مُنذ الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية بيروت عام 1982 والقوى السياسيّة الفلسطينيّة - القديمة والجديدة على حدٍ سواء- تُراوح مكانها بين الدعوة إلى "إصلاح منظّمة التحرير الفلسطينيّة" و"الحفاظ على المُنظّمة" ولو يافطة وصَنَم! وبعد تجربة مريرة بدأت عام 1974، فشلت قيادة المنظمة في تحقيق "مشروع الدولة المستقلة" ولم يتحقق الإصلاح المنشود، فتَصَدَّع المشروع الوطني التّحرري، وتلاشت مؤسَّسات المنظمة مقابل تكريس سلطة الحكم الذاتي وأجهزتها.
أيضاً شُطبت بنودٌ من الميثاق الوطني الفلسطيني، فاستحالت المنظمة هيّكلاً هُلامياً غريباً تركَبهُ شرائح طبقية تُهيمن على القرار السياسي، وتستند إلى حركة "فتح" (حزب السلطة) في حلفٍ طبقي مرجعيته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكيان العدوّ. 1شُطبت هذه المواد من الميثاق الوطني برفع الأيدي في مشهد هزلي، بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون، إذ عُقد المجلس الوطني بطلب أميركي إسرائيلي، في قطاع غزة بتاريخ 8/11/1998.
وبالاستناد إلى التجربة وحقائقها، تُدرك الأكثرية الشعبيّة في فلسطين المحتلة والشتات، أنّ الطَرَف الذي ظلّ يُفرمل ويُعطّل "عملية الإصلاح" هو ذاته المستفيد من واقع المنظّمة – السلطة المهترئ. فهذا الاستنقاع المتواصل في الوحل يضمن لحركة "فتح" والطبقة الفاسدة استمرار هيمنتها واحتكارها لـ"وحدانية التمثيل" و"الشرعية الفلسطينية"، وهي تستقوي بــ "اعتراف المجتمع الدولي" والجامعة العربية والاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال، وتواظب على تقديم نفسها باعتبارها "حارسة الشرعيّة" في مواجهة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" والقوى التي تريد "تهميش المنظمة وتشكيل البديل"! هكذا أصبحت المنظمة - السلطة - جزءاً طبيعياً من منظومة الاستعمار وأدواته، ومن نظام عربي يتداعى ويتأرجح بين عاجزٍ ومتواطئ.
الحقيقة أن عملية تدمير وتهميش "المنظمة" جرت في وتيرة سريعة جداً على يد قيادة المنظمة أولاً، كما أن "البديل" تشكّل مع تأسيس سلطة الحكم الذاتي في "المناطق الفلسطينية"، فهذه السلطة بَلعَت المنظمة وصارت بديلها، وحددت وظيفتها الإقتصاديّة والأمنيّة بـ: تكديس الثروة لصالح فئات وشرائح بعينها، وقمع الفلسطينيين وحماية مستعمرات العدوّ، وإحكام سيطرتها وقبضتها على "ختم المُنظّمة"!
"إصلاح المنظمة".. مطلب قديم طال عمره
كم مرّة وقف الدكتور جورج حبش يصرخ ويدعو إلى "الإصلاح الديمقراطي في مؤسَّسَات منظمة التحرير" قبل سنوات من ظهور حركة "حماس؟! كم مرّة وقع "الانقسام" بين "فصائل الثورة" في لبنان وصولاً إلى "الحوار" بالرصاص وراجمات الصواريخ؟ كم كاريكاتير رسم الشهيد ناجي العلي عن الفساد في مكاتب المنظمة وعن أوهام قيادات الفصائل وتبعيتها؟ كم مثقفٍ نقديّ جرى فصله وعزله وطرده من مراكز التخطيط والأبحاث في بيروت؟ كم دورة "توحيدية" فاشلة ومزورة عقدها المجلس الوطني في القاهرة وعمّان والجزائر ودمشق؟
كما خَرَجَت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها من فصائل من مؤسَّسات المُنظّمة، أكثر من مرّة، وشكّلت تكتلات جديدة مثل "جبهة الرفض" و"جبهة الإنقاذ"، غير أنها لم تذهب نحو البديل الثوري تماماً، وظلّت تستأنس بموقع "المعارضة"، وأبقت الباب مفتوحاً أمام "وحدة وطنية" شكليّة، فيما ظل التيّار المُهيمن في المنظمة يُوظّف "صورة الوحدة" و"الشعار" لصالح برنامج التسوية فيكرّس سَطوته أكثر على مؤسَّسات المنظمة وفق قاعدة عرفاتية تقول: "قُل ما تشاء وأنا أفعل ما أشاء".2شكّلت الجبهة الشعبية والقوى الرافضة للتسوية ما سُمّي بـ "جبهة الرفض الفلسطيني" عام 1974، لكنها ما لبثت أن عادت إلى المنظمة، وبعد الخروج من بيروت 1982 تأسست "جبهة الانقاذ الوطني الفلسطيني" عام 1985 احتجاجاً على "اتفاق عمان" بين المنظمة والملك حسين. عادت هذه القوى من جديد إلى المنظمة بعد انطلاقة الانتفاضة الشعبية عام 1987، غير أنها انسحبت بعد توقيع اتفاق أوسلو 1993 وشكلت "تحالف الفصائل العشر" في دمشق بمشاركة "حماس" و"الجهاد". هذا كلّه سَبَق تأسيس "حماس " و"الجهاد الإسلامي" والقوى التي يجري اعتبارها اليوم "خارج الشرعيّة الفلسطينيّة"!
اقرؤوا المزيد: كيف ابتلعت حركة فتح منظمة التحرير؟
إذن، إلقاء المسؤولية وتعليقها على "حماس" هدفه السيطرة على القرار السياسي والمالي، ومنع توسيع المشاركة الشعبية في عملية الإصلاح الداخلي، والحيلولة دون مشاركة فصائل مركزية وازنة في تصويب البوصلة الوطنية. ولا ننسى وجود فيتو أمريكي صهيوني جاهز يقف بالمرصاد، فالقرار الفلسطيني "المستقل" في تل أبيب وواشنطن وبروكسل.. وليس في رام الله!
كما يبدو أن جماعة الحكم الذاتي وصلوا إلى قناعة تقول: إذا جَرَت انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني، حتى ولو شكلية ومزورة، ستفقد طبقة أوسلو جزءاً كبيراً من امتيازاتها ومواقعها لصالح قوى المقاومة. فسلطة الحكم الذاتي تريد أن تظل في المساحة الآمنة والمسموحة، وهي التي تقرر متى وكيف وأين يكون "الحوار" وتفضل أن تستنفر أجهزتها وتستحضر فزاعة "الشرعية" و"خطر البديل" للهروب من الضغط الشعبيّ.
هل نبقى متفرجين أم نلحق بـ "أبو مازن"؟
أمام هذا المشهد يُصبح السؤال الطبيعي والمشروع: ما هو البديل الوطني والشعبي أمام الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة الفلسطينية؟ كيف تتحرك قوى التغيير الثوري والتيارات الشعبية المناضلة في عموم الوطن والشتات؟ وكيف تؤسس جبهتها الوطنيّة الموحدة؟
إنّ الخيار الوحيد المتبقي أمام الفلسطينيين هو الشروع الفوري في إعادة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. وإذا توافرت لذلك الأمر الحوامل السياسيّة والتنظيميّة والماليّة والإعلامية، والحاضنة الشعبية المسنودة بسلاح المقاومة، فإنّ ذلك يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا مُنظّمة تحرير ثورية وجديدة هدفها تحقيق العودة والتحرير، أو اللحاق بمنظمة أبو مازن.
وقبل أن يقفز أحدٌ ويستقوي علينا بـ"المجتمع الدولي" و"الجامعة العربية" وينفخ عزام الأحمد في وجهنا فيقول: العالم لن يعترف إلا بالمنظمة (القديمة طبعاً)! نقول: إنّ حركة التحرر الوطنية التي تناضل للخلاص من الاستعمار لا تستجدي الحصول على اعترافٍ شكليّ من قوى الاستعمار والقوى الرجعية وما يسمى "الرباعية الدولية"! هذا "الاعتراف" في الواقع يُشكّلُ عبئاً ثقيلاً على الفلسطينيين وذريعة جاهزة لحصارهم. مقابل ماذا؟ مقعد فارغ لا قيمة له في الأمم المتحدة؟ هذا خازوق أصلاً! إنّ هدف حركة التحرر الفلسطينية والعربية هو إنجاز مشروع العودة والتحرير، وإزالة الكيان الصهيوني من فلسطين والمنطقة، لا التنافس على الاعتراف الدولي والعربي الرسميين.
ثمّة فرق كبير بين من يبحث عن "الحل" ومن يبحث عن النصر. وإنّ من يفرض إرادته بقوة شعبية ويقاتل من أجل قضية عادلة سيركض إليه العالم ويعترف بشرعيته مُرغماً، في السّر والعلن، فالعنصر الحاسم يظل موقفُ الجماهير الفلسطينيّة والعربيّة التي لا تزال تحتضن قضيتها المركزية وتُشكّل الصَدَفة القويّة حول المقاومة وتحمي المشروع الوطني التحرري، وليس أيّ طرفٍ آخر. والمقاومة الفلسطينية تُراكم يومياً المزيد من القدرة والتجربة، ويملك الشعب الفلسطيني الكثير من عناصر القوة الصلبة والناعمة، كما أن موازين القوى الراهنة في بُعديها العربي والإسلامي، كما على المستوى الدولي، ليست قدراً أبدياً.
التحرك مسؤولية الجميع
إنّ التأسيس الثالث لمنظّمة التحرير مسؤولية فرديّة وجماعيّة، ومهمّة وطنيّة وقوميّة مُمكنة على ضوء موازين القوى الجديدة في الساحة الفلسطينية، وبعد فشل مشروع "التسوية" وانكشاف طبقة أوسلو أمام الجماهير الفلسطينية والعربية من المحيط إلى الخليج. وهو أيضاً مهمّة سياسية ومسؤولية تاريخيّة أيضاً، تقع على عاتق القوى والتيارات الوطنيّة والإسلاميّة والتشكيلات العسكريّة والسياسيّة المنضوية في إطار معسكر المقاومة، التي تَرى ضرورة وحاجة في الانتقال من الحالة الراهنة إلى فضاء الثورة، كما ترى في العمل الفدائي خياراً استراتيجياً للتحرير والعودة. على هذه القوى والشخصيات والطلائع الوطنية توحيد جهودها وبناء جسورها، والقطع التام مع نهج الحكم الذاتي: فإمّا إعادة تأسيس منظمة التحرير بإرادة شعبية فلسطينيّة وعربيّة أو ستبقى هذه القوى تراوح مكانها، وتبحث عن شراكة مع هياكل فقدت شرعيتها. وهنا من المهم أن نذكر أنّ الهروب مُجدداً إلى جولة جديدة من "المصالحة"، أو لعب دور المتفرج، كلها تعني المزيد من هدر الوقت والدم، والبقاء في دوائر المراوغة والعبث.
إنّ الشرعية الثوريّة والدستوريّة ليست مسألة "قوانين وإجراءات" ولا تحققها "لقاءات الفصائل" بل عملية نضالية شاقة وطويلة تصنعها إرادة الشعوب في مسار التّحرر نفسه. ولن تأتِ بـ "مَكرَمة ملكية" ولا بشروط جاهزة كما فعل النظام العربي في قمة "فاس" عام 1974 حين اعترف بالمنظمة "ممثلاً شرعياً وحيداً" وفق ضوابط وشروط محددة، بعد أن أعدّها وألبسها حُلّة جديدة، وقدَّمها إلى الأمم المتحدة تحمل "غصن الزيتون" في يد و"برنامج الحل المرحلي" في اليد الأخرى، وتستعد للتكيف مع ميزان القوى.
"الانقسام والوحدة"؟.. آن لهذا النقاش أن ينتهي
ربما يرى البعض في الدعوة إلى القطع الكامل مع نهج الحكم الذاتي وإعادة تأسيس مُنظّمة التحرير الفلسطينية "تعميقاً للانقسام"، ولكن هل من جديد يقدمونه بدل ذلك؟ فالحلول التي كانت ممكنةً عام 1972 لم تعد كذلك في 2023، والعالم يتغير يومياً. هناك انكماش تدريجي للإمبراطورية الأميركيّة، وهناك مُتغيرات نوعية داخل كيان الاحتلال، وأخرى طالت مجتمعاتنا الفلسطينية والعربية خلال العقد الأخير. ثمة قوى آفلة وأخرى صاعدة، ولم يَعُّد في وسع الشعب الفلسطيني انتظار الفرج على يد طبقة سَرَقت تضحياته ودمرت مؤسَّساته الوطنية، ولا تدافع إلاّ عن قصورها وإمتيازاتها الخاصّة، فيما ترتكب الجرائم اليومية في "مسلخ أريحا"، ومستعدة للذهاب إلى الشراكة الكاملة مع العدو.
اقرؤوا المزيد: هناك انقسام؟ ولكن حول ماذا؟
كُلنا نعرف كيف جَرَت عمليّةُ التجريف للمشروع التحرّري الفلسطيني على نار هادئة، وكيف انهارت مؤسّسات منظّمة التحرير بعد مؤتمر مدريد التصفويّ عام 1991، وكيف جرى تفريغ الاتحادات الشعبية والنقابية الفلسطينية من مضمونها الوطني الديمقراطي فأحالتها إلى مزارع خاصّة. ثم ظهرت المنظّمات غير الحكومية التي أصابت مجتمعَنا كالعدوى، فجلستْ مكانَ الحركة الوطنية وأطرها الشبابيّة والطلابيّة والنسويّة والعمّاليّة، وأعادت إنتاج نقاباتها ومنظّماتها وبرامجها وفق شروط وقواعد ليبراليّة غربيّة ومنزوعة من مضمونها الشعبيّ والتّحرري.
كما لم تَعُد منظمة التحرير "جبهة كل الجماهير" و"كل الطبقات" ولا ظلت مُلكية جماعيّة للشعب الفلسطيني بعد التخلّي عن الجزء المحتل من فلسطين عام 48 (أرضاً وشعباً) ومُصادرة صوت جماهير الشتات (60% من الشعب) وتأسيس سلطة القمع والفساد في الضفّة المحتلة، وحصار شعبنا في قطاع غزة وإقصاء الذين شيّدوا مداميك المشروع الوطني بالدم والعذاب ثم وجدوا أنفسهم، بعد إتفاق أوسلو 1993 بلا صوت أو سلاح.. جموع بشرية مُلقاة على قارعة الطريق تنتظر قوارب الموت.
اقرؤوا المزيد: "الانتخابات هي الحل"، ولك لأي مشكلة بالضبط؟
ولا تستطيع القوى "اليسارية" المُنضويّة في إطار المنظمة التّنصُل من مسؤوليتها في ذلك، إذ شاركت، ولو بمستويات مختلفة، في تشريع اتفاقيات المنظمة مع العدو. كما لا تستطيع "حماس" التّنصل من مسؤوليتها أيضاً بعد التوّرط الجزئيّ في شِباك السلطة، والمشاركة في الانتخابات التشريعية. ولم تنفع سياسة "الحرد" لدى منظمات اليسار في التغيير المطلوب ولم تحقق للشعب الفلسطيني مطلباً وطنياً واحداً، كما أن قوى المقاومة ومع كل جولة "مصالحة" تخسر جزءاً من مصداقيتها ورصيدها الشعبيّ.
View this post on Instagram
خطوة واحدة إلى الأمام
إنّ "مفتاح الحل" ليس مع أبو مازن كما يتصور البعض، فالحل الجذري كان وسيظل دائماً في المخيمات ومع الطبقات الشعبية الفلسطينية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير والعودة والتحرير، فإذا تقدَمت قوى المقاومة وطلائع وتيارات وشخصيات وطنية ذات صدقية، وقَدّمت جَرّدة حساب قاسيّة وصادقة مع الذّات، في العلن، وعَبّرت عن حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني، قولاً وعملاً، فإن منظمة التحرير الجديدة ستولد مرة أخرى بإرادة شعبية فلسطينية وعربية وستكون بمثابة العقد السياسي – الاجتماعي - الجديد بين الفلسطينيين وجسرهم نحو مرحلة نضاليّة جديدة.
إن المطلوب البدء في تأسيس نواة لجبهة وطنية جديدة تصون وحدة الشعب والأرض، وتقود عملية المواجهة والتصدي لمشاريع التصفية التي تهندسها دوائر أمريكية – صهيونية بتحالف وثيق مع عدد من الأنظمة العربية وكيان أوسلو.. فليس المطلوب حشداً وتجمعاً فصائلياً أو نخبوياً للردح الإعلامي ولا المزاحمة على كذبة "الشرعية"! ولا الادعاء بامتلاك رؤية شاملة متكاملة حول كل مسألة وقضيّة.. المطلوب باختصار خطوة نضالية عملية واحدة إلى الأمام على طريق العودة والتحرير.