من شهرين إلى 6 شهور، يحصل بعدها العامل على تصريحٍ تجاريّ أوليّ صالح لمدةٍ تتراوحُ بين شهرٍ إلى 3 شهور، ويُجدّد لاحقاً لمدة 6 - 12 شهراً. 

عمال فلسطينيون ينتظرون المرور عبر حاجز بيت حانون (إيريز) متوجهين للعمل في الأراضي المحتلة عام 1948، مارس 2022. (عدسة: مجدي فتحي/NurPhoto). (Photo by Majdi Fathi/NurPhoto via Getty Images)

إذا ما نجح العامل في تجاوز آليات "الغربلة" الإسرائيليّة، يستلم التصريح ثمّ يتجه إلى حاجز بيت حانون "إيرز"، الواقع شمال قطاع غزّة. بعد دخوله الأراضي عام 1948، يبدأ بالبحث عن فرص أفضل للعمل وتحصيل المال، وهنا تبدأ رحلةٌ جديدةٌ للعمّال القادمين من غزّة، بعد انقطاعٍ قارب العقدين من الزمن عن البلاد التي بالكاد يتذكرها كبارُ السنِّ منهم. 

فهذا أبو محمد (55 عاماً) وصل إلى قرية برطعة الواقعة في وادي عارة في أراضي عام 1948، وهناك توجّه إلى إحدى مواقف أو ساحات العمّال المنتشرة في عدد من المدن والبلدات، وكسائر العمال انتظر صباحاً حتّى وصول المقاولين أو المتعهدين. ولسابق خبرته وعمله لسنوات في مجال الباطون والإنشاءات، فقد التقى بأحد المُشغّلين وباشر العمل معه منذ اليوم الأول، لقاء أجرة 500 شيكل في اليوم، وهو ما يساوي 5 أضعاف المبلغ الذي كان يُحصّله من عملِهِ في المجال ذاته داخل قطاع غزّة. 

منذ حصوله على تصريحه "التجاريّ" وأبو محمد يمضي نهاره في العمل، ويبات لياليه في إحدى البيوت المشتركة التي يتقاسمها عددٌ من عمال غزّة والضفّة في أراضي الـ 48. لا يُخفي أبو محمد رغبتَهُ بالمكوث في أراضي الـ48 طوال مدة صلاحية تصريحه، لكسب أكبر وقتٍ مُمكنٍ في العمل وادخار المال لكي يعود به إلى عائلته في القطاع فيُعيلهم به. ورغم أنَّ تصريحه يتضمن شرط المبيت في الضفّة الغربيّة، فقد لاحظ أبو محمد عدم وجود مراقبة أو تشديد من الاحتلال على العمال في هذه الجزئية تحديداً.

لاحقاً، لم يعد العامل بحاجة إلى استصدار تصريح  من النوع "التجاري" من أجل العمل، وهو ما كان الاحتلال يُلزمهم به كنوعٍ من فرض شروط تعجيزيّة عليهم.1يُفرّق الاحتلال بين مجموعة من التصاريح التي يُصدرها لأهالي القطاع من أجل الخروج عبر المعابر الإسرائيليّة باتجاه الخارج أو الضفّة الغربيّة أو أراضي الـ 48، وهي كالآتي: تصريح تجّار، ويقتصر هذا التصريح على التجّار الكبار. تصريح bmc، وهذا يختص بكبار رجال الأعمال. تصريح لعوائل من يمتلكون bmc. تصريح الاحتياجات الاقتصادية، وهذا مخصّص للذي يريد الخروج من القطاع لأغراض اقتصاديّة. ولكنّ ثمّة شروط أخرى لم يتنازل عنها لاستصدار التصريح، منها: ألا يقلّ عمر العامل عن 25 عاماً، أن يكون متزوّجاً، ألا يكون موظّفاً أو صاحب دخلٍ ثابت، وأن يكون سجلّه الأمني "نظيفاً" (أو كما أشار موقع الوزارة: "ألا يكون على مقدّم الطلب منع قضائي من السفر") فلا يكون قد انخرط بنشاطات ضدّ الاحتلال.

ضباط شرطة فلسطينيّون يتفحصون الأوراق الرسميّة لعمّال فلسطينيّين قبل خروجهم عبر حاجز بيت حانون للعمل في الأراضي المحتلة عام 1948، مارس 2022. (عدسة: أحمد زقوت/SOPA Images/LightRocket)

"إسرائيل" ليست الحل!

يستخدم الاحتلال التسهيلات الاقتصاديّة مقابل الهدوء، وهذه سياسة كثّف استخدامها مع سكّان القطاع ومقاومته. وهو من خلال سياسة التصاريح؛ المنح ثمّ المنع والتخفيض ثمّ الزيادة، يحاول ربط مزيدٍ من مصائر سكّان القطاع المحاصر به وجعلهم تحت "رحمته"، ومقايضة رزقهم وحاجتهم بتدفعيهم الثمن عن أيّ أعمال مقاومة قد تخرج من القطاع. هكذا، يُضاف للسلاسل الكثيرة التي يتحكّم من خلالها الاحتلال بالقطاع ويبتزّه بها، سلسلة أخرى اسمُها "العمّال".

اقرؤوا المزيد: أرض التوت الحزين.

لا تقتصر تبعات تصاريح العمل في أراضي عام 1948 على كونها جزءاً من منهجيةٍ كاملةٍ للتعامل مع قطاع غزّة وفق سياسة العصا والجزرة، بل أيضاً تتسع الفجوة إلى زاويتين: أمنيّة واقتصاديّة. أمّا الأولى، فعمادها ما قد تُحدِثُه هذه السياسة من ثغراتٍ أمنيّةٍ على المقاومة في القطاع، وفي المقابل فإنّ جهاز الأمن العام الإسرائيليّ (شاباك) عبّر عن رفضه لهذه الخطوة لما قد تشكلّه من خطرٍ أمنيّ على "إسرائيل". أما الثانية، فتتعلق بطبيعة تلك "التسهيلات"؛ بالرغم من أحلام اليقظة التي ترسم مشهداً ورديّاً لدخولِ العمّال الغزيّين إلى أراضي الـ 1948، وترى فيه وسيلةً لتوفير "حياةٍ كريمة"، فإنّ ذلك المشهد مؤقتٌ ومشروطٌ بـ"هدوء الأوضاع"، ومحدودٌ فقط بمن استطاعوا الحصول على التصاريح. وهنا نذكر أنّ أكثر الأرقام تفاؤلاً تتحدّث عن 20 ألف تصريح من الممكن أن يمنحها الاحتلال للقطاع، وهو ما يعني 20 ألف فرصة عمل فقط.

ممّا لا مجال للشكّ فيه، أنّ ظروف القطاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة تدفع بالناس نحو العمل في أراضي الـ 48، تماماً كما دفعت بسكّان الضفّة الغربيّة؛ من هم في وضعٍ أفضل على المستوى المعيشي. لا مجال للوم الناس وانتقادهم، ولكن…

على المقاومة التي احتضنها النّاسُ أن تُخفّف عنهم، لا عن طريق مزيدٍ من التبعيّة للاحتلال ومنحه مزيداً من الأدوات التي تُمعن في ذلّهم وقهرهم، بل عن طريق اجتراح نموذجٍ اقتصاديّ مقاوم يكون قادراً على توفير الحدِّ الأدنى من العيش الكريم؛ هذا فقط ما يُعزّز من صمود الناس. فقضية العُمّال في القطاع ليست قضيةً اقتصاديّةً بحتة، بل هي في جوهرها قضيّة سياسيّة تتعلق وتتأثر بشكلٍ مباشرٍ بوضعية القطاع ككيانٍ تُحاصر فيه المقاومة، ويُعاقب فيه النّاس على انحيازهم لها.



5 مايو 2023
عبد الله الفقير.. خضر عدنان

باب مخبز البلدة مغلق، لا خبزَ طازجاً يُباع اليوم في "مخبز الطيبات" في عرّابة. ورغم أنَّ الخبّازَ لم يُعلِّق على…