20 ديسمبر 2019

الشراكة الدمويّة بين تشيلي و"إسرائيل"

الشراكة الدمويّة بين تشيلي و"إسرائيل"

تشهد دولة تشيلي منذ أكثر من شهرين احتجاجاتٍ شعبيّةً عارمةً للمطالبة بالعدالة الاجتماعيّة وتغيير النهج الاقتصاديّ النيوليبراليّ، وصياغة دستورٍ جديدٍ يحل مكان دستور الديكتاتورية الذي ما يزال ساري المفعول منذ أربعين عاماً. أسفر قمع الشّرطة التشيلية وقوّات مكافحة الشغب حتى الآن عن مقتل أكثر من عشرين شخصاً وإصابة واعتقال الآلاف.

تعيد الأساليب التي تستخدمها قوى الأمن التشيليّة في استهداف المتظاهرين وفضّ الاحتجاجات إلى الأذهان وسائل القمع الإسرائيليّة. غير أن هذا التشابه ليس مجرّد صدفة أو تخاطر أفكار بين أنظمة قمعيّة. بل هو وليد علاقاتٍ أمنيّةٍ واستخباراتيّةٍ وطيدة بين "إسرائيل" والنظام الحاكم في تشيلي بقيادة رجل الأعمال اليمينيّ سبَستيان بنييرا Sebastián Piñera. وقد لفت الكاتب بنجامين زلفتش إلى التعاون الأمنيّ والتدريبات المشتركة بين الجيشين في مقاله المنشور في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في صحيفة الاندبندنت البريطانيّة، مؤكداً على الدور الذي تلعبه دولة الاحتلال في تصدير أدواتِ وتقنيّاتِ القمع والسيطرة والمراقبة. كما أشار باقتضاب إلى الحلف الذي جمع النظامين خلال ديكتاتورية أغوستو بينوشيه Augusto Pinochet العسكريّة في تشيلي (1973-1990).1أغوستو بينوشيه: كان الحاكم العسكريّ لتشيلي منذ عام 1973 حتى عام 1990. وصل إلى الحكم بمباركة ودعم الولايات المتحدة، بعد أن قاد انقلاباً عسكريّاً على الرئيس التشيلي المنتخب آنذاك سلفادور ألليندي. اتسمت  فترة حكمه بالديكتاتورية المطلقة واستخدام مختلف وسائل القمع والعنف ضدّ معارضيه، وخاصة من الأحزاب اليسارية، وتعرض الآلاف خلال فترة حكمه للسجن أو القتل أو الاختفاء القسريّ أو التهجير.

ترصد هذه المادّة بعضاً من ملامح العلاقات الأمنيّة والعسكريّة بين تشيلي ودولة الاحتلال منذ حقبة الديكتاتوريّة العسكريّة إلى يومنا هذا، مستندةً على مصدرين أساسيين. الأول هو كتاب أستاذ العلاقات الدوليّة التشيلي أوغو هارفي بَرادا بعنوان "العلاقات بين تشيلي وإسرائيل 1973-1990: الرابط الخفي"، والذي يلقي الضوء على فترة الديكاتوريّة في تشيلي. أما المصدر الثاني، والذي يلقي الضوء على العلاقات الراهنة بين الكيانين، فهو مجموعة بيانات صحافيّة وتحقيقات لناشطين منخرطين في حركة المقاطعة في أميركا اللاتينية.

19 ألف دليل مخفيّ

ولكن قبل الخوض في بعض ما يوّفره هذان المصدران، نذكر أنّ المعلومات المذكورة في كتاب هارفي أو المتوفّرة من خلال مصادر أخرى عن تجارة السّلاح بين ديكتاتورية بينوشيه ودولة الاحتلال ليست، على ما يبدو، إلا غيضاً من فيض. إذ رفضتْ وزارةُ الخارجيّة الإسرائيليّة مؤخراً نشر أكثر من 19 ألف وثيقة مرتبطة بالتعاون الأمنيّ والعسكريّ والاستخباراتيّ بين الدولتين في حقبة الديكتاتورية.

عام 2015، قدّم إسرائيليون التماساً للمحكمة الإسرائيليّة للمطالبة بكشف هذه الوثائق. من بين الملتمسين إسرائيليّ مولود في تشيلي اختفى والدُه قسراً في تشيلي عام 1974. ومن بينهم أيضاً إسرائيليّة مولودة في تشيلي أُعدم والدُها برصاص الجيش التشيليّ مباشرةً بعد انقلاب بينوشيه يوم 11 سبتمبر/أيلول 1973. رفضت المحكمة الطلب بعد أن تبنّت موقف حكومة الاحتلال بأنّ المعلومات الموجودة في تلك الوثائق قد تشكّل خطراً على أمن "إسرائيل" وعلاقاتها الخارجيّة، وأنّ وزارة الخارجية لا تملك الموارد البشريّة الكافية لمراجعة هذا الكمّ من الوثائق المكتوبة بمعظمها بلغة أجنبيّة. تقدّم أصحاب القضية باستئناف على هذا القرار إلى المحكمة الإسرائيلية العليا، وفي فبراير/ شباط الماضي رفضته كسابقتها.

كذلك رفض المستشار القضائيّ للحكومة الإسرائيليّة عام 2017 طلباً بفتح تحقيقٍ جنائيٍّ في احتماليّة تورّط مسؤولين إسرائيليّين في جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة مرتكبة في تشيلي أثناء الديكتاتورية، وذلك بادّعاء أنّ الطّلب يفتقدُ إلى الأدلّةِ والمستندات الكافية. المستندات سرّية ووزارة الخارجيّة ترفض نشرها، والمحاكم الإسرائيليّة تدعم قرار الوزارة، والنيابة الإسرائيليّة تشترط توفير هذه المستندات لفتح تحقيق، وهكذا تكتمل دائرة التكتّم التي تمارسها كافّة السّلطات الإسرائيليّة مجتمعة لإخفاء دور جيش ومخابرات "إسرائيل" في تسليح ودعم الديكتاتوريات والأنظمة الأكثر قمعية في العالم. ورغم سرّية معظم الوثائق، لدينا ما يكفي للدلالة على العلاقات الوطيدة بين "إسرائيل" ونظام بينوشيه.

تاريخ من الصفقات

من صفقات الأسلحة الموثّقة بين تشيلي إبان ديكتاتورية بينوشيه ودولة الاحتلال صفقاتُ أسلحةٍ جوّيّةٍ وأسلحةٍ وآليات مستخدمة في فضّ المظاهرات، شوهدت خلال قمع التظاهرات التي شهدتها تشيلي في الأيام الأخيرة للديكتاتورية. وقد كانت تجارة الأسلحة التي عزّزتها دولة الاحتلال مع تشيلي مهمةً بشكلٍ خاصٍّ بعد القرار الدوليّ بمقاطعة تشيلي وعدم بيعها الأسلحة، وهو القرار الذي صدر نتيجة التقارير المروّعة التي وصلت عن جرائم ضدّ الإنسانية من إخفاءٍ قسريٍّ وقتل معتقلين تحت التعذيب مارستها المخابرات التشيليّة. حتى الولايات المتحدة، التي دعمت الانقلاب العسكريّ عام 1973، اضطرت إلى التوقّف عن بيع الأسلحة لتشيلي على وقع هذه التقارير والضغط الدوليّ، وكما حدث بعد توقف الولايات المتحدة عن بيع السّلاح للديكتاتورية العسكريّة في غواتيمالا أو لنظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، لم يتأخّر الاحتلال الإسرائيلي في ملء الفراغ. 

بالإضافة إلى بيع الأسلحة إلى تشيلي، اشترت دولةُ الاحتلال منها صواريخ "إكزوسست" Exocet المضادّة للسفن بعد معرفة "إسرائيل" بأنّ الجيش المصريّ يمتلك هذه الأسلحة فرنسيّة الصّنع. وبمقابل موافقة تشيلي على بيع هذه الصواريخ لـ"إسرائيل"، في مفاوضاتٍ شارك فيها نحوم أدموني، الذي سيصبح فيما بعد رئيس الموساد، وافقت الأخيرة على تدريب عملاء في المخابرات التشيليّة شاركوا في دوراتٍ خاصّةٍ في دولة الاحتلال. 

في تلك الفترة اعتبرت دولةُ الاحتلال أميركا اللاتينية "منطقةً صديقةً"، ليس لأنّ الديكتاتوريات العسكريّة فيها حافظت على علاقات جيّدة مع "إسرائيل"، بل لأنها كانت قادرة طوال الوقت على إيجاد "أصدقاء" جدد معنيّين بشراء الأسلحة الإسرائيليّة واستخدامها ضدّ شعوبهم أو ضدّ بعضهم البعض في الخلافات الحدوديّة. أما القادة العسكريّون في تشيلي وغيرها من ديكتاتوريات أميركا اللاتينية في السبعينيّات والثمانينيّات فقد اعتبروا "إسرائيل" مثالاً يُحتَذى به لنجاعة ومهنية جيشها وعدم تسامحه مع أي تهديدٍ أمنيٍّ.

لم تذوِ الصداقة بين "إسرائيل" والديكتاتوريات العسكريّة في بلدان أميركا اللاتينيّة مع الانتقال الديمقراطيّ، بل عادت وترسّخت مع عودة اليمين إلى السّلطة في الكثير من هذه البلدان في الأعوام الأخيرة. في أراوكانيا، وهي مقاطعة تتركز فيها غالبية السكان الأصليين- المابوتشي- في جنوب تشيلي، تتجلّى هذه "الصداقة" في أيّامنا هذه بأكثر أشكالها فظاظةً؛ يشير تقرير لحملة المقاطعة في أميركا اللاتينية عن العسكرة الإسرائيليّة في المنطقة (صدر عام 2018)، إلى أن الشرطة العسكريّة وحرس الحدود في مدن وبلدات أراوكانيا تلقوا تدريباتٍ تقنيّة وأمنيّة من قبل ضباط إسرائيليّين، وأنّهم يستخدمون في حملات مكافحة التمرد في المقاطعة أجهزةَ تجسّسٍ ومراقبة إسرائيليّة. ليس مفاجئاً، إذاً، أنّ مشاهد اقتحام الجيش التشيلي لتجمعات السكان الأصليين في أراوكانيا تبدو وكأنها مستوحاة من المشاهد التي نراها في الضّفة الغربيّة. 

ظهر هذا بوضوح أثناء قمع الشرطة التشيليّة والجيش للمظاهرات التي تلت مقتل مزارعٍ يساريٍّ شاب من المابوتشي يُدعى كَميلو كتريّانكا Camilo Catrillanca في نوفمبر/تشرين الثاني 2018. قبل ذلك بأشهر، في مطلع عام 2018، أبرمت "إسرائيل" اتّفاقاً مع تشيلي على تعزيز العلاقات بين البلدين على كافة الأصعدة ومن ضمنها الصعيد العسكريّ والتقنيات والتدريبات العسكريّة والأمنيّة. وينظّم ناشطو حركة المقاطعة في تشيلي احتجاجات دوريّة ضد التعاون بين الجيش التشيلي والإسرائيلي، وغالباً ما يكون سبب هذه التظاهرات الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين ولكن التشيليّين، وتحديداً السكان الأصليين المابوتشي، هم أيضاً من بين ضحايا هذا التعاون العسكريّ والأمنيّ.

التقاء مصالح أم انسجام قيميّ؟

يعزو هارفي في كتابه التقارب بين "إسرائيل" وديكتاتورية بينوشيه إلى القواسم المشتركة بين النظامين. فكلاهما واجه تهديداتٍ إقليميةً ونوعاً من العزلة في فترة مصيريّة كانا فيها بأمس الحاجّة إلى البحث عن حلفاء جدد. في زيارته إلى دولة الاحتلال بعد عامٍ من الانقلاب العسكريّ، أكّد المحاضر في الجامعة الكاثوليكية خايمِ بايّي، والذي سيصبح فيما بعد وزير الخارجيّة في ديكتاتورية بينوشيه، هذا الارتباط حين أعلن أن تشيلي و"إسرائيل" تواجهان عدوّاً مشتركاً هو المحور الشيوعيّ. لم يكن التأكيد على هذا التقارب بالكلام فحسب، ففي تلك الفترة عارضت تشيلي معظم قرارات الهيئة العامة للأمم المتّحدة التي تدين الاحتلال الإسرائيليّ أو امتنعت عن التصويت. وبعد بعض الجلسات شكر السفير الإسرائيليّ في تشيلي بينوشيه شخصيّاً على وقوف بلاده مع دولة الاحتلال. أما بخصوص العلاقات التجاريّة فقد ازدادت قيمتها بعشرة أضعاف في نهاية السبعينيّات، في وقتٍ أرسلت فيه "إسرائيل" مستشارين سياسيّين واقتصاديّين للمساعدة في صياغة الدستور التشيلي الذي يطالب المحتجون اليوم بإسقاطه.

يختزل هارفي التقارب بين النظامين باعتباره "زواج مصلحة" أو خطوة براغماتيّة نفعيّة بين دولة تسعى إلى تطوير اقتصاد يتعاظم اعتماده على الصناعات الحربيّة والعسكريّة وبين دولة محاصرة تبحث عن فك عزلتها ومواجهة أخطار داخليّة وخارجيّة. إضافةً إلى الأسلحة والعلاقات التجاريّة، استفادت ديكتاتورية بينوشيه من علاقاتها مع "إسرائيل" لتبرئة نفسها من تهم معاداة السّامية التي طالتها بسبب خطاب الديكتاتورية العنصريّ والذي حاكى خطاب النازية والفاشية. 

ولكن، بموازاة هذه المصالح، من المهم أن ننظر إلى علاقات "إسرائيل" الوطيدة بأنظمة كنظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا ومختلف الديكتاتوريات العسكريّة في أميركا الجنوبيّة وأميركا الوسطى، وتحديداً الجيش الغواتيمالي الذي تلقّى تدريبات مباشرة من جيش الاحتلال الإسرائيليّ في أوج حملة التطهير العرقيّ التي شنّها على السكان الأصليّين المايا. علينا النظر إلى هذه العلاقات ضمن سياق أوسع من مجرد التقاء مصالح آني، فمن المنطقي أن تكون دولة قد أُسِّسَتْ على التطهير العرقيّ والعسكرة حليفاً طبيعيّاً ومتوقّعاً لأنظمة تشاركها "القيم" ذاتها.