17 نوفمبر 2025

15 سم بيني وبين نفسي

15 سم بيني وبين نفسي

ما إن شدّوا القيد على معصمي، حتى أسدلوا على عينيّ ليلًا لا ينقضي، عصبة سوداء لكنها كانت أشدّ قتامة من السواد ذاته، ظننتها إجراءً عابراً، وأنها عتمة قصيرة لإجراء جولة تحقيق؛ لكنها كانت البداية لحفرة من ظلام تسحبك إلى القاع، حيث يُغرس القهر في عينيك، ويُصبح النور شيئاً منسياً، كلما حاولت أن تتذكّره تُكذّبك حواسك.

خرقةٌ من القماش الخشن عرضها يقارب (15 سم)، ربطها الجندي بإحكام فوق عينيّ لا لتحجب عني العالم فحسب، بل لتخنق ما تبقّى فيّ من إدراك، تغطي ما بين الأنف والناصية، تُفقدني الرؤية وتضغط على رأسي كحبل المشنقة.

في سجن "سدي تيمان" - الذي أمضيت فيه نحو مائة يوم - تعدم الإنسانية، كان البركس المعدني كقبر جماعي لنا، يُحشر فيه أكثر من 120 أسيراً، مقيدي الأيادي، ومعصوبي الأعين، متكورين على رُكبهم، كأنهم صخور تنتظر العد، نُجبر أن نظلّ على ذات الهيئة من مطلع الفجر حتى انسحاب الليل، لا نحرك أجسادنا ولا نغير وضعياتنا. 

اقرؤوا المزيد: ثقب "سديه تيمان" الأسود

في منتصف النهار، تتسلطُ الحرارة علينا من سقف الصفيح كحمم تُسكب على أجسادنا، لا ظلّ يقينا، ولا هواء يتسلل إلى أجسادنا، العرق يُغرق الوجوه ثم يتساقطُ من تحت العصبة، يختلط بملح الدموع ثم تبتلعه مراراً جلودنا المتشققة، حتى تصبح العصبة قطعة من العفن، معلقة على العين كجرحٍ مشروخ لا يندمل، لم تكن تغلق أعيننا فقط، بل تُبقيها مشرعة على الالتهاب، والعدوى، والدوار.

لم تكن عصبة عين وحسب، بل طمساً بطيئاً للوعي، فمع كل ساعة تمرّ، تتحول من أداة حجب إلى أداة قهر، إذ لا يُراد لك أن ترى، ولا أن تتخيّل.

وجوه من الحكايات

كلّ بضع ساعات يُجبِر السجانون أسيراً يُسمى “الشاويش” أن يطوف علينا ويتنقل بين الأجساد المحنيّة، يتفحّص العصبات واحدةً تلو الأخرى، لا ليرى بل ليتأكد أنك لا ترى، يشدّ العصبة إن تراخت والسجان يراقبه خطوة بخطوة، ومن تسوّل له نفسه أن يترك منفذاً للضوء أو يعتق عينه من الظلام، فالعقوبة بانتظاره، صفع وركل وتعذيب متواصل، ففي هذا المسلخ الذي يرى يُعاقب، والذي يتخيّل النور يُعاقب بشكل أشد.

اقرؤوا المزيد: صلاة بأطراف الرموش في "سدي تيمان" 

في ظل تلك العصبة، يتآكل الزمن بلا صوت، آكل وأشرب وأنام وأقضي حاجتي، كل ذلك وأنا محجوب عن كل ما يُشبه الحياة، لا أملك أن أرى يدي، ولا أن أميّز الليل من النهار، ولا أن أفرق بين بداية اليوم ونهايته، كل شيء متشابه، ذات السواد والعتمة.

لوحة لـ جميلة عابد.
لوحة لـ جميلة عابد.

كانوا يقدمون لنا الخبز، قطعاً متعفنة لا تشبه الخبز إلا بالاسم، وكنت حين أهم بالأكل، أعجز حتى عن بتر الجزء المتعفن، لا أرى ما يدخل إلى فمي، أتلمسه بأطراف أصابعي المقيّدة وكأني أختبر وجعاً جديداً في كل لقمة.

اقرؤوا المزيد: عندما أكلنا خضاراً محشوة بالدُّود في "سدي تيمان"

مع الأيام، بدأت الأشياء تتلاشى من داخلي، واضطررت إلى إعادة بناء العالم من الصفر، من الصوت، ومن التنهيدة، ومن الضحكة المكسورة في لحظة استراحة مسروقة.

بدأت نسج وجوه رفاقي من الحكايات التي يروونها، ومن بحة أصواتهم، ومن طريقة صمتهم حين يمرّ الجنود، هذا صوته عميق، وحزين، لعله بوجهٍ مستطيل وعينين ذابلتين. وذاك يتحدث كمن يبتسم رغم الألم تخيّلت له وجهاً بشوشاً، وجبهته عريضة، وعيناه بلون البحر.

هكذا، تُولد الوجوه من غبار الصوت، وتغزل الملامح من خيوط الذاكرة المتآكلة، حتى نفسي بدأت أنسى شكلها، أحاول أن أتذكر كيف كنت، كيف كانت ابتسامتي، حدّة نظري، تكاوين جبيني حين أغضب، لكن كل شيء يهرب، ويصير وجهي مجرد فكرة ضبابية، مثل حلم لم تكتمل نهايته.

 أحقاً هذا أنا؟

مائة يوم وأنا معتقل في هذا السجن، أعيش بلا وجه، لم ألمح فيه ملامحي، ولم أنظر إلى مرآة، ولم أرمش أمام ضوء، ثم جاءت تلك اللحظة متأخرة كأنها لا تريد أن تأتي، عندما نادى السجان رقمي - وهو الهوية التي ألبسوها لنا حين جرّدونا من أسمائنا - وأخبرني أن المُحاكمة تنتظرني عبر مكالمة فيديو.

قادني الجنود مقيد اليدين من الخلف، لا أرى شيئاً، ولا أعرف إلى أين أسير، ثم فجأة وجدت نفسي في ساحة صغيرة. وقف الجندي أمامي، مدّ يده وفكّ العصبة، أسقطها أرضاً وداسها بقدمه، لم أفتح عيني مباشرة، كان الضوء كسكين يطعن عيني التي لم تعتدْه منذ وقت طويل، رغم ذلك لم أرغب في مقاومته، وأنا المتعطش للارتواء منه، فجأة، رأيت وجهاً على شاشة هاتف صغيرة، وضعوه أمامي كما يضعون جثة في حضن صاحبها.

اقرؤوا المزيد: صراخي لم يسمعه أحد.. عندما أغلقوا عليّ نعش السجن

حدّقت في الشاشة، فرأيتني.. أو رأيت شخصاً يُشبهني، كان وجهاً غريباً شاحباً، مرهقاً، أخاديدُ محفورة تحت عينيه، تكسوها هالات سوداء قاتمة، ولحية طويلة كأنها نبتت من ركام، وشيب يحفُّ أطراف رأسه، شعره كثّ، نافش، كمن عَبَرَ حريقاً ولم يخرج منه سالماً.

وقفت مذهولاً أمام صورتي، لم أُصغِ لكلمات القاضي، لم أفهم التّهم الموجه إليّ، لم أسمع شيئاً، ولم أجدني مهتماً في دحضها، أو الرغبة في نطق أي حرف، كنت أنظر إليّ كمن يرى شاهد قبره، وأقول في داخلي أهذا أنا؟ أحقًا هذا أنا؟

لوحة لـ جميلة عابد.
لوحة لـ جميلة عابد.

وقفتُ أمام ذلك الوجه، غريباً عني، شاحباً، متعباً كحكايةٍ لم تُروَ بعد، كان سؤال يثقل صدري، هل ستعرفني ابنتاي حين أعود؟ هل ستركضان إلى حضني كما كانتا تفعلان؟ أم سيتوقف الزمن عند عتبة اللقاء، ولن يجد له مكاناً في ذاكرة طفلتين لم ترَيا سوى وجوه مشرقة قبل السجن.

هل سأكون أنا، ذاك الرجل الذي اعتاد أن يحلم، ويضحك، ويحب، أم شبحاً له اسم فقط؟ أم عابراً في زمن لا أعرف له عنواناً؟

اقرؤوا المزيد: حين عرفت الله لأول مرة في السجن

يعيش الأسرى في سجون الاحتلال في ظلمات لا يراها إلا من مرّ بها، يقفون خلف القضبان حيث لا تنتهي المآسي ولا تتوقف المعاناة، تُعزل الأجساد، وتُفرض قيود أشد من الحديد، قيود العتمة، الجوع، والعزل، والقهر النفسي، هناك تنسى صوتك ووجهك ويغدو اسمك همساً تبتلعه الجدران.

أنا خرجت من تلك العتمة، واستعدت وجهي أخيراً، لكني أعلم أن هناك آلافاً ما زالوا خلف القضبان لا يعرفون ملامحهم، مكبلين بالقيود. خرجت، لكن قلبي ما زال هناك مع من يتوضؤون بالحلم، ويصلون لنور لا يعرف الطريق إليهم، لذلك سأكتب حتى يعود لكل واحد منهم وجهه، واسمه، وحريته.