إلى الشرق من مخيّم نور شمس في طولكرم، وتحديداً في حارة المنشية التي بدلّت جرافاتُ الاحتلال معظمَ ملامحها من بيوتٍ متراصةٍ إلى أكوامٍ من الركام، يعمل الكل كخليّة نحلٍ، يحاولون قدر استطاعتهم إصلاح وترميم وتنظيف المنازل والشوارع، بعد التدمير الذي نال منها إثر اقتحام جيش الاحتلال للمخيم في 18 نيسان/ أبريل 2024.
محمد مشارقة (45 عاماً)، فرّ من منزله برفقة أفراد العائلة بعد أن غرست جرافة D-9 الإسرائيليّة أنيابها في شرفة المنزل، ثمّ عادوا بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي. ينشغل هو الآخر، كجيرانه، في إصلاح ما يمكن إصلاحُه من المنزل المُدَمَّر. انتهى حديثاً من تركيب حائطٍ معدنيٍّ عوضاً عن الشرفة، وأنهى شقيقه نهاد، الذي يسكن الطابق الثاني من البناية ذاتها، إعادةَ تأهيل منزله بالكامل مستعيناً بعددٍ من العمّال.
وفي بقايا البناء المقابل لعائلة مشارقة يحاول وليد شهاب (54 عاماً) جَمْعَ ما يمكن من الأدوات المكتبيّة التي كانت تكتظ بها رفوف مكتبته، تلك التي أصبحت بلا جدران، ثمّ يصعد للطابق الثاني لمنزله الذي لم يترك فيه الجنود شيئاً سليماً. إنّها المرة الثانية خلال شهرين التي يهدم فيها جيش الاحتلال المكتبة وأجزاءً من البناية، وبعد أن رمّمها ها هو يعود للصفر مرةً أخرى! ولكن هذه المرّة هي الأكثر دماراً، إذ ترك تدميرُ الاحتلال فجواتٍ كبيرةً في البناية ممّا يُعرِضُها لخطر الانهيار.
الـ D-9: عنوان الاقتحامات الأبرز
كان اقتحام مخيّم نور شمس في 18 نيسان/ أبريل الماضي، أصعب وأطول اقتحام يشهده المخيم منذ انتفاضة الأقصى، إذ حاصَرَ الاحتلال المخيّم لثلاثة أيام وقطع عنه الكهرباء والماء والاتصالات، ودمّر البنية التحتية بشكل واسع، ومنع سيارات الإسعاف والفرق الطبيّة من الدخول لإسعاف الجرحى وإخلائهم. شاركت في هذا الاقتحام عشرات الآليات العسكرية والطائرات المُسيّرة التي استخدمت للقصف، وكذلك الجرافات، يصحبهم مئات الجنود، انسحبوا بعد أن خلّفوا 14 شهيداً.

لا تحتاج في مخيّم نور شمس للبحث عن الدمار؛ فهو جزء من الصورة حيثما يقع البصر، فقد طالت أسنان الجرافات العسكريّة الإسرائيليّة وأذرعها، بشكل ممنهج وبمستويات مكثفة، كل ما في طريقها ابتداءً من الشوارع إلى الأشجار، وصولاً لهدم المباني والمنشآت بكل أنواعها؛ منازل، محلات، مؤسسات رسمية، سيارات، أكشاك وبسطات، وغيرها.
وقد غدت الجرافات العسكريّة في العامين الأخيرين مرافقاً أساسياً لقوات الاحتلال عند اقتحامها للمخيّمات والبلدات التي تحتضن المقاومين في الضفّة الغربيّة، وهو ما تكرر وتكثّف في مخيمي نور شمس وطولكرم. أبرز تلك الجرافات، جرافتا D-9 و D-10، وهي نُسخ مُعدّلة ومطوّرة من جرافة كاتربيلر Caterpillar ذات الاستخدام المدنيّ، وعادةً ما تتقدّم القوات المقتحمة بهدف جرف الطرقات والكشف عن أي عبوات ناسفة قد تكون مزروعة فيها، وتدمير التحصينات. كما تستخدم لتدمير البنية التحتيّة والمنشآت انتقاماً من الحاضنة الشعبيّة ولتأليبها على المقاومين.
وتشهد مدينة طولكرم بمخيّمها نور شمس وطولكرم منذ تموز/ يوليو 2023 سلسلة من الاقتحامات، خلّفت حتى الآن أكثر من 50 شهيداً، وذلك في سياق محاولات الاحتلال القضاء على المقاومة باعتقال أو اغتيال المقاومين، ويسلك الاحتلال سياسة التدمير الممنهج للبنية التحتية بهدف ضرب الحاضنة الشعبيّة.

للمرة الثالثة أو الرابعة!
خلال فترة الاقتحام (18 - 20 نيسان)، استباحت قوات الاحتلال عشرات المنازل، واتخذت من بعضها ثكنات عسكريّة، فيما اعتلى القناصة أسطح البنايات، وكان الرصاص يمطر كل شيء. وتعمد الاحتلال تخريب كل شيء، حتى لو انتفت عنده "الحاجة التقنية"، ومثال ذلك تفجير الأبواب. يقول حكمت عمرو، عضو لجنة خدمات المخيّم: "الجيش يصر على تفجير الأبواب حتى لو كانت مفتوحة أمامه، وعندما يطلب السكان من الجنود أن يسمحوا لهم بفتح الأبواب يرفضون ذلك ويصرون على تفجيرها، بهدف الأذى وتخويف وترهيب السكان ومن ضمنهم الأطفال". ويضيف عمرو: "مقابل عدم وصولهم لأهدافهم يرتكبون جرائم القتل والتدمير".
في إحصائيةٍ أوليّةٍ لـ"لجنة خدمات المخيّم"، فقد دمّر جيش الاحتلال خلال الاقتحام الأخير، في نيسان/ أبريل الماضي، 37 منزلاً بشكلٍ كليّ، من بينها 8 منازل كانت قد رُمّمَت بعد تدميرها في اقتحامٍ سابق. يُضاف إليها 42 منزلاً دُمّرت في الاقتحامات السابقة، وهكذا يرتفع عدد المنازل المدمرة تماماً والتي أخليت من سكانها إلى 79 منزلاً1لجأ هؤلاء إلى شققٍ مؤقتة تكفّلت بها وزارة المالية الفلسطينيّة لمدة ثلاثة أشهر، كإجراءٍ طارئ.. وبحسب تقييم لجنة السلامة العامة فإنّه لا يمكن استصلاح تلك المنازل أو إعادة تأهيلها.
هذا عدا عن المنازل المتضررة، وتشمل هذه الأضرار: الهدم الجزئيّ كإحداث فتحاتٍ في الجدران، أو تدمير كلّ محتويات المنزل من أثاثٍ وكهربائيات ومقتنيات حتى الملابس، وتدمير مرافق المنزل كدورات المياه والمطابخ، أو الحرق لمحتويات المنزل أو للـ"الشوادر" على مداخل المنازل (وهي الأغطية البلاستيكية التي ينصبها المقاومون في الأزقة ليحجبوا الرؤية عن الطائرات المسيرة)، أو التدمير والحرق بفعل القنابل التي فجروا بها الأبواب وتسببت شظاياها المتطايرة بإشعال النار في المنزل. وهذه المنازل أضحت إمكانية العيش فيها صعبة جداً، وتحتاج إلى تأهيلٍ وترميم وتأثيث من جديد.
حتى هذه اللحظة سُجِّل لدى لجنة خدمات مخيّم نور شمس أكثر من 550 منزلاً متضرراً، وذلك في الاقتحام الأخير وحده. في حين تضرّر نحو 1000 منزل خلال الاقتحامات السابقة، ما يرفع الحصيلة إلى نحو 1550 منزلاً متضرراً، وهو ما يُشـكّـل نحو نصف عدد منازل المخيّم البالغة نحو 3000 منزل.

وكان للمحال التجاريّة نصيبٌ من التدمير، إذ هدمت جرافات الاحتلال جدران بعضها، وأزالتْ يافطات معظم المحال التي مرّت بها في المخيّم، فضلاً عن تلك المنتشرة في محيطه، وتحديداً في شارع نابلس الذي يحدّ مخيّمي نور شمس وطولكرم من جهتهما الشماليّة. وحتى اللحظة سجّلت لجنة خدمات المخيّم 163 محلاً متضرّراً، عدد منها بشكلٍ كليٍّ كالمحلات الموجودة في ساحة النادي (الساحة الرئيسية للمخيم)، وأخرى تضرّرت بشكلٍ جزئيّ، بل ومنها يُدمر للمرة الثالثة أو الرابعة.
كما كانت المركبات أيضاً هدفاً لجيش الاحتلال؛ فقد سُجِّل تضرّر نحو 50 سيارة خلال الاقتحام الأخير وحده، عدد منها دُمّر بالكامل من خلال دهسها بالجرافة أو حرقها وتدميرها بفعل قصف المسيّرات. وما يمكن إعادة إصلاحه تتراوح تكلفته بين 3 و10 آلاف شيكل وبعضها أكثر من ذلك، ويُضاف هذا العدد إلى 100 سيارة أخرى تضرّرت في الاقتحامات السابقة.

ما سلِم من التدمير لم يسلم من السرقة
ويشير عضو اللجنة، حكمت عمرو، إلى عمليات السرقة والنهب من المنازل والمحال التجاريّة التي اقتحمها جنود الاحتلال، ويؤكّد لـ"متراس" أنّ "الجيش سرق ذهباً وأموالاً ومقتنياتٍ شخصيّة كالهواتف النقالة، بل حتى صناديق عدة العمل الخاصّة بالصنايعية والنجارين، وسرق المشروبات والطعام من محلات البقالة، والأدوات والمعدات من محلات مواد البناء، وصولاً إلى سرقة أموال الغلة (الأموال المتروكة في المحل) من داخلها".
وفي السياق ذاته يقول شهاب، صاحب المكتبة المُدمّرة: "خلال الاقتحام كنا نترقب الأوضاع ونحاول معرفة الأخبار، فجأة وجدتُ ابنتي الصغيرة زينب (8 سنوات) تبكي، سألتها عن السبب فقالت: "خايفة يسرقوا الكجة تبعتي"، فهي تعلم أن الجنود يسرقون". عادت زينب بعد الانسحاب تبحث عن مدخراتها وألعابها، واكتشفت أنها خسرت ألعابها ولم تجد "كجتها" التي ادخرت فيها مصروفها، ولم تعرف هل سرقها الجنود كما سرقوا ساعة والدها الثمينة التي كانت في خزانته، أم أنها دُفِنَت تحت الركام.
تعمير فتدمير.. تعمير فتدمير.. ولكن!
قبل ساعات قليلة فقط من الاقتحام الأخير، كانت طواقم العمل التابعة لبلدية طولكرم قد أنهت إعادة تأهيل الشوارع الرئيسية في مخيم نور شمس، وتهيئتها للاستخدام. ثمّ مع بدء الاقتحام أعادتها جرافات الاحتلال مرّةً أخرى للحال السابقة، فحطمت الأسفلت، وأحدثت به حفراً عميقة، ودمرت كل التمديدات التي كانت تعمل طواقم البلدية طيلة أيام على إصلاحها وتبديلها.
مع تراكم الدمار في كل اقتحام أصبحت الجهات القائمة على الإصلاح والتأهيل عاجزة عن مواكبة ما يلحق بالبنية التحتية، لأنها تحتاج إلى إمكانات هائلة تفوق قدرات البلدية والهيئات المحلية. كذلك، فإن تأهيلها بالحد الأدنى والبسيط أيضاً أصبح شبه مستحيل مع تتابع الاقتحامات والتدمير الممنهج.

يقول المدير الإداري لـ"لجنة خدمات مخيم نور شمس"، سلمان الغول: "إن من أصعب المشكلات التي خلّفها العدوان، مشاكل الصرف الصحي، لأن علاجها معقد ومكلف جداً، فيومياً يتم العمل على فتح مجاري الصرف الصحي عدة مرات، بسبب انسدادها المتكرر وإغراقها الشوارع، كذلك مشكلة إعطاب خزانات المياه على أسطح المنازل من جراء إطلاق النار".
ويؤكد الغول ضرورة تقديم مساعدات عاجلة لأصحاب المنازل المتضررة جزئياً؛ لإصلاح ما يمكن إصلاحه كالنوافذ والجدران والأبواب، وشراء الأجهزة الكهربائية الضرورية كالثلاجات، كذلك تغطية تكاليف إيجار منازل جديدة مؤقتة لأصحاب المنازل المخلاة والمتضررة بشكل كبير، إلى حين بناء منازلهم.
ورغم ضيق الحال، وفقدان مصادر الرزق، وتكرار التدمير، يُكرر الناس بدورهم التفافهم حول المقاومين. كما يحاولون في الوقت ذاته استعادة ما أمكن من حياتهم وترميم منازلهم وتنظيف أزقتهم. ولو دخلتَ المخيم في أي ساعة في اليوم سترى بعينيك المشهد الذي يعبر عن ذلك، فيما يستمر جيش الاحتلال بتهديداته المعلنة للمخيم، الذي لا يريد أن يعود إليه أي شكل من أشكال الحياة، ويريد فقط أن يكون ركاماً ودماً!