خلال الأسبوعين الماضيين، أنعشت حملاتُ تبرع فلسطينيي الأراضي المحتلة 1948 والقدس لصالح إخوتهم في مخيمات شمال سوريا، قلوبَ الناس وذكّرتهم بمكامن قوّتهم المجتمعية وقدراتهم اللامحدودة للعطاء والتكافل والإسناد.
يتداعى أهل الخير ممن يثق الناس بهم، يجمعون التبرعات ويسدّون بها حاجة الفقير واليتيم. لا بل يبنون بها المدارس والمستشفيات ويوّفرون فرص العمل. كل ذلك من الناس إلى الناس، دون مؤسسات دولية تستهلك مال الناس ببيروقراطيتها المفرطة، ودون بنوكٍ وقروضٍ، ومشاريع تمويل مقترحة وانتظارٍ للموافقات المشروطة.
هذا هو مشهد التنظيم المجتمعي الشعبي الذي اعتدنا عليه في بلادنا، قبل أن تنهشه بحربها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وتمتد له أيادي السلطة الفلسطينية سعياً لهدمه، وإعادة تشكيله وفق مصالحها، التي ترتبط بطبيعة الحال بمصالح "إسرائيل" الأمنيّة. وهذا ما تذكرناه مع حملات التبرع للسوريين.
في الـ20 عاماً الأخيرة، وتحديداً بعد الانتفاضة الثانية، جهد الاحتلال في حصار العمل الخيري، وملاحقة أي مبادرة تعمل على بناء مجتمع متكافل. أغلق الاحتلال عشرات الجمعيات الخيرية واعتقل العاملين فيها، وضاعف تضييقه على حملات التبرع بذريعة "مكافحة أموال الإرهاب"، خاصةً إذا خُصصت لغزة.
فيما حلّت السلطة الفلسطينية أكثر من 130 مؤسسة خيرية بين لجان زكاة وأندية رياضية واجتماعية، ونشرت مكانها نوعاً محدداً من الجمعيات التي تنتظر تمويل المانحين وتعمل وفق ما يتيحونه من سقف محدد مسبقاً للنشاطات ونوعيتها، وهو ما ضرب معاني التكافل الحر.
وفي ذروة أزمة كورونا عام 2020، حاولت السلطة حصر التبرعات في هيئاتها، وتبين لاحقاً أنها أعطت منها لغير المستحقين. في المقابل، عرقلت حملات تبرع شعبية ولاحقت المسؤولين عنها. في يطا مثلاً اعتقلت رئيس جمعيةٍ للأيتام رفض أن تتولى السلطة توزيع تبرعات جمعها.
والحال كهذه، فإن السؤال الذي سأله البعض بنوايا حسنة: وماذا عن التبرع لقطاع غزة؟، يجب أن يُوسّع ليكون: من الذي اشتغل على تدمير مقومات صمود الناس في الضفة وغزة، وكل فلسطين، حتى لم يعودوا قادرين على تمويل أنفسهم بأنفسهم، وحتى أصبحت مقومات حياتهم الأساسية مُحاصرة من كل حدب وصوب.
تلك الحملات الشعبية وتنافس الناس على الخير، تذكّرنا بإمكانات المجتمع الذاتية وآفاقها المحتملة في حال أُتيحت لها الفرصة واستنهضت من جديد. تلك هي الإمكانات التي تعاون الاحتلال والسلطة على تدميرها، والتي كانت دوماً جزءاً لا ينفصل عن العمل النضالي ترافقه وتسنده، وضربها يعني ضربه.