2 نوفمبر 2021

هل ما زال الجرحُ مفتوحاً؟

هل ما زال الجرحُ مفتوحاً؟

يمرُّ يوم الجريح الفلسطيني، الذي يوافق الثالث عشر من مارس/ آذار،1 وضع هذا اليوم ياسر عرفات عام 1968. كأيّ يوم عاديّ، وذلك على خلاف غيره من المناسبات الوطنية. وحين يُصاب فلسطينيّ بجروح، قد يمرّ خبر إصابته على مسامعنا بشكلٍ عابرٍ. ربّما يكون ذلك امتداداً للطريقة التي تتعامل السلطة الفلسطينيّة فيها معهم؛ طريقةٌ تجبر الجرحى أن يتحولوا من رموزٍ وطنيّة مناضلة إلى قضايا إنسانيّة تستجدي حقوقها الطبيعيّة وتُبرّرها. وفي مُقابل ذلك سعي إسرائيلي لتحويل الفلسطينيين، المناضلين منهم تحديداً، إلى جرحى ليس بإمكانهم القيام بالأنشطة اليوميّة بشكلٍ طبيعي، ويحتاجون إلى إعالة بشكلٍ دائم.

يقتربُ عدد الجرحى الفلسطينيين من 200 ألفِ جريح، وذلك بين عامي 1987-2020. بلغَ عدد الجرحى في الانتفاضة الأولى عام 1987 ما يُقارب 70 ألف جريح، يُعاني نحو 40% منهم من إعاقاتٍ دائمة، و65% منهم من شللٍ دماغي أو نصفي أو علوي أو شلل في أحد الأطراف، بما في ذلك بتر أو قطع لأطراف هامة. وبلغ عدد الجرحى في الانتفاضة الثانية وحدها منذ عام 2000 وحتّى عام 2008 نحو 35 ألف جريح، وبلغت الإصابات بين عامي 2013-2020 حوالي 64 ألف إصابة، تتوزع ما بين إصابات بالرصاص الحي والرصاص المطاطي، والغاز المسيل للدموع، والضرب والقصف.2مصدر هذه الأرقام هو إحصائيات الهلال الأحمر الفلسطيني.

فلسطينيون ينقلون جريحاً بعد مداهمة لقوات الاحتلال منطقة في جنين، 18 يناير، 2018. تصوير: عصام الريماوي / وكالة الأناضول

الحالة الوحيدة التي لا تريد فيها "إسرائيل" قتلنا 

لا يتسبّب الجنود الإسرائيليون بالإصابة للفلسطينيّ نتيجة خطأٍ أو عشوائيّة في التصويب، بل يتقصّدون ذلك، وهدفهم واضح يتلخّص بإحداث إعاقةٍ جزئيّة أو كلّية، مؤقتة أو دائمة، في حركة الشخص. تطمح تلك الرصاصات لتحويل الجريح إلى "عالةٍ" على مُجتمعه وأهله، لا يقوى على الإنتاج وتدبّر أموره المعيشيّة، وبحاجةٍ إلى المعونة المادية. في تقرير لمركز بديل الحقوقي عام 2016، نُشرت شهادات شبّان من مخيّم الدهيشة في مدينة بيت لحم، تُجمع على أنّ ضابط المنطقة الإسرائيليّ آنذاك، قد هدّد شبّان المخيّم بإحداث الإعاقة لهم، بقوله: "سأجعلكم جميعاً تمشون على عكازين وعلى كراسي متحركة، وتقفون في طابور أمام الصرافات الآلية للبنوك للحصول على إعانات ومساعدات العجزة والمعاقين". وبناء على هذا، فإنّ ثلاثين شابّاً منذ بداية عام 2016 وحتّى شهر أغسطس/ آب من العام نفسه، أصيبوا بالرصاص الحيّ في المُخيم. كانت معظم إصاباتهم في القدم والركبة، وقد سبّبت لجزء منهم إعاقاتٍ دائمة أو مؤقتة. 

تتكرّر هذه الحادثة، التي تُعبّر عن سياسة إسرائيليّة لكسر عزيمة شبابنا وإرادتهم، في محاولة لإضعاف قدرتهم على المقاومة، إذ القصد أن يكون الجريح "عبرةً" لغيره قبل نفسه، فوضعه "يُجسّد مصير من يقاوم". وهو ما تعكسه تقارير إسرائيليّة قالت إنّ سلاح القناصة الإسرائيلي خلال مسيرات العودة على السياج الحدودي لقطاع غزّة عام 2018، كان يستهدف الأطراف السفليّة من أجساد المتظاهرين؛ أي الركبة والساق. تسرد التقارير مقابلاتٍ مع جنود من القنّاصة الإسرائيليّة يتفاخرون فيما بينهم بعدد الرُكب التي تمكّنوا من قنصها بالرصاص الحيّ، فـ "الهدف أن تضرب، تكسر عظمة، وفي غضون دقيقة تأتي سيارة إسعاف لإخلائه، وبعد أسبوع يحصل على معاش إعاقة"، كما قال أحد الجنود.

اقرؤوا المزيد: جرحى المسيرات.. بتر الأطراف مرّتين.

أحد الجرحى وهو أدهم (28 عاماً) من محافظة الخليل، أصيب أثناء المواجهات مع جيش الاحتلال عام 2015، بالقرب من جامعة "خضوري" في مدينة طولكرم، برصاصة في قدمه سببت تفتتاً في العظم.3جميع المقابلات في هذه المادة، أجراها الكاتب خلال عامي 2019 و2020 لأغراض بحث أكاديمي حول الجرحى. وقد توزع المشاركون في البحث على عدة مناطق في الضفة الغربية: الخليل، بيت لحم، جنين، رام الله، طولكرم، سلفيت، إضافة إلى جريح واحد فقط من قطاع غزة. معظم المشاركين بالبحث أصيبوا فترة ما بعد الانتفاضة الثانية، إضافة إلى أن غالبيتهم كانوا من المخيمات. وقد سُئل المشاركون في البحث عن حالتهم الطبية والنفسية، وماذا فعلوا من أجل ذلك، وكيف يرون تعامل المؤسسة الرسمية معهم كجرحى. كما أنّ جميع أسماء الجرحى في المادة مُستعارة، حفاظاً على خصوصيّتهم عن ذلك يقول: "يستطيع (اليهود) أن يطلقوا النار على الصدر وينهوا حياتنا، لكنهم معنيون بأن يصوبوا رصاصهم نحو الأطراف السفلية لكي يتسببوا لنا بإعاقة دائمة". يشاطره الرأي الجريح بشّار (26 عاماً) من محافظة رام الله، الذي أًصيب في المرة الأولى برصاصة مطاطية في الرأس أثناء المواجهات مع جيش الاحتلال في قرية النبي صالح، وسببت له تشنجات مستمرة وكثيفة، وفي العام 2014 أُصيب برصاصةٍ ضربت عصب القدم وسببت له مشكلةً في حركتها، وفي العام 2015 خضع لعمليةٍ جراحية للتقليل من التشنجات التي تحدث له، إلا أن مضاعفات العملية كانت خطيرة وسببت له شللاً في الرجل اليُسرى واليد اليسرى أيضاً. "الاحتلال يتعمّد إطلاق الرصاص على الأرجل ليعيق الحركة لدينا ونصبح بمثابة عبء على أهلنا"، يقول.

ما هي النسبة المئويّة لجرحك؟

بعد نشوء السلطة الفلسطينية عام 1994 وتبنّي خطاب "دولة المؤسسات"، صارت قضايانا الوطنيّة كما مُعاملات الناس اليوميّة تُراوح بين المؤسسات والمكاتب فاقدةً بعدها الوطنيّ. كانت "مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى"4نشأت مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى في العام 1965، وترأسها انتصار الوزير (أم جهاد) منذ نشأتها حتى الآن. والتي تتبع لمنظمة التحرير الفلسطينيّة هي من يتابع شؤون وقضايا الجرحى. لكن بعد تأسيس السلطة، نُقل ملف الجرحى ليصبح القرار النهائي فيه -تقريباً -من اختصاص وزارتي الصحّة والشؤون الاجتماعيّة. .

اقرؤوا المزيد: كيف ابتعلت حركة "فتح" منظمة التحرير الفلسطينيّة؟

تقوم العلاقة بين مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى ووزارة الصحّة، في حاجة الأولى إلى تقييم حالة الجريح من الثانية لصرف المخصّصات الماليّة. فبناءً على توجّه المؤسسة، تُحدّد اللجان الطبيّة التابعة لوزارة الصحة نسبة العجز لدى الجريح حتّى تُحدّد المؤسسةُ المستحقَ الماليّ المقرر صرفه للجريح. فبحسب قانون مستحقّات الجرحى الذي أقرّته الحكومة الفلسطينية عام 2011، فإنّ من تتراوح لديه نسبة العجز من 40%-59% يحصل على راتب أساسيّ 750 شيكلاً، ومن تتراوح لديه نسبة العجز من 60%-74% فيحصل على راتب أساسي 1150 شيكلاً - إضافةً إلى 200 شيكل عن الزوجة و100 شيكل عن كل ابن إذا كان متزوّجاً، ومن تتراوح لديه نسبة العجز من 75%-100% فيحصل على راتب أساسي 1400 شيكل - إضافة إلى 400 شيكل عن الزوجة و200 شيكل عن كل ابن إذا كان متزوّجاً. 

صياد فلسطيني يتلقى العلاج في مسشفى بعد أن أطلق الاحتلال النار على تدريب صيادين في خان يونس في مدينة غزة، 16 يوليو 2017 تصوير: عبد زقوت \ وكالة الأناضول

وضع الجرحى في تصنيفاتٍ بناء على نسب عجزٍ تُقدّرها وزارةُ الصحّة بعد تشخيص حالاتهم هو ما يرفضه الجرحى. ففي الحادي والعشرين من آذار/ مارس 2021، توجّهتْ مجموعة من الجرحى الفلسطينيين إلى رئاسة الوزراء، واجتمعوا معَ من ينوبُ عن كلٍّ من مكتب رئيس الوزراء، ومدير عام مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى، خالد جبرين، للمطالبة بحقوقهم. كان من بينها اعتماد الإعاقة كمعيار استحقاق لتلقي الرواتب بغض النظر عن نسبة الإعاقة (بالأخص نسبة العجز 40%)، وإصدار مرسوم رئاسي يحفظ الحقوق المالية للجرحى، ومساواتهم بالأسرى، وربط المستحقات المالية للجرحى بالغلاء المعيشي والحد الأدنى للأجور، إضافة إلى تسوية ملف الجرحى المقطوعة رواتبهم، واعتماد يوم الجريح الفلسطيني يوماً وطنياً بهدف توعية المجتمع بقضاياهم وتضمين الخطاب الرسمي بما يلزم لتكريس الوعي بتضحياتهم. 

اقرؤوا المزيد: عند السلطة: أنا مريض، إذاً أنا بحاجة إلى تحويلة طبيّة.

عدا عن "تفحّصهم"، توفّر وزارة الصحة للجرحى خدمات التأمين الصحيّ. غير أنّ ضعف الخبرات وقلّة المعدات تُخفّض من حجم الاستفادة من التأمين، تحديداً مع اقتصار التحويلات الطبيّة على المستشفيات الداخليّة في الوقت الذي قد يكون الجريح فيه محتاجاً إلى عناية طبيّة في مستشفيات خارج الضفّة والقطاع. الجريح مازن (31 عاماً) من قطاع غزة، تعرّض إلى إصابة عام 2006 عند السياج الفاصل للقطاع، سبّبت له شللاً جعلت حركته مُعتمدةً على كرسي متحرّك. يقول: "قمتُ بإجراء عدة عمليات في البلد ولم تجدِ نفعاً، ووجدتُ علاجاً لي في ألمانيا لكن تكلفته كانت عالية. تواصلتُ مع مديرية الصحة في غزة وأخبروني بأنهم لا يستطيعون تغطية نفقة العلاج. كان رداً غربياً! عندما أتى رئيس الوزراء السابق رامي الحمد الله إلى غزة، قابلته ورفعتُ مطلبي إليه. بعد فترة أبلغتني رئاسة الوزراء في رام الله بكتاب رسمي بأنّ تكاليف العلاج في المشفى الألماني ستكون على حساب السلطة الفلسطينية، لكن عندما قدمتُ للفيزا أخبروني بأن هذا الكتاب غير كافٍ، وأنني بحاجة إلى كشف تحويل التكاليف المالية إلى حساب المشفى، وانقضى موعد الحجز مع المشفى الألماني، ومرت سنوات وحتى الآن لم أستطع السفر وتلقي العلاج". 

ما زال الجرح مفتوحاً

يشعرُ الجرحى بالهوان حين تُصبح قضيّتهم الوطنيّة بحاجة إلى تبريرٍ واستجداءٍ وملاحقةٍ لتحصيل الحقوق، بعد أن كانت مصدر فخرٍ في الخطاب الرسميّ والشعبيّ. يستذكر الجرحى ذلك الزمن، كالجريحة زكية (55 عاماً)، مُدرّسة وأمّ لخمسة أبناء، أُصيبت في اجتياح مخيم جنين عام 2002 برصاصة حيّة ورصاصة دمدم. أصابت الرصاصة الدمدم الفخذ الأيسر أولاً ثم الأيمن وضربت العصب فيه، وأحدثت تشوهاً في الفخذين، وأصابت رصاصة الحي الصدر وأحدثت أيضاً تشوهاتٍ فيه. تقول زكية: "السلطة في زمن أبو عمار -أيام الانتفاضة الثانية- كانت أفضل، وكانوا يمنحون العلاج للجميع، إضافة إلى الرواتب والمخصصات، فنحن حصلنا كجرحى على وظيفة في فترة أبو عمار، إذ كان للجرحى نسبة في التوظيف، وكان أبو عمار يتحدث ويتواصل معنا، ويرفع من معنوياتنا ويشدُّ على أيدينا، لكن حالياً أتمنى لو تعود أيام الاجتياح".  

تتراوح قضية الجرحى الفلسطينيين بين مطرقتين؛ سياسة "إسرائيل" في إعدام إمكانيّة النضال وتحويل الفلسطينيّين إلى أجساد فاقدة للحركة والقدرة على الفعل، وهو استكمال لأداتي السجن والقتل لديها. وسياسة السلطة الفلسطينية تجاه الجرحى بالنظر إليهم كحالاتٍ مرضية فقط منزوعة من البُعد الوطني، تتسوّل العلاج والراتب في نهاية الشهر من مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى، والتي استحالت وظيفتها إلى مجرّد صرّاف آلي تتحكّم به رئاسة الوزراء ووزارة الصحّة.