أضحى الإغلاقُ المستمرُ لمعبر رفح البريّ – بوابة سفر سكان غزة إلى مصر والعالم- من عام 2007 وحتى 2017 سبباً رئيسياً في تزاحم قوائم المُسجِّلِين للسفر لدى وزارة الداخليّة الفلسطينيّة في غزّة، ودافعاً كذلك لابتكار وسائل "غير مباشرة" لتحويل رغبة السّفر إلى حقيقة.
في ظلّ ذلك، نجح بعضُ من يملكون علاقةً جيّدةً مع ضابطٍ مصريٍّ في المعبر في السّفر دونَ الحاجة للتسجيل في وزارة الداخليّة، وإنما من خلال التواصل مع الضّابط المصريّ مباشرةً وتقديمِ مبلغٍ ماليٍّ له. يسعى هؤلاء للسفر، لأهداف الهجرة أو حضور المؤتمرات والدورات أو غير ذلك من الأسباب، دون الانتظار الطويل في قوائم المسجّلين للسفر، خاصّة أن وزارة الداخليّة تُعطي الأولوية للمرضى والطلبة وأصحاب الإقامات.
عادةً ما تُسمّى هذه الطريقة في الاعتماد على العلاقات مع ضباط مصريين "التنسيق"، وتسمّى القائمة التي تحوي أسماء المسافرين عبرها "كشوفات التنسيق".
تصلُ كشوفات التنسيق من إدارة معبر رفح المصرية مُباشرةً إلى إدارة معبر رفح الفلسطينية في أيام عمل المعبر، وكل قائمة تحتوي أسماء المسافرينَ ذلكَ اليوم ممن استطاعوا "التنسيق" مع المصريين. في كلِّ مرةٍ، وهي مرات قليلة، يفتح فيها المعبر أبوابَه للمسافرين، تُسافِر بالمتوسط حافلتا "تنسيق"، بواقع ما يقارب 20-30 شخصاً في الحافلة، وفقاً لموظفٍ فلسطينيٍّ يعملُ في ختم الجوازات على المعبر. يُعطى هؤلاء الأولوية في المرور عبر المعبر، ولذلك فإن حافلاتهم تكون أولى الحافلات المسافرة، وهي تُعطل بذلك من ينتظرون في قوائم وزارة الداخليّة.
"تجارة التنسيق"
في البداية، ارتكزت هذه "الطريقة" على ورقةِ توصيةٍ من ضابطٍ مصريّ تُسهِّلُ سفرَ حاملِها. يدفع المسافر، بشكل مباشر أو عبر وسيط، مقابل ذلك 1200-1500 دولار تقريباً، وفي الحالة الثانيّة تُقسَّم بين الوسيط وبين الضابط المصريّ بنسبة 2 إلى 6.
لاحقاً، تطوّرت "الطريقة"، لتأخذ شكلاً تجاريّاً وطابعاً استغلالياً لحاجات الناس، خاصّةً أنّ بعض الضباط المصريين يرون في معبر رفح فرصةً لتحقيق عائدٍ ماليٍّ لهم، وهو ما يدفعهم لإرجاع بعض المسافرين، وبالأخص الشّباب، أحياناً بدون حجة، أو بحجة "المنع الأمنيّ"، دون التأكد من وجوده أصلاً أو توضيح مُسبباته. ما إن يُغَادِر هؤلاء الصالةَ المصريّةَ راجعين إلى القطاع بعد فشلهم في السّفر، حتى يـتـلَـقـفَـهُم الوسطاء الفلسطينيون لإقناعهم أنّهم قادرون على حلّ مشكلتهم أو إلغاء "المنع الأمنيّ"، ولكن بـ"ثمنٍ ماديّ".
وصل هذا الثمن الماديّ في بعض الحالات إلى أكثر من 3 آلاف دولار، خاصّةً في الفترات التي اقتصرت فيها مدة فتح المعبر على يومين أو ثلاثة أيام، ومن ثمّ يعود لينخفض إلى ما يقارب 1500 دولار في الفترات التي يفتح فيها المعبر لأيامٍ أكثر.
وإن كان بعض الفلسطينيين في غزّة مستعداً لدفع هذا الثمن، إلا أنّ غالبيتهم الساحقة لا تحتفظ به تحت وسائدهم، خاصّة في سياق الأوضاع الاقتصادية الصعبة في القطاع. حينها تكون الاستدانة هي الحلّ، كما فعل إبراهيم حكمت (25 عاماً) الذي هاجر إلى إسبانيا، واستدان لغرض ذلك 1200 دولارٍ، على أن يسدّ دينه بعد وصوله وحصوله على عمل، حاله كحال أغلب المسافرينَ معه في حافلة التنسيق الأمني آنذاك.
المُنسق لهم على حساب القوائم الرسميّة
عندما نجح حكمت بالسّفر عبر التنسيق مع المصريين، كان يعرف أنّه أخذ دور فلسطينيٍّ آخر سجّل نفسه للسفر بشكلٍ نظاميّ عبر وزارة الداخليّة، لكنه كانَ مضطراً حسب تعبيره. قال حكمت: "أتاحَ لنا التنسيق رغمَ استنزاف المال فرصةً للسفر في وقتٍ قريبٍ، لا خيار آخر أمامنا، إما أن توافق على رشوة المصريين، أو تنتظر التحرك البطيء لقوائم السفر الشرعية حتى تضيعَ فرصتك أو تَملّ".
عشرات الجرحى في مسيرة العودة أَوْلتهم وزارةُ الداخليّة الأدوار الأولى في السّفر على حساب آخرين، رغمَ ذلك كانَ خروجُهم من غزّة بطيئاً ورتيباً بسبب مزاحمة حافلات التنسيق لدورهم، خاصّة أن المصريين يلجأون إلى تمرير حافلات التّنسيق أولاً، ومن ثمّ الحافلات التي تَحمِلُ المسجّلين عبر وزارة الداخلية.
الجريح عزات الأقرع (28 عاماً) من شمال قطاع غزة تأجّلَ سفرُ حافلته يومين متتاليين بسبب سماح المصريين لثماني حافلاتٍ في السابع عشر من مايو/أيار الماضي منها ثلاث للتنسيقات بالعبور، الأمر الذي استدعاه للمبيت عند صديقه في رفح حتى يأخذَ دوراً للسفر.
كما يلجأ إلى التنسيق مع الضباط المصريين بعضُ من يرغب بالسّفر وعليه أمر قضائي بمنع مغادرة القطاع، خاصّة من المُتهمين بقضايا جنائية أو مالية، مستغلينَ عدمَ اطلاع الجانب الفلسطيني على كشوفات التنسيق المصرية حتى موعد السفر بساعاتٍ فقط. أمّ عماد بدران (63 عاماً) مثلاً أضحت ضحيةً لتاجرٍ سرقَ مالها، ولمّا حُكمَ عليه قضائياً بتهمة التّهرب من سداد الدين، هربَ من غزة عن طريق تنسيقٍ أمنيّ.
وكذلك وصلَ الشاب "ت.ب"، والذي كانَ ممنوعاً أمنيّاً من دخول مصر بسبب انتمائه لجماعة السلفية الجهادية، إلى تركيا هذا العام عن طريق معبر رفح بعدَ أن دفعَ 5 آلاف دولار كتنسيقٍ أمنيّ لضابطٍ مصريّ بوساطة صاحب مكتب سفريات من غزة.
هذا المبلغ المرتفع، 5 آلاف دولار، يدفعه عادةً من يبحثون عن ضمان المرور من حواجز مختلف الجهات الأمنيّة في مصر، وهي المخابرات العامّة في معبر رفح، والمخابرات الحربيّة من خلال حواجز الجيش المصريّ في سيناء، وأمن الدولة في مطار القاهرة.
يلجأ عادةً لهذا النوع من التنسيق، الذي يُطلق عليه "التنسيق دون العرض"، الممنوعون أمنيّاً من دخول مصر، وأغلبهم من المرتبطين بنشاطات الفصائل الفلسطينية المقاومة في غزة. بعض أولئك يفشل في الحصول على تنسيق حركيّ للمرور من مصر والسّفر عن طريق مطارها، فيلجأ لإدراج اسمه عبر قائمة "دون العرض" مقابل هذا المبلغ المرتفع، على أن يتحرك مباشرة من المعبر باتجاه المطار، ولا يمكث في مصر.
وزارة الداخليّة .. هل من رد؟
وبما أنّه ليس لكل فلسطينيّ علاقة بضابط مصريّ، تحوّل التنسيق إلى "صنعة" جديدة لمكاتب السفر. لم يكن العثور على المنسق (أ.ز) صعباً، فيكفي أن تقصد مكتبَ سفرٍ على علاقةٍ مع ضابطٍ مصريّ، أو تسألَ صاحباً سافرَ عن طريقهم ليدلّكَ عليهم.
وعلى الرغم من أن الحكومة في تصريحاتها تعتبر التنسيق للسفر "غير شرعيّ"، إلا أنها لا تتخذ خطوات "جدّية" لمنعه. على العكس، يبدو أن ما يحصل من جهة الحكومة يندرج ضمن إطار "التنظيم" لا أكثر فمثلاً، أجبرت الحكومة المنسقين الذين كانوا يعملون بشكلٍ فرديّ على العمل مع مكاتب للسفر، وإجبارهم كذلك على تسجيل مبالغ التنسيق ورقيّاً.
الشاب (أ.ز) قال إنّ وزارة الداخليّة أجبرته على العمل في مكتب سفرٍ بعدَ أن كانَ يُنسق للمسافرينَ منفرداً، ويربحُ عن كلِّ مسافرٍ ما بين 200 إلى 300$، ويحوّل باقي المبلغ عن طريق شركات التحويل الماليّ (مثل ويسترن يونيون) إلى حساب الضابط المتعاون في القاهرة.
كما أن وزارة الداخلية في غزّة، وفق (أبو النور) -منسق آخر تواصلنا معه- تُجبِرُ المنسقين على توقيع ورقةٍ تُفيدُ باستلامه مبلغاً ماليّاً من المسافرينَ عبر تنسيقٍ أمنيٍّ، وفي حال لم ينجح التنسيق يستردّه صاحبُه.
تلكَ الرقابة غير العلنية، أو التّنظيم غير المباشر إن صحّ القول، فسّرها الناطق باسم وزارة الداخلية إياد البزم بالقول إنّ وزارته تسعى إلى "حماية المسافرين بتنسيقٍ أمنيٍّ من الوقوع في شرك عمليات النصب، لذا تتابع المُنسِقين لضمان عدم الاحتيال على المواطنين". وأضاف البزم: "دورنا هو مساندة هيئة المعابر التي ترسل لنا قوائم السفر من المعبر ولا نتدخل فيها مطلقاً".
وحتى عندما تحاول وزارة الداخلية الحدّ من ظاهرة التنسيق للسفر، فإنّ ذلك يبقى شكليّاً - حتى اللحظة. في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مثلاً، أصدرت وزارة الداخليّة قراراً بمنع العمل بنظام التنسيق وبإجبار مكاتب السفر على تعليق ورقة في مكاتبهم تُفيد بأنهم استجابوا لطلبها، ولكن بعد ذلك بيومٍ واحدٍ، سافرت حافلات التنسيق باتجاه مصر، وفقَ ما أكده المُنسق (أ.ز)، ونشرته مجموعة مختصة بمتابعة أخبار رفح على الفيس بوك. في المقابل، ينقل البعض أخباراً عن اعتقالات ضدّ العاملين في التنسيق وعن صعوبات في الحصول على تنسيق.
من الصعب أن تُلغي مصر التنسيق الأمنيّ الذي يعتبر مكسباً ماديّاً للضباط ورجال الأمن بهذه السهولة"، قالَ (أ.ز)، ضارباً المثل بأنّ: عشرين فلسطينياً ينسقون للسفر مثلاً يضخون 26 ألف دولار في حساب الضباط المصريين، ويتضاعف المبلغ كلما زاد المُنسق لهم. وعندما حاولت الداخليّة منع حافلات التنسيق بهدف القضاء على الظاهرة، تعذر المصريون بعطل الحواسيب في المعبر لإغلاقه.
يخضع المسافرونَ الفلسطينيونَ لسلطة الأمر الواقع في السّفر الذي تحدد شكله وشروطه وظروفه مِصْر، والذي ازداد سوءاً بعد الانقلاب العسكريّ على الرئيس محمد مرسي. وبعدَ إغلاقاتٍ متكررة لمعبر رفح على مدار سنواتٍ طويلة، يبدو أنّ الفلسطيني استسلمَ لفكرة الابتزاز الماليّ التي يمارسها عليه ضُباطٌ مصريونَ ووسطاؤهم في غزة، وسطَ تراخي الإجراءات الحكومية الفلسطينية من غزة المُقيدة -هي كذلك- بسلطة الأمر الواقع ذاتها.