نُسب إلى موشيه دايان ذات مرَّة قوله بأنه سيكون مستعداً لترخيص طيّار فلسطينيّ مقاتل قبلَ ترخيص دليل سياحيّ فلسطينيّ. أياً تكن صحة المقولة، سعى الاحتلال على مدى عقود إلى الاستئثار بقطاع السياحة في فلسطين، من خلال سيطرته على المواقع الدينية والأثرية، مغذيّاً اقتصاده، ومروّجاً للرواية الصهيونية عالمياً.
تغيَّر هذا الاحتكار تدريجياً مع مطلع التسعينيَّات من القرن الماضي، وذلك عندما برز، عقب الانتفاضة الأولى، اهتمامٌ عالميّ بزيارة فلسطين غيرُ مرتبط بالسياحة الدينية التقليدية. تزامن هذا الاهتمام مع إنشاء السلطة الفلسطينية، وترخيصها دلائل سياحيين فلسطينيين للمرَّة الأولى، فمهَّد كل ذلك الظروف لمبادرات خاصّة تنظّم نوعاً مختلفاً من السياحة في فلسطين.
غيابُ فلسطين عن السياحة فيها
كانت مجموعة السياحة البديلة ATG من أولى المبادرات السياحيَّة تلك، فتأسست عام 1993 في بيت ساحور، وسعَت إلى إبراز واقع الاحتلال من خلال السياحة. إضافةً إلى تعريفها بالتاريخ والثقافة الفلسطينيّيْن، وذلك من خلال استقدام مجموعات صغيرة من السُيّاح- على عكس السياحة التجارية- وضمان أكبر تفاعلٍ ممكن بينهم وبين الفلسطينيّين.
يشرح رفعت قسيس، أحد مؤسّسي ATG، أنَّ هذه "سياحة عادلة"، ويقول: "رأينا أنَّ السياحة التقليدية ظلمتنا كشعب فلسطيني على مستوييْن؛ أولاً لأنَّها غيّبتنا عن مشهد البلاد كشعب وكثقافة وكتاريخ، وغيَّبت روايتنا، في مقابل إبراز الرواية الصهيونية. ثانياً، ظلمتنا السياحة التقليدية اقتصادياً. ذلك أنَّ حصة الأسد من العوائد الاقتصادية للسياحة تذهب للاحتلال". يشيرُ قسيس بذلك إلى مكوث السياح في فنادق إسرائيلية، وإجراء حجوزاتهم عن طريق مكاتب إسرائيلية.
سياحةُ المغامرة
في السنوات الأولى للانتفاضة الثانية، كان الحضور الأجنبي في فلسطين، في سياق التضامن، يغلب عليه طابع الانخراط المباشر في الأحداث السياسيَّة. لا سيما أنَّ معظم المشاركين في أعمال التضامن في فلسطين قدموا من "حركة التضامن الدولية ISM"؛ الحركة التي أسسها ناشطون فلسطينيون وأميركيون عام 2001، وركزت على أسلوب محدّد من التضامن، وهو السفر إلى فلسطين والمشاركة المدنيّة غير المُسلَّحة مع الفلسطينيّين في مواقع المواجهة مع الاحتلال.
في السنوات التالية للانتفاضة، عرفت السياحة البديلة تطوراً نوعيّاً ارتبط بتطور حركة التضامن الدوليّة مع القضية الفلسطينيّة، أو بصورة أدقّ بتغيّر نوع السيّاح وأهدافهم. مكث عدد كبير من المتضامنين في فلسطين لسنوات، حاضرين في معظم الأحداث الكبرى للعقد الأول من الألفيَّة. إذْ كان بعضهم مثلاً في حصار المهد يحاولون إدخال المؤن إلى المحاصرين، وكانوا في مقر المقاطعة في رام الله يشكلون دروعاً بشريَّة أمام الدبابات أثناء حصار الرئيس عرفات. من رموز تلك الحركة راشيل كوري، الشابة الأميركية التي استشهدت أثناء محاولتها منع جرافةٍ إسرائيليَّة من هدم بيوت الفلسطينيين في رفح.
ولكن رغم الأهداف النبيلة للحركة وأعضائها، إلا أنّ رؤيتهم للتضامن اقتصرت على ما يفعلونه في فلسطين، وغيّبت بذلك الدور الأهمّ للتضامن الدولي؛ وهو الضغط والتوعية وحشد المزيد من التضامن في بلادهم. واجه هذا الفهم نقداً واسعاً، خاصَّة في السنوات اللاحقة للانتفاضة الثانية.
في دراستها لدوافع نشطاء حركات التضامن الدولي المنشورة عام 2008، أسمَت الباحثة صوفيا استاماتوبولو هذا النوع من التضامن "سياحة المغامرة" أو "سياحة الكوارث". منبهةً إلى أنّ هذه الطريقة التي يعرّف فيها المتضامنون أنفسهم "مع الفلسطينيين"، لمجرد قضاء فترة محدودة في فلسطين، ما يمنعهم في أحيان كثيرة من الانتباه إلى الامتياز الذي يحظون به هم كأجانب. وتمنعهم هذه الطريقة كذلك من تحمّل جزءٍ من المسؤولية عن الاحتلال، فمعظمهم مواطنون في دولٍ تجمعها علاقاتٌ وطيدة مع الاحتلال، أو يشاركون في تمويل الاحتلال بأموال ضرائبهم- في حالةِ الأميركيين.
"تجربة فلسطين"
بعدَ النقدِ الواسع الذي تعرّضت له، بدأت سياحة التضامن تغير ملامحها في الأعوام الأخيرة. تتركز الآن في أعمال التضامن في الخارج، خاصة مع انتشار حركة المقاطعة للاحتلال BDS، فساهمت بذلك في نقل الرواية الفلسطينية عبر المتضامنين الذين يزورون فلسطين. بدأ المنظمون والدلائل الفلسطينيون بإدراج أجزاءٍ خاصة في مساراتهم السياحية، توضح للسائح الفرق بينه وبين الفلسطيني الذي يعيش على الأرض.
اقرؤوا أيضاً: "عمليّة كناري".. ملاحقةُ وتعقّب أكاديميي المُقاطعة
شمل ذلك المرور بحواجز للاحتلال، يضطر فيها الدليل إلى النزول من الحافلة للتفتيش، فيما يبقى السيّاح على متنها. إضافةً إلى إدراج زيارة البلدة القديمة بالخليل في كلّ برنامج سياحيّ، ففيها حضورٌ كثيف لجنود الاحتلال ومستوطنيه، وواقع الفصل في كلّ زاوية من البلدة، ما يجعل من زيارتها تجربة قاسية على السائح، وتضعه أمام امتيازه كأجنبيّ في آن.
عبد الرحمن (25 عاماً)، دليل سياحيّ في مدينة الخليل، يعمل حصراً مع مجموعات السياحة التضامنيَّة، ويشدّد على أنّ الخليل محطة إجبارية: "كل زيارة فلسطين في كف وزيارة السائح للخليل في كف". يوضح عبد الرحمن: "عندما ألتقط عبوة غاز مسيل للدموع فارغة من مخلفات الاحتلال، ألفت انتباههم إلى أنّ ثمن هذه العبوة خرج من جيب واحد منهم".
لكن، ورغم أنّ جزءاً كبيراً من السيَّاح المتضامنين يأتون إلى فلسطين في إطار برامج لجمعيات، أو نقابات، أو أحزاب مساندة للقضية الفلسطينية، لها أنشطتها التضامنية في بلادها، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة انخراطهم في تلك الأنشطة لدى عودتهم. كما يعتبرُ بعضهم برامج تطوعية مثل تعليم الموسيقى في مخيم للاجئين، أو المساعدة في قطف الزيتون، بديلاً كافياً عن اشتراكهم في مظاهرة، ولأجل الهدف نفسه: الشعور بأنه عاش تجربة فلسطين، وأنه أدى ما يمليه عليه ضميره كمواطن في دولة متواطئة مع الاحتلال. على أهميَّة تلك الأنشطة التطوعيَّة، إلا أنَّ المجال الأساسي والأهم من التضامن يكمن في تحدي السياسات المتواطئة مع الاحتلال في تلك البلدان.
اقرؤوا أيضاً: شخير اللاجئين في مسرحيَّة أميركيَّة
بكلّ الأحوال، لا يعني ذلك أنَّ كلّ المتضامنين الباحثين عن خوض تجربة ما في فلسطين يبحثون عن إراحة ضميرهم بسهولة. هذا ما يبينه ميشيل آجيليرا، مصور فرنسي في عقده السادس، قدم فلسطين أربع مرات منذ عام 2012 في إطار زيارات تضامنية، مصطحباً مصورين شباب فرنسيين. يقول آجيليرا: "قبل قدومي إلى فلسطين، كان تضامني نظرياً بالمبدأ، انطلاقاً من قيمي اليسارية الإنسانية. لكن في فلسطين ترى الأشياء ببعدها الحقيقي. رأيت أناساً حقيقيين، لهم حياة حقيقية لا يعرفها غالبية المتضامنين في الخارج".
سحب التراخيص
لا تزال سياحة التضامن قائمة على مبادرات منفردة، فرغم تزايد عدد المكاتب السياحية الخاصة بالسياحة التضامنية، إلا أنها ليست منظَّمة كقطاع فرعيّ بشكلٍ رسميّ. ورغم وجود شبكة لمؤسّسات السياحة البديلة باسم NEPTO، تشمل السياحة الثقافية والبيئية والتراثية، إلى جانب تنسيق أنشطة تضامنية، كحملات زراعة أشجار الزيتون، إلا أنَّها لا تتبنى خط التضامن السياسي من خلال السياحة.
ثمّ إنّ المكاتب السياحيَّة الأعضاء في الشبكة، والتي تعمل في مجال سياحة التضامن، تواجه عقباتٍ وقيوداً من قبل الاحتلال. فكما يوضح مدير أحد تلك المكاتب، والذي فضل عدم كشف اسمه، فإنَّ العمل في بناء التضامن عبر السياحة يتطلب العمل على كامل الجغرافيا الفلسطينية، بما في ذلك أراضي 1948. ويعني ذلك إمّا توظيف دلائل من الضفَّة، يلزمهم تصاريح عبور على القدس والداخل، أو دلائل فلسطينيين من الداخل، يخضعون في تراخيصهم للسلطات الإسرائيلية، التي أوقفت بعضهم عن العمل أكثر من مرة إثر ضبطهم يتحدثون إلى السيَّاح "في السياسة".
تُفرَض القيود أيضاً على مستوى الدلائل داخل الضفَّة. فحين سجّل عبد الرحمن لدورةِ الدليل لدى وزارة السياحة الفلسطينية، للحصول على ترخيص للعمل، قيل له في مقابلة القبول للدورة إنَّ الحديث في السياسة يجب أن يكون ثانوياً وعابراً، وأنْ يكون متفقاً مع خطاب السلطة الفلسطينية الرسميّ. وفي امتحان نهاية الدورة، سئلَ عما سيفعله لو سأله سائح عن رأيه الشخصيّ بالوضع السياسيّ، فأجاب بأنَّه سيعتذر عن إبداء رأيه من منطلق مهنيّ، فقط كي يحصل على تصريح العمل.
هذا ما يلاحظه عبد الفتاح أبو سرور، مدير مركز رواد الثقافي الاجتماعي في مخيم عايدة في بيت لحم، والذي يستقبل سياحاً في المخيم، فيقول: "عندما يأتي السياح إلى المخيم، يتوقف أحياناً الدليلُ عن الشرح ويطلب مني أن أقولَ ما لا يستطيع هو قوله". إذْ لا يستطيع الدلائل، حسب أبو سرور، الحديث عن النكبة وعلاقتها بموقفنا من دولة الاحتلال، إضافة إلى الحديث عن المقاومة وتاريخها.
رغم الانطباع الذي قد تولّده سياحة التضامن بوجود هامش من حريَّة التعبير على الأقل من خلال السياحة، فإنَّ الواقع يثبت أنَّ سياحة التضامن ليست سوى ساحة قتال من أجل حرية التعبير هذه. تحصل معظم المحاولات الجادّة في الهوامش؛ هوامش سيطرة الاحتلال على المعابر وعلى قدرة الدلائل على العمل في القدس والداخل، والعراقيل أمام عمل مكاتب السياحة، إضافة إلى هوامش الخطاب الفلسطيني الرسمي، الذي ينسف الإمكاناتِ لبناء أيّ تضامن حقيقيّ. فإذا كانت فكرة وجود دولة وعمليَّة سلام في الواجهة، كيف سيسلط الضوء على الواقع الاستعماري على الأرض وفي كلّ زاوية؟
الفُرجة على الاحتلال
في ظلّ هذه الظروف، استطاع بعض الباحثين عن المنفعة الشخصية استغلال الاحتلال برمته كمعلم سياحي، مجرّدين إياه من معناه الحقيقي كجريمة استعمارية مستمرة. مثلاً؛ الجدار نفسه، والمستوطنين المحتمين به، أضحوا هم أنفسهم عنواناً ترويجياً لما يسمي نفسه "الفندق صاحب أبشع إطلالة في العالم"، لأنه جعل مدخله أمام الجدار الفاصل في بيت لحم، بذريعة أنه نكتة ساخرة. هو الفندق الذي افتتحه الفنان العالمي بانكسي1بانسكي: فنان جرافيتي إنجليزي تنتشرُ أعماله في العالم، بينما ليس هناك تأكيدٌ على هويّته الحقيقيَّة. بالقرب من مخيم عايدة عام 2017.
اقرؤوا أيضاً: "البلاك آند تانز".. من أيرلندا إلى فلسطين
أمام هذا الواقع، يمسي العمل في السياحة البديلة متوقفاً على قرار شخصي، بين المنفعة السهلة على حساب القضية، أو خدمة القضية، حتى لو كان ذلك على حساب المنفعة. ويتطلّب هذا القرار وعياً عميقاً بأنّ بناء التضامن الدولي مع فلسطين عبر السياحة ليس مهمة سهلة، وأن لا شيء سيجعلها سهلة في المستقبل. فالعاملون في سياحة التضامن لا يواجهون فقط دخول ثقافة الارتزاق إلى مجالهم، كما دخلت قبل ذلك إلى العمل الحزبي والعمل الاجتماعي، بل يواجهون أيضاً منافسة، على المستوى الدولي، من قبل خطاب فلسطيني رسمي لم يتردد، في لحظة من لحظات سقوطه الكثيرة، بإدانة حركة المقاطعة للاحتلال.
لكن هذه الظروف هي السياق الطبيعي لمن يعمل تحت وطأة الاحتلال، لبناء التضامن في مواجهته. ولو كان سهلًا، لما كان احتلالًا. ككل شيء آخر في محاولة الفلسطيني لاستعادة صوته، سياحة التضامن تحمل كل صفات المواجهة غير المتكافئة. تعتمد على الأفراد، والأفراد على قرارهم المبدئي، وتتحرك في الهوامش. لكن التحدي الأكبر الذي تواجهه سياحة التضامن، كان ولا يزال، هو الحفاظ على وضوح الخيط الرفيع الي يفصل بين بناء التضامن، وبين بيع خدمة تطهير مجانية لضمير من يبحث عن تضامن سهل.