10 يوليو 2023

هذا ما رأيتُه في مخيّم جنين..

<strong>هذا ما رأيتُه في مخيّم جنين..</strong>

عصر الثالث من تموز/ يوليو 2023، دوّت أصوات الاشتباكات في محيط مسجد الأنصار الواقع وسط حارة الدمج في مخيّم جنين، تصدياً لاقتحامٍ جديد لجيش الاحتلال، لكن هذه المرة ضمن عدوانٍ أوسع. لم يستمر الاشتباك طويلاً، إذ نفذت ذخيرة الشباب المقاتلين، وبقوا لمدة ساعةٍ ونصف تقريباً محاصرين في أحد طرق الحارة. يقول أحدهم: "خلص الحب اللي معنا، فقررنا نضل في مكاننا وما نتحرك عشان ما ننكشف". 

فجأة دوّت "الله أكبر"، لكن من داخل المسجد، ودوّت معها صليات رصاصٍ جديدة أمنت غطاءً للمقاتلين المحاصرين، ومكّنتهم الانسحاب دون المرور من بين رصاص القناصة. تبيّن لاحقاً أنّ مجموعة أخرى من المقاتلين تسلّلوا إلى المسجد من خلال نفقٍ وأطلقوا الرصاص لتأمين انسحاب زملائهم، ومن ثم عاودوا الانسحاب هم كذلك من النفق ذاته.  

مسجد الأنصار في وسط حارة الدمج في مخيم جنين (عدسة: شذى حماد).

حين يحفر المحاصر في أرضه..

اعتبر جيش الاحتلال ما حدث في محيط مسجد الأنصار الأكثر تعقيداً ضمن عدوانه الأخير، ومع انتهاء الحدث، أعلن عن كشف بنيةٍ تحتيةٍ للمقاومة مركزها المسجد: نفق، ومجموعة عبوات ناسفة، وبؤرة للرصد والمراقبة. ويشير تمكن المقاومين القدوم ثمّ الانسحاب من المكان، إلى أن الجيش لم تكن لديه معلومات سابقة عن وجود النفق.  

مدخل النفق في قلب مسجد الأنصار. (عدسة: شذى حماد).

تمكنتُ من دخول النفق، وسرتُ فيه بخطواتٍ حذرة، فهو مهدّد بالانهيار في أي لحظة بعد أن استهدف جيش الاحتلال مسجد الأنصار بعدة غاراتٍ جويّة. كان المكان يُطبق عليّ بجانبيه وسقفه المنخفض. مشيت ببطء وأنا أحاول لملمة الهواء في رئتي.

هذا النفق هو واحد من نفقين شقّتهم المقاومة تحت أرض مخيم جنين. وكلاهما يقعان في عمق المخيم الذي بات ملجأ للمقاومين، وأصبح تحصينه من تحت الأرض وفوقها ضرورةً للاستمرار، ومحاولةً لإطالة عمر حالة المقاومة وتعقيد طريق الوصول إلى مقاوميها. 

أدوات الحفر كما بدت داخل النفق (عدسة: شذى حماد).

فؤوس الحفر والدِلاء ما زالت مكانها في أرض النفق، وعلى جدرانه ما يبدو أنه محاولة لتمديد الكهرباء وإنارته. ومن الجولة الحذرة فيه تبيّن أنَّ الحفر قد توقف أسفل زقاقٍ يقع خلف المسجد، وهي النقطة التي انسحب منها المقاومون. وهو ما يدلّ على أنّ العمل لم يزل في أوله، إذ سعى حافروه إلى أن ينتهي في الحارة المجاورة، لا خلف المسجد فحسب، وذلك لتحقيق الهدف من شقّه بتأمين طريق انسحابٍ آمن للمقاومين.  وفيما يبدو محاولةً لتجنب إثارة الانتباه، لم يُخرج حافرو النفق الأتربةَ من المكان، بل حفظوها في عشرات الأكياس، ثمّ استخدموها في تحصين نقطة الرصد والمراقبة في الطابق الثالث للمسجد. 

أما النفق الثاني الذي أُعلن عنه، فيقع تحت مقر "كتيبة جنين" في حارة السفوري المعروفة أيضاً بالفلوجة. يصل طوله إلى نحو 150 متراً، وينتهي في حارة أخرى، ومخرجه مجهولٌ لغير المقاومين. ويبدو أنه أكثر اتساعاً وطولاً من نفق مسجد الأنصار.

فتحة النفق الموجود داخل مقر "كتيبة جنين". (عدسة: شذى حماد).

على باب المقر الذي قصفته طائرات الاحتلال ودمّرته، توافد عدد من المقاومين الذين جاءوا لتفقده. بعضهم انقطعت أخباره منذ أيام، فتعانقوا وهنأ بعضهم بعضاً بالسلامة. يقول أحدهم: "توقعنا أن تنتهي العملية باغتيال عدد من المقاومين أو اعتقالهم، صحيح فقدنا شهداء وكلهم عزيزين علينا.. ولكن الجيش في هذه العملية لم ينجح بالوصول إلى المقاومين". ويقول آخر، شارك في الاشتباكات: "شو إلي قصفوه: غرفة وفيها شاشتين؟ هذا لا قيمة له، يومين أو ثلاثة وكل شيء سيرجع كما كان". 

وعن الذخائر التي أعلن جيش الاحتلال مصادرتها، يقول: "كل دفعة تصنيع تحتوي على عشرات العبوات، ما صادروه ليس إلا دفعة واحدة لن تؤثر على استمرار عملنا، وبيوم واحد نستطيع أن نصنع ضعف عدد العبوات المصادرة". 

جانب من آثار الدمار في مقر كتيبة جنين بعد قصفه من طائرات الاحتلال. (عدسة: شذى حماد).

أدوات تتجدد وتجارب تُوّرث

عزّزت "كتيبة جنين" من نقاط الرصد والمراقبة في المخيم، وخاصّة بعد العدوان على حارة "جورة الذهب" في 26 كانون الثاني/يناير 2023، إذ بدأت تتخذ الكتيبة مزيداً من الاحتياطات التي من شأنها عرقلة وصول الجيش إلى عمق المخيم. 

بعض تلك النقاط علنيّ ومكشوف، وهو عبارة عن أبراج عسكريّة بدائية بُنيت من أكياس الرمل، ونُصبت على محاور ومداخل مهمة لأحياء المخيم، ويستخدمها المقاومون للحراسة، وأيضاً للاشتباك في حال الاقتحام. ومعظم هذه الأبراج استهدفها الجيش وفجّرها من خلال غاراتٍ شنّتها المسيّرات خلال العدوان الأخير. 

أما نقطة الرصد في مسجد الأنصار، وفي مقر الكتيبة في حارة السفوري، فهما أهم تلك النقاط. ولأنّ مقر الكتيبة قد دُمِّر تماماً، يمكننا  قراءة المشهد في نقطة الرصد في مسجد الأنصار والتي لم تتعرض للقصف. 

يبدو أن اختيار مسجد الأنصار جاء لكونه يتربع في قلب المخيم وخاصّةً في حارة الحواشين الواقعة في عمقه. لا ترصد هذه النقطة مركز المخيّم فقط، وهو مركز مكتظ بالأبنية والأزقة، وإنما تعتبر كذلك ملجأً للمقاومين إذ تمت محاصرتهم في هذا المركز، ولذلك احتوى أيضاً على نفقٍ للخروج من المنطقة. وقد استخدم المقاومون مكبّرات الصوت في المسجد لإرسال نداءات "حيّ على الجهاد" وإيقاظ أهل المخيم ومقاوميه عند أي اقتحامٍ للجيش. 

أكياس الأتربة التي أخرجت من النفق أسفل مسجد الأنصار، وقد استخدمها المقاومون لتحصين الطابق الثالث من المسجد، واتخاذه كنقطة رصد. (عدسة: شذى حماد).

عودة لنقطة المراقبة، فقد وضعت خلف الجدران الداخلية للطابق الثالث أكوام من أكياس الأتربة والرمال التي أُخرجت من النفق، لتستخدم في توفير مزيد من الحصانة لها. وتشير الثلاجة التي فيها بقايا الطعام، والكنافة التي لم يكن لدى المقاتلين ما يكفي من الوقت لتناولها، أنّ نقطة الرصد تلك واحدة من النقاط الاستراتيجية التي يتناوب المقاومون على التواجد فيها طوال الوقت. 

وفي نقطة الرصد هذه، يتناثر في المكان عدد من المصاحف، وكتيبات حول تصنيع العبوات. فيما عُلِّقت على أحد الجدران شعارات أربعة من فصائل المقاومة: سرايا القدس - كتيبة جنين، وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى، وكتائب الشهيد عز الدين القسام، وكتائب شهداء الأقصى - لواء الشهداء، ما يشير ربما أنها كانت نقطة جماعية للفصائل الأربع. 

الملجأ الأهم: الحاضنة الشعبيّة 

وخلال العدوان الأخير، طال التدمير والتخريب عشرات المنازل في مخيّم جنين، خاصّة في الأحياء التي شهدت الاشتباكات الأعنف: السفوري والسمران والدمج والحواشين. لم يكن استهداف المنازل عشوائيّاً، إذ يُلاحظ المتنقل من منزلٍ إلى آخر عمليةَ التدمير المنظّمة والتي سعت لإلحاق أكبر ضرر، والمنازل التي نجت من قصف المُسيّرات لم تنجُ من تدمير جنود الاحتلال وقناصته. كما طال التدمير خطوط المياه والكهرباء، والشوارع، والمركبات. 

آثار الدمار في أحد شوارع المخيم. (عدسة: شذى حماد).

سعى هذا التوحش في التدمير إلى ضرب الحاضنة الشعبيّة للمقاومة في المخيم، وهو ما يدركه بشكلٍ واعٍ أهالي المخيم. يقول كثير منهم: "المهم سلامة الشباب"، وهي الكلمة التي تسمعها حتى ممن دمّر أو خرّب جيش الاحتلال منزله.

وسط حارة السفوري، وقفت فاتنة الغول، والدة الشهيد صهيب الغول الذي اغتيل في 21 حزيران/يونيو 2023، لتطمئن على الشباب. نزل أحدهم من دراجته وقبّل رأسها، والتف آخرون حولها للاطمئنان عليها.  لم تستطع استقبالهم داخل منزلها الذي قلبه الجيش رأساً على عقب، ودمّر محتوياته. 

فاتنة الغول، أم الشهيد صهيب الغول، تحمل صورةً لابنها أمام منزلها في مخيم جنين، وكان قد اضطرت لمغادرته ليومين خلال عدوان الاحتلال على المخيم. (عدسة: شذى حمّاد).

تقول فاتنة: "ركّز الجيش ضرباته على منازل الشهداء والمطاردين.. ألحق خراباً كبيراً في منزلنا ومنازل العائلة". وتستدرك: "بدهم يخوفونا بس احنا رح اتضل بيوتنا مفتوحة للمقاتلين، احنا الي بدنا نطعمهم ونسقيهم.. هدول الشباب كلهم هما في مكانه ابني صهيب الي استشهد، وبدي أدير بالي عليهم مثل ما كنت أدير بالي على صهيب".

الدمار الذي أُحلق بمنزل فاتنة ذاته الذي أُلحق أيضاً بمنازل كثر بعد إجبار أهلها الخروج منها، وقد أُخليت حارة الحواشين بالكامل من أصحابها. وبعد انسحاب الجيش وعودة باسم طحاينة وعائلته إلى منزلهم في حارة الحواشين، وجدوا  آثار رصاص القناصة على سريره، يقول باسم: "جلس الجندي على السرير، ووضع بندقيته على النافذة وبدأ إفراغ ذخيرته على كل ما يتحرك". وفي صالون استقبال الضيوف، فتح الجنود علبة تحتوي ما تبقى من كعك العيد وأكلوه. وفي غرفة الأطفال حطموا الألعاب وعاثوا الخراب في الغرفة. 

الكثير من المنازل اتخذت كنقاط عسكرية اعتلتها القناصة، فيما قام الجيش بتفجير ما وجده من عبوات ناسفة داخل المنازل، وهو ما ألحق أضراراً مضاعفة، وحرائق امتدت من منزل إلى آخر. يشير باسم، وهو أسير سابق قضى تسع سنوات في سجون الاحتلال، إلى الخراب في منزله، ويقول: "ما طلع بإيدهم إلا يجرفوا الشوارع ويحطموا بيوت المدنيين، بس مع الكتيبة ما طلع بأيدهم أشي". ويضيف: "كل ما عملوه يشجع الناس أن يبقوا مع المقاومين ونحتضنهم". 

لم يعاقب جنود الاحتلال الأهالي بمنازلهم فقط، وإنما أطلق النار صوب كل من يحاول إسعاف المصابين، وهو الذي أدى لاستشهاد  ثلاثة شبان في حارة الحواشين. فبعد إطلاق القناصة النار على علي الغول، هب أحمد العامر لمساعدته، فأطلق النار عليه، ثم حاول مجدي العرعراوي مساعدتهما، فأطلق النار عليه أيضاً، فاستشهد ثلاثتهم في المكان. 

لم تكن هذه الحادثة الوحيدة فقد أطلق الجيش النار على ربيع فريحات (50 عاماً) خلال محاولته إسعاف أحد الشبان. تقول زوجته لبنى فريحات: "سمعنا الشاب يستنجد بنا، فخرج زوجي وابني وبدؤوا محاولات إسعافهم فانهالت عليهم الرصاص وأصيب زوجي إصابة خطيرة بالحوض". تضيف: "بدهم يخوفونا ببيوتنا، ولكنا مستعدين نضحي بأرواحنا كمان للمقاومة".

جدارية تحمل صور الشهداء في حارة الفالوجة في مخيم جنين. (عدسة: شذى حماد).

ما الذي ينتظر المخيّم؟

حاولت المقاومة تعزيز بنيتها التحتيّة في مخيّم جنين بدءاً بأدواتٍ بسيطة مثل المتاريس الحديديّة على مداخله، ونصب الشوادر وكاميرات المراقبة، لتصل اليوم إلى بناء أنفاقٍ وتطوير أبراجٍ للرصد، والاستثمار في تعزيز حاضنةٍ شعبيّة متينة. وقد بدأ ذلك الجهد بالتصاعد في الشهور الأخيرة تزامناً مع تصاعد حالة المقاومة عموماً في الضفة الغربيّة. كان كل ذلك بهدف تحويل المخيم إلى مكانٍ آمن يلجأ إليه المقاومون وإطالة عمر الحالة النضالية.

في العدوان الأخير، لم يُنفذ الاحتلال عمليات اغتيال عينية تستهدف المقاومين، إلا أنّه عمل بشكل واسع على تدمير هذه البنية التحتيّة، بقصفها وتدميرها ومصادرة أدواتها. يضع ذلك المقاومة اليوم أمام تحدٍّ جديد يتعلق بترميم ما خسرته وإعادة بناء بعضه، وتطوير المزيد من الأدوات. 

وفي سياقٍ متصل، فإنّ هناك تحدياً آخر أمام الحالة النضالية في جنين وأمام المقاومين فيها، وهو ما يُطرح اليوم عن حملاتٍ لإعادة إعمار المخيم، وما يمكن أن يرتبط بذلك من اشتراطات وتدخلات مشبوهة، خاصّة بعد إعلان الإمارات نيّتها تمويل الإعمار بحوالي 15 مليون دولار، بشرط إشراف السلطة والأونروا، وهو ما يحتاج إلى عيون متيقظة متنبهة لما يمكن أن يُمرر من خلال هذه المشاريع، أو ما يمكن أن يؤثر على تحركات وتحصينات المقاومين. 

هذا إضافةً إلى جهود السلطة الفلسطينية التي تكثّفت بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي، من أجل استعادة قبضتها الأمنيّة على المخيم، وعلى المدينة، بإعادة نشر عناصرها، وتكثيف حملاتها الدعائية وتواجد عناصرها السياسية والحزبيّة في المخيم، في محاولة لاستعادة شعبيتها ومن ثمّ قمع الناس ووأد تجربتهم النضالية ومنع تطورها وتمددها إلى خارج المخيم.