26 يوليو 2023

هل قَتَلَ صُنّاعُ المحتوى الصحفيين؟

هل قَتَلَ صُنّاعُ المحتوى الصحفيين؟

هل صادفك خبر اغتيال صانع محتوى؟ "يوتيوبر" أو "تيك توكر"؟في عام 2022، قُتل حول العالم 66 صحافيّاً. ربّما تتذكر منهم الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي قتلها الاحتلال في بثٍّ مباشرٍ أمام العالم على أطراف مخيّم جنين. 

نعم، أعرف أنّ هذه دخلة دراميّة لموضوعٍ غير دراميّ مثل الذي أناقشه في هذا المقال، ولكن أحببتُ استفزازَكَ لتفكّرَ معي في الفرق بين الصحافة وصناعة المحتوى، وإن كان كلاهما اليوم يجرّ على أصحابه الملاحقةَ والتضييق.

ماذا سأفعل في هذا المقال؟ سأشرح أهم الفروقات بين صناعة المحتوى والعمل الصحفيّ. وماذا ستستفيد؟ ستخرجُ بمعايير تميّز بواسطتها الصحافة من الأشياء الأخرى التي تراها على الإنترنت.

وقبل أن نبدأ، تصريحٌ مهم: نتحدث هنا عن الشكل الأساسي للصحافة، الصحافة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الجادّة، لا الصحافة الصفراء. وبالمثل، أتحدث عن صناعة المحتوى التي تحاول أن تفيد، لا المحتوى الترفيهيّ.

المشكلة: اختلاط الصحافة بصناعة المحتوى

إذا كان صعباً عليك التمييز بين صناعة المحتوى والصحافة، فلا عليك، التمييز بينهما ليس سهلاً حتى على الصحفيين. أدخلتنا الإنترنت وتوفُّر أدوات النشر لعموم الناس في وضعٍ ضبابيّ، تلاشتْ فيه الخطوطُ الفاصلة بين المحتوى والصحافة. هذه الضبابية انتشرت حتى داخل المؤسسات الإعلاميّة الكبرى، ومن يعمل في الصحافة العربيّة اليوم يعرف أنّ كثيرين يخلطون بين الصحافة وصناعة المحتوى باعتبارهما مترادفين.

لكن، لا، الصحافة ليست صناعة المحتوى. وهذا لا ينفي وجود أعمالٍ تمزج بينهما، وهذا أصبح هو الغالب اليوم. فما مصدر هذا الخلط؟

أولا: اختلاطُ الأدوار والوظائف التي أدّتها الصحافة تقليديّاً وتؤدّيها الآن مهنٌ أخرى، منها صناعة المحتوى. مثل ماذا؟ وظيفتي نقل/نشر الأخبار، وتثقيف الجمهور. 

لتعرف اليوم أهمَ الأخبار، يكفيك أن تتابع مجموعةً من المُغرّدين، غالباً ليسوا صحافيين، وقد يكونون مجهولي الهويّة. مع ذلك، فإنّ وظيفة ناشر الأخبار ما زالت مهمة، فالذي يأتي بهذه الأخبار للمغرّدين هم الصحفيّون على الأرض. أما نشر هذه الأخبار، أصبحَ دوراً متاحاً للجميع.

الوظيفة الثانية؛ تثقيف الجمهور. انتهى احتكار المؤسسات الإعلاميّة لهذا الدور، ويمكن اليوم لمجموعات صغيرة من صنّاع المحتوى أن تصبح جزءاً من الحياة اليوميّة لمئات الآلاف من الشباب، وبالتالي تصبح لغةُ هؤلاء الشباب وأفكارهم واهتماماتهم (وحتى نُكتهم) منسوخةً من صنّاع المحتوى هؤلاء.

ثانياً: بدأ الخلط بين الصحافة وصناعة المحتوى في فترة دخول المؤسسات الإعلاميّة للإنترنت (المجال الرقميّ)، إذ نشأت داخلها على إثر ذلك وظائف مهمتها قولبة المنتجات الصحفيّة في إطارٍ رقميّ. ثمّ خُلِقَ الاحتياج لإنشاء محتوى جاذب سواء كان سياسيّاً أو غير سياسيّ. ومع مرور الوقت، امتزج الدوران أكثر، وصار ضروريّاً أن يعرف الصحفيّ كيف يُحوِّل عمله إلى "محتوىً رقميّ". 

ما المعيار هنا إذاً؟ إنّ ما يُملأ في القالب الرقميّ، إن لم يكن خبراً جديداً أو تحليلاً يشرح الواقعَ السياسيّ، أو يثير إشكالاً ثقافيّاً أو مجتمعيّاً، أو لا يرتبط بالصالح العام، فهو ليس صحافة، ولكن "محتوى" يمكن لغير الصحفيّ إنتاجُه. ولربما في هذا السياق نسخت وترجمت المؤسسات الإعلاميّة مصطلح "مُنتج"، لوصف هذا الدور.

حالة للتفكير: عبد الله الشريف

يمكن لشخصٍ مشهور مثل عبد الله الشريف على "يوتيوب" أن ينشر أخباراً أو تسريبات تشغل قطاعات من الشعب المصريّ، فتندفع الدولة المصريّة للاعتداء على عائلته عقاباً له. فهل ما ينشره صحافة؟ أم محتوىً سياسيّاً؟ خاصةً وأنه يكشفُ أسراراً وتسريبات تكشف انتهاكاتٍ ضدّ المصلحة العامة للمجتمع، وبعضُ هذه التسريبات لم تستطع مؤسسات إعلاميّة كبرى نشرها أو الوصول لها. وفي الوقت نفسه، فإنّ الشريف لا يتحدث بلسان الصحفيّ، ويعبّر عن موقفه السياسيّ بوضوح.

برأيي، هذا النوع هو مزجٌ بين بعض أدوار الصحافة وصناعة المحتوى. وهو اليوم من أشكال المحتوى الإعلاميّ المنتشرة. يلبسُ فيه الفرد قبّعتين -إن صحَّ التعبير-: الصحفي، وصانع المحتوى، معاً في الوقت نفسه.

ربما علي أن أقول بوضوحٍ أكثر: أنا لستُ ضدَّ صناعة المحتوى ولا أُقلِّل من أهميّتها. هدف النقاش أن نصل للفروقات الأساسية بين الأمرين، ونضع أيدينا على ما لا بدّ منه من تقاطعاتٍ بينهما.

الحل: العودة لأصول المهنة

يمكننا تجاوز هذه الضبابية بالعودة لأصول المهنة، وسأطرح هنا أسئلةً بدهية، إجابتها صعبة: ما الدور الرئيسي للصحافة؟ وما مبادئها الأساسية؟ وما الفرق الجوهري بينها وبين صناعة المحتوى؟

لأكن صريحاً معك: التفكير في جوابٍ جامعٍ لهذه الأسئلة مهمّة صعبة، رغم خبرتي الصحفية واطلاعي المستمر على نقاشاتٍ نظريّة وعمليّة مرتبطة بالصحافة ودورها. 

بدأت البحث عن أجوبةٍ عند الصحفيين أنفسهم، واستطلعت بشكلٍ خاص عالم الصحافة الأميركيّة، ودرستُ تجربتين لا يصحُّ للصحفي المعاصر تفويتهما.

التجربة الأولى: المبادئ العشرة للصحافة

كُتبت هذه المبادئ في بيان أعدّته لجنة من الصحفيين، تجمّعت عام 1997، وعملت على مقابلة آلاف الصحفيين الأميركيين على مدار أربع سنوات، ليُحدّدوا بشكلٍ جماعيّ عشرة مبادئ كبرى للصحافة، ثمّ نُشرت في كتاب The elements of Journalism. 

غلاف الكتاب المذكور، وعنوانه:”عناصر الصحافة“، نُشر عام 2001 وله نسخ محدثة.

 

سنمرّ في هذا المقال على بعضها، ونناقش ما الذي تعنيه هذه المبادئ للصحفي في الوطن العربيّ.

الصحافة: أداة سياسية.. ولكن ما هدفها؟

إذا قرأت هذه المبادئ العشر، ستلاحظ سريعاً أنَّ الصحافة بالنسبة لهم أداةٌ سياسيّة، وهي ابنةُ المنظومة الديمقراطية، والوظيفة الأساسية للصحافة أن تقدّم المعلومات للناس. 

والهدف؟ ليَحمُوا ديمقراطيتهم. عمليّاً، دورُ الصحافة هنا: تمكين الناس من الوصول للمعلومة الصحيحة.

وهذه الصحافة تنطلق من موقفٍ سياسيّ مُسبق، هو تأييد الديمقراطية، وهو موقفٌ منطقي للصحافة الأميركية، فبدون حد أدنى من الانفتاح السياسي ستكون الصحافة بلا معنى. 

لكن ما معنى هذا الكلام المثالي بالنسبة لنا؟ الصحافة العربية يمكن أن تؤدي وظائف سياسية أُخرى، رغم غياب الديمقراطية. 

مثال؟ فلسطين. 

يجب على الصحافة العربيّة في فلسطين أن تنطلق من موقفٍ سياسيّ هو: الدفاع عن الفلسطينيين ومعاداة الصهيونية، لا لأجل الأخلاق وكل هذا الكلام الكبير فحسب، بل لأنّ المشروع الصهيونيّ يهدّد وجودَ المجتمع الذي تعملُ حضرتك صحفيّاً لخدمته، وبدون وجوده لا معنى لعملك.

هكذا تفكّر الصحافةُ الحقيقية، وبالمثل، في كلّ بلدٍ عربي، تنطلق الصحافة من الدفاع عن المجتمع الذي تخدمه، وأيّ شيء غير ذلك من الخداع تسميته بالصحافة.

بعد اطلاعٍ وبحثٍ في الموضوع، أعتقد أنّ هذا أهم دور للصحافة على الإطلاق. ولكن هل يؤديه بعض صناع المحتوى؟ نعم، جزئيّاً. الفرق أنّ الصحافة تنتجُ من عملٍ مؤسسي، ومن رؤيةٍ سياسيّة/تحريريّة مُتماسكة، تحتكُّ بالتطوّرات اليوميّة والمُباشرة، بل تصنع بعضها أحياناً، وهذه أدوار يصعب على صنّاع المحتوى القيام بها.

الانتماء للجمهور لا الانقياد لطلباته

يقول بيان المبادئ العشرة أنّ ولاء الصحافة لمجتمعها، وهذا يتطلب منها تغطية ما يهمُّ هذا المجتمع، وليس بالضرورة فقط "ما يطلبه الجمهور". 

فالصحفيّون يمكن أن يُبرزوا مسألةً هامة لم ينتبه لها المجتمع، وربما يُهملها الجمهور في البداية، ولكن مَهمّة الصحافة أن تركّز عليها وتبرزها وتُظهر أهميتها بأن تشرح للناس كيف تمسُّ مصالحهم، وهكذا وصولاً إلى جعل هذه المسألة من أولويات المجتمع.

تمارسُ الصحافة الجادّة هذه السلطة عن وعي، حتى لو كانت متابعة الجمهور ضعيفةً في البداية. أما صانع المحتوى فمضطرٌ إلى حدّ كبير لمجاراة ما يطلبه الجمهور.

نعم، الصحافة تغطّي ما يطلبه الجمهور، وأحياناً تصنعُ عنده الاحتياج، بل وتعيد ترتيب أولوياته السياسيّة، وتجرؤ على أن تطرح ما يزعج الناس ويعكّر صفوهم. الصحافة مُنبّه مبكّر، يعكس الواقع بدقّة ولو كان مُرًاً.

التجربة الثانية: مدرسة بوب ودوارد وكارل بيرنستين

أعرف أنها أسماء غريبة، ولكن باختصار: هما صحافيا واشنطن بوست.

يقول ودوارد أنه يستيقظ كل صباح متسائلاً: ماذا يفعلُ أبناء الحرام؟ (يقصد أصحاب السلطة). وهذه بالنسبة له ولزميله، الوظيفة الأساسية للصحافة: أن تكشف وتتابع ما يفعله الساسة. ولكن هذا الدور لا يكتمل إلا بتقديم السياق الشارح لأهمية هذه المعلومة، بل والجواب عن: لماذا فعلَ الساسة ما فعلوا؟ بلغةٍ أخرى: ما مصلحتهم من هذه الأفعال؟

بوب ودووارد (يمين)، وزميله كارل بيرنستين (يسار)، في مقابلةٍ مع شبكة سي أن أن، وحقوق الصورة للشبكة.

يعرّف ودوارد الصحافة بأنها "محاولة فهم شيءٍ بشكل شامل" مع تطوير منهجيّة لجمع الحقائق وتفسيرها تفسيراً سليماً، والوصول لهذا المستوى يتطلّب خبرة في المهارات الصحفيّة التقنية، وخبرةً في المجال الذي يغطّيه الصحفي. وربما هذا من أهم الفروقات بين الصحافة وصناعة المحتوى. 

  • تخيّل صحافياً يُغطي أحداثاً في مخيّم جنين لأوّل مرة، دون أن يعرف شيئاً عن ماضي المخيّم، سيفشل في التقاط الوقائع، وسيعتبر كلَّ تطوّر في المخيم تطوراً غير مسبوق (كلمة نسمعها تقريباً في جميع التغطيات الصحفية اليوم. طيّب، أي أهمية للأحداث إذا كانت كلها غير مسبوقة؟)، وسيفشل في تقديم تفسيرٍ أو سياقٍ لجمهوره ليشرح السلوك الصهيونيّ ضدّ المخيم، أو استبسال أبنائه للدفاع عنه.

دونَ هذا التراكم في الخبرة، سيعجز الصحفي عن الإجابة على الأسئلة الأساسية المتعلقة بالحدث والتي تخطر ببال جمهوره.

هنا، يؤكّد الصحفيان العجوزان أنّ الصحافة تعتمد على الحقائق الصلبة، وأنّ الحقيقة شيء، ورأيك في هذه الحقيقة شيءٌ آخر، مكانه مقالات الرأي. بالنسبة لهما، انحيازُ الصحفي للحقائق انحيازٌ براجماتي وليس مجرد موقف أخلاقيّ، لأنّ هذا الحياد يرفع من كفاءة الصحافة في مواجهة السلطة.

ولن أخوض في النقاش القديم عن الحياد في الصحافة (ومقولة: الحياد أسطورة)، لكن ببساطة: الحياد كذبة، أما الموضوعية فواجبٌ صحفيّ. 

الصحافة vs صناعة المحتوى

ما أهمّ الفروق بين الصحافة وصناعة المحتوى؟ الخلاصة في النقاط التالية:

  1. ما هي الصحافة؟ هي جهدٌ منظّم وممنهج في جمع الحقائق، والتوثّق منها، ثم عرضها في سياقٍ يساعد الجمهور على فهمها وإدراك أهميّتها.
  2. كشف الأسرار وتقديم معلومات جديدة: هناك دورٌ حساس للصحافة يَشعرُ الناس أنّ أهميته تلاشت، ولكن دونه لن تصلك الأخبار: الصحافة تكشفُ حقائق "جديدة" بشكل مستمر، ولا تكتفي بإعادة تدوير ما نعرفه سابقاً. ومن النادر أن يتمكن صانع محتوى، بشكل مستمر، من كشف حقائق ومعلومات لم تُنشر من قبل. هذا دورٌ يستمر الصحفيون في احتكاره حتى اليوم، وهو من أهم أعمالهم إذ تؤدّي فيه الصحافة دور الرقيب على السلطة.
  3. العمل المؤسسي: العمل الصحفيّ المؤثر عادةً يكون نتيجةً لعمل مؤسسي، فالمُنتَج الصحفي جهدٌ تقرؤه عدّة عيون وتمرّ عليه أقلام كثيرة، ويتأكد من صحته صحفيون آخرون. والصحفي عادةً لا يعمل في الفراغ، ولكن ضمن إطار المؤسسة ورؤيتها السياسيّة وتقاليدها. وعادةً ما تتوفّر الموارد للمؤسسات لتحتكّ بالتطورات الآنية/العاجلة التي تشغلُ المجتمع، بكثافة وعمق أكثر من صناع المحتوى. هذا بالرغم من أنّ إنتاج المحتوى اليوم يتعرّض لتنظيمٍ ومأسسةٍ من عدّة دول عربيّة، لخدمة أجندتها السياسيّة.
  4. الصحافة عملٌ سياسيّ: الصحافة، في جوهرها، عملٌ سياسيّ. فكلُّ صحافة تنطلق من موقفٍ سياسيّ مُسبق، وتعمل على خدمة وتعزيز هذا الموقف. والصحافة الحقيقيّة، في أي منظومة سياسيّة، هدفها الأول: توعية مجتمعها وحماية مصالحه، بتمكين الناس من معرفة الانتهاكات، وباطلاعهم على حقائق السياسة من حولهم.
  5. صناعة المحتوى التثقيفي: أمّا صناعة المحتوى فقد تلعبُ دوراً في تثقيف الجمهور وإطلاعه على الجديد في العالم، ولكنها تفتقرُ للأسلوب المنظّم والمنهجيّ في التوثّق من الأخبار وتحليلها. وبالنتيجة، المصداقية أقلّ، والأخطاء أكثر. 
  6. الرؤية السياسيّة: صناعة المحتوى قد تفتقد للرؤية السياسيّة والاتساق معها (بمصطلح آخر: غياب الرؤية التحريريّة).

الخلاصة

في لقاءٍ قريب مع جو كان، المحرّر التنفيذي لـ "نيويورك تايمز"، أكّد عدّة مرات وبشكلٍ قاطع أنّ العمل الأساسي لمؤسسته هو الصحافة السياسيّة. السياسة أولاً، ثمّ باقي المنتجات، بما فيها الثقافيّة أو الترفيهيّة والخفيفة (مثل وصفات الطعام، والصحّة، وألعاب الكلمات المتقاطعة).

هل من المفيد أنْ نفصلَ بين الصحافة وصناعة المحتوى؟ ليس بالضرورة، عمليّاً، غالبية المؤسسات الإعلاميّة تمزج بين الاثنين، ويحتاج الصحفي اليوم أن يجمعَ بين القُبعتين، دون التراجع عن مركزيّة الصحافة السياسيّة في المؤسسات الإعلاميّة.