28 يوليو 2025

الطريق المفخخ إلى كيس الطحين

الطريق المفخخ إلى كيس الطحين

وسط آلاف المكدسين، والمتزاحمين للوصول إلى كيس طحين أو صندوق مساعدات، تقف عُلا عابدين (40 عاماً) تُفكر بأطفالها الجائعين وزوجها الكفيف تارة، وبجنينها الذي تحمله في رحمها منذ ستة أشهر تارة أخرى. تضم قبضة يديها وتعصر حزنها وتعبها ويأسها، وتصرخ في نفسها غاضبة: لن أعود إلا ومعي كيس الطحين.

ولكن، مثل آلاف الناس في قطاع غزة، عادت عُلا من جديد بيدين فارغتين، مرهقة وجائعة، إلى أطفالها وزوجها الجائعين أيضاً. فما وُزع في نقاط توزيع المساعدات بالكاد كفى بضع عشرات، قبل أن ينطلق الرصاص ويُفرق المنتظرين الذين عادوا بلا شيء إلى عائلاتهم. وبعضهم عاد شهيداً محمولاً على الأكتاف، بعد أن انتظرته عائلته أن يعود إليها حاملاً ما ينجيهم من الجوع. 

نقاط التوزيع هذه، أوجدتها أميركا في قطاع غزة، لتكون أحد أوجه الإبادة، تتعمد فيها قتل أهالي غزة، وإذلالهم، وتوزيع الفتات الذي لا يسد جوعهم، وتحاصرهم فيها، باعتبارها مصدرا وحيدا لغذاء بسيط يواجهون فيه المجاعة وقسوتها. فكيف تحولت نقاط المساعدات الأميركية إلى "مصائد الموت"؟ 

أم ومهمة مستحيلة 

"لازم أجيب طحين"، تكرر عُلا في نفسها وهي تتأمل أطفالها الخمسة وقد باتوا نحاف الجسد، فقدوا الكثير من أوزانهم، شاحبين بوجوه صفراء متعبة، منهكين لا يستطيعون اللعب، وحتى الحديث في كثير من الأحيان، أصواتهم منخفضة جداً، وضحكاتهم لا تُسمع. تقول عُلا لـ متراس: "أشعر بالقهر والعجز في كل مرة يطلب مني أطفالي الخبز، وفي كل مرة يبكون من الجوع". 

عُلا الحامل في شهرها السادس، لم تعد تستطيع مواجهة جوع أطفالها بيدين فارغتين من الخبز، واتخذت قرارها أن تبدأ رحلتها اليومية الخطرة إلى نقاط توزيع المساعدات، خاصة أن زوجها الكفيف، والمريض بالكلى، لا يستطيع أداء هذه المهمة. 

في الصباح الباكر تنطلق عُلا من خيمتها شرق خانيونس إلى نقطة المساعدات في منطقة الشاكوش برفح، لتقطع مسافة 8 كيلومترات مشياً، تحاول مسابقة آلاف الناس. تروي عُلا: "أسير مشياً على الأقدام مدة ساعتين تحت لهيب الشمس الحارقة، ومراقبة مسيّرات "الكواد كابتر"، لأصل إلى أقرب نقطة بمنطقة الشاكوش". 

فتاة فلسطينية تحاول حمل كيساً من الطحين بعد الحصول عليه من شاحنات المساعدات في خانيونس جنوب قطاع غزة، 26 حزيران/ يونيو 2025. (المصدر: رويترز)
فتاة فلسطينية تحاول حمل كيساً من الطحين بعد الحصول عليه من شاحنات المساعدات في خانيونس جنوب قطاع غزة، 26 حزيران/ يونيو 2025. (المصدر: رويترز)

وما إن تصل عُلا وآلاف الناس إلى الشاكوش، حتى تبدأ العناصر الأمنية الأميركية في المكان استقبالهم بالرصاص، تقول عُلا: "نختبئ بعضنا بجانب بعض في حفرة رملية كبيرة، حتى لا يطالنا الرصاص الحيّ وقذائف الدبابة". 

تخاف عُلا الموت هنا، ليس على نفسها فقط، بل على أطفالها وزوجها المريض، الذين ينتظرون عودتها. "ماذا لو لم أعد اليوم ومت هنا؟ من سيطعمهم من بعدي؟"، تُفكر عُلا وهي تحت زخات الرصاص، وتتحسس بطنها من جديد، تحاول تفقد نبض جنينها الذي لا تشعر به ولا تسمعه، فهو اليوم أيضاً مهدد بالموت جوعاً. 

اقرؤوا المزيد: الجوع والخيمة

تقول عُلا: "أُخاطر بنفسي وجنيني، ورغم ذلك لا أستطيع إحضار إلا فُتات الفتات من المعكرونة والرز المنثور على الرمل، أجمعه من تحت الأقدام". تعود عُلا بما جمعته، تنخله من الرمل والتراب، وتعد وجبة لأطفالها تكفيهم مرة واحدة، وأحياناً يساعدها الشباب في المكان ويقاسمونها ما حصلوا عليه من طحين أو أرز أو عدس أو معكرونة.

استدراج الجائعين 

لا تخلو عودةٌ لعُلا من أن تكون نجاة من موت محقق، ففي إحدى المرات التي حاولت فيها أن تصل إلى نقطة المساعدات من طريق مختصرة، هاجمتها طائرة "كواد كابتر" بقنابل متفجرة. تروي عُلا: "كنا نحو 30 شخصاً من نساء ورجال، عندما ألقوا علينا قنبلة متفجرة، تطايرنا في المكان، أُصبت بجراح مثل الكثيرين معي، واستشهد عدد منا أيضاً". 

تتابع عُلا: "كان وجهي ويدي ينزفان، وكنت أسمع نداءات الناس حولنا: "ابقوا منبطحين على بطونكم". كنت أرتجف من الخوف، وكل ما أفكر فيه هو أطفالي وزوجي".

اقرؤوا المزيد: "بحثت عن قطة فلم أجد".. عن تجويع الشمال

نجت عُلا من المجزرة، وعادت إلى أطفالها، ولكن من دون طحين ولا طعام. ولكن الكثير من الغزيين لم ينجوا من المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال أو عناصر الأمن الأميركية بالقرب من نقاط توزيع المساعدات الأربع التي تُشرف عليها "مؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية" الأميركية، منذ شباط/ فبراير 2025، وقد حولت المكان إلى كمين مفخخ تستدرج إليه آلاف الجائعين، ولا تتردد في فتح نيران رشاشاتها باتجاههم، وارتكاب المجازر والقتل الجماعي بحقهم. 

فلسطينيون يتجمعون عند نقطة توزيع حساء العدس في مدينة غزة شمال قطاع غزة في 27 تموز/ يوليو 2025. (المصدر: وكالة فرانس).
فلسطينيون يتجمعون عند نقطة توزيع حساء العدس في مدينة غزة شمال قطاع غزة في 27 تموز/ يوليو 2025. (المصدر: وكالة فرانس).

كانت أبشع هذه المجازر وأقساها في الأول من حزيران/ يونيو 2025، عندما توافد الآلاف إلى نقطة المساعدات غرب رفح، وما إن وصلوا حتى استبدل الطحين بزخات من الرصاص، ففتحت آليات الاحتلال نيرانها باتجاه الناس وقتلت منهم 32 فلسطينياً، وأصابت أكثر من 200. 

وبعد أسبوعين، ارتكب جيش الاحتلال مجزرة ثانية بالقرب من دوار التحلية شرق خانيونس، عندما تجمهر أكثر من خمسة آلاف غزي، ففتح رشاشاته عليهم وقتل منهم 60 فلسطينياً، وأصيب أكثر من 200. وحسب تحديث لوزارة الصحة في غزة، فقد ارتفع عدد شهداء مجازر المساعدات حتى تاريخ 23 تموز/ يوليو 2025، إلى 1.060 شهيداً إلى جانب أكثر من 7.207 مصابين.

المشي 10 كيلومترات 

رغم المجازر والقتل في نقاط توزيع المساعدات، يتوجه يومياً آلاف الغزيين إليها، حاملين أرواحهم على أكفهم، فليس أمامهم إلا خياران، كلاهما صعب: الموت جوعاً، أو الموت بالرصاص. ولكن فطرة الحياة ومحاولات النجاة تظل الأقوى والأعند. وهكذا كان ياسين أحمد (21 عاماً) الذي قرر أن يدفع عن عائلته آلام الحرب الثلاثة التي تحاصرهم: النار، والنزوح، والمجاعة. 

فعلى رمال شاطئ بحر السودانية، بالقرب من موقع "زيكيم" شمال غربي مدينة غزة، ينام ياسين ليلته من جديد، عسى أن يصل إلى نقطة المساعدات صباحاً قبل الناس ويحصل على كيس الطحين. يقول ياسين لـ متراس: "أمشي مسافة 10 كيلومترات على الأقدام، برفقة أصحابي وجيراني لكي نصل إلى "زيكيم"، وكل ما أفكر فيه هو عائلتي وأن أعود إليهم بالطحين". 

شبان يتمكنون من الحصول على أكياس الطحين بعد دخول شاحنات محملة بالمساعدات إلى شمال قطاع غزة، في 27 تموز/ يوليو 2025. (المصدر: وكالة فرانس برس)
شبان يتمكنون من الحصول على أكياس الطحين بعد دخول شاحنات محملة بالمساعدات إلى شمال قطاع غزة، في 27 تموز/ يوليو 2025. (المصدر: وكالة فرانس برس)

كان ياسين يتوجه في البداية إلى نقطة التوزيع في منطقة "نتساريم" إلا أن نجاته من المجزرة تلو الأخرى، دفعته للبحث عن وجهة أخرى، وإن كانت أبعد. يعلق ياسين: "كان جيش الاحتلال ينفذ إعدامات علنية، وكان يستخدم المسيّرات لإلقاء القنابل علينا.. وفي إحدى المرات أطلقت الدبابة قذيفة على تجمع للناس، ومن يومها لم أقوَ على العودة مرة أخرى من هول ما رأيته من دماء وأشلاء".

اقرؤوا المزيد: مطبخ الشمال: الخبيزة أو السلق؟

في طريقه الصعب إلى كيس الطحين، يتذكر ياسين وصية والدته الشهيدة بوالده وأشقائه الأربعة، فيسرع خطاه كلما تعب أو تردد. ويتذكر أيضاً أن بانتظاره ثلاثة من أبناء عمه الأطفال، الذين لا يستطيعون الحضور إلى هنا وحمل كيس الطحين. وقد أصبح ياسين طوق نجاة من المجاعة لكلا الأسرتين. 

يقول ياسين: "أنا لا أخاف، ولكن قلبي يرتجف كلما تخيلت أني قد أعود إلى العائلة من دون طحين أو معلبات أو كيس بقوليات". أما ما يخافه ياسين أكثر فهو الموت، أن يموت وتفقد عائلته ابنها الوحيد القادر على القيام بهذه المهمة. 

كلما عاد ياسين من مهمته، يكون جسده مغطى بالكدمات والدماء والجراح من التدافع بين الناس، ومحاولته النجاة بما حصل عليه، يقول: "في كثير من الأحيان ما أحصل عليه هو الضرب فقط، وأعود بكدمات في كل جسمي نتيجة التزاحم والتدافع.. لكن المرة الأخيرة جازفت واعتليت الشاحنة وحصلت على كيس الطحين". 

لصوص في المرصاد

"أحلى من فرحة العيد"، يصف ياسين فرحته بالحصول على كيس الطحين، لعائلته التي أصبحت تصوم كل يوم وتأكل مرة واحدة بعد صلاة المغرب. إلا أن هذه الفرحة لن تصل إلى عائلته، فبعد مسافة قصيرة هاجمه عدد من اللصوص. يروي ياسين: "لم أستطع التخلي عن الكيس حتى بعد أن شرطوا يدي وأخذوا نصف الكمية، وعُدت إلى إخوتي بالطحين ودمي عليه". 

فلسطينيون يتمكنون من الحصول على أكياس الطحين خلال دخول شاحنات محملة بالمساعدات إلى شارع الرشيد غرب جباليا، 17 حزيران/ يونيو 2025. (المصدر: وكالة فرانس برس)

تلاحق العصابات واللصوص الناس بعد حصولهم على المساعدات ويجردونهم منها، هذا إن لم يسرقوا الشاحنات قبل وصول الناس. وعُرف من بين هذه العصابات، عصابة أبو شباب التي برزت في أيار/ مايو 2025) والتي تتمركز في محيط نقاط توزيع المساعدات، وعلى مقربة من المعابر، بهدف السطو على شاحنات المساعدات الإنسانية. 

اقرؤوا المزيد: عصابات وقُطّاع طرق.. كيف أعادت الحرب تشكيل اقتصاد غزّة؟

وترتبط هذه العصابات بجيش الاحتلال، وهو ما أكدته تصريحات إسرائيلية عديدة، أحدها جاء على لسان زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" أفغدور ليبرمان الذي أكد فيها أن "إسرائيل" سلحت عصابة ياسر أبو شباب وأنها تعمل تحت إمرتها. 

بعد شهور من إقامة أميركا و"إسرائيل" نقاط توزيع المساعدات، لم تتوقف المجاعة في قطاع غزة يوماً واحداً، بل تعمقت وتوسعت لتطال كل أهالي غزة. ليتضح أن ما تسعى لتحقيقه هو كسر صمود الناس وإذلالهم، وأصبحت أداة جديدة لحصار المحاصرين، وتجويع المجوعين. وما زال أهل غزة يطلقون نداءاتهم الأخيرة للعالم، ليكشفوا بدمهم وجوعهم مسرحية المساعدات الأميركية، ويطالبون من جديد بفتح المعابر قبل فوات الأوان. 



12 يناير 2024
رحلة تدمير الدبّابة 

نحو 6 ملايين دولار تراها عياناً تتحرّك بصخبٍ يزن 65 طنّاً على الشارع، بارتفاعٍ يقترب من الـ3 أمتار وعرضٍ يقترب…