معصوب العينين وصلت إلى سجن "سديه تيمان"، ومنذ تلك اللحظة، ظل الظلام يلتصق بي شهوراً حتى صار جزءاً مني، هناك، الزمن بلا شكل، والمكان لا يُرى، بل يُحسّ: خطوات الجنود على الأرض الباردة، رائحة العفن، صفعات مفاجئة، وباب حديدي يُغلق كأنه يطفئ آخر خيط في الروح.
في ذلك العمى الطويل، بدأ العالم يتكوّن بطريقة معكوسة؛ لا من الضوء بل من الأصوات، كل نفس أصبح يحمل ملامح، وكل حركة وجهاً محتملاً، وصار الخيال مرآتي الوحيدة لأعرف الرفاق، ولأعرف نفسي، عالم كامل مصنوع من السمع وحده، وحرمان علّمني أن إغماض العين ليس غياباً عن الرؤية، بل ولادة رؤية أخرى تبدأ من الخيال.
لقاء الحقيقة مع الخيال
حين نُقلت من "سديه تيمان" إلى سجن عوفر، لم يكن اللقاء الأول بالوجوه التي أحبها حدثاً عابراً، كان عبوراً بين عالمين: عالم بناه الخيال في العتمة، وعالم انفجر ضوءه حين فُكّت العصابة عن عيني بعد شهور.
في الأشهر السابقة، كنت أحفظ الرفاق من خلال أصواتهم فقط: ضحكة تخفي ألماً، تنهيدة قبل الكلام، حركة خفيفة تكشف مرور شخص.
مع حرمان الرؤية الطويل، يبدأ العقل صنع وجوه من مادة الصوت وحدها، كان لكل واحد منهم وجه لم يره أحد غيري، وجه صاغته مخيلتي بدقة مدهشة، كأن العتمة منحتني قدرة إضافية لا يملكها الضوء.
اقرؤوا المزيد: الناجي من جحيم "سدي تيمان"
ربما لهذا السبب كنت أشعر أنني أعرفهم، رغم أنني لم أرَ منهم شيئاً، كنت أحفظ وجوهاً لم أرها قط، صنعها الحرمان وصقلها الانتظار الطويل.
حين نُقلت إلى عوفر، كانت الخطوة الأولى أشبه بخروج مفاجئ من كهف ظللت فيه طويلاً حتى نسيت شكل الضوء، الصوت ذاته، لكنه الآن يحمل جسداً. الضحكة نفسها، لكنها تأتي من شفاه لها ملامح، التنهيدة نفسها، لكنها ترتسم على وجه أقرب وأكثر هشاشة مما كنت أتخيل، تلك اللحظة لم تكن مجرد رؤية، بل احتكاكا بين صورتين، صورة صنعها الخيال وصورة يفرضها الواقع بقسوته.
أول ما شعرت به حينها كان الدهشة، دهشة تشبه الألم، الوجوه الحقيقية جاءت لتفضحني، لتخبرني أنني كنت أبني عالماً ناقصاً، وأن الخيال مهما تجبّر لا يستطيع أن يهزم ضوءاً واحداً يسطع فجأة.
ضوء لا يحترم الخيال
أتذكر أول وجه رأيته من أصدقائي كان مختلفاً تماماً عمّا بناه عقلي، أصغر مما تصورت، لكنه أكثر تعباً، يحمل ندبة خلّفتها إصابة سابقة لم أكن أتخيلها، لم يكن شبيهاً بالوجه الذي صاغته مخيلتي، فقد تخيلته أشد جمالاً ونضارة.
كنت أرتجف في داخلي، ربما من الاعتراف أن الإنسان حين يُحرم من الرؤية لا يفقد العالم، بل يعيد بناءه من جديد على طريقته، لكنه حين يعود إلى الضوء، يكتشف كم كان خياله هشاً، وكم أن الوجوه التي تخيّلها كانت مجرد محاولة لإنقاذ نفسه من الجنون.
اقرؤوا المزيد: 15 سم بيني وبين نفسي
في الفلسفة، فكرة تقول إن الإنسان لا يرى العالم كما هو، بل كما يستطيع أن يراه، وأنا، في تلك اللحظة، أدركت صحة هذا القول، كنت أصنع وجوهاً لا تشبه أصحابها، لأنني كنت أحتاج أن أشعر بأنني لست وحدي، كان الخيال يمارس وظيفته القديمة: حماية الإنسان من السقوط المدوي.
لكن حين رأيتهم، كان عليّ أن أعيد ترتيب كل شيء، فالضوء لا يحترم الخيال، بل يفرض الحقيقة التي نجهلها أو نخافها، أحد الأصدقاء قال لي: "تخيلتك أقصر من ذلك".
اقرؤوا المزيد: صراخي لم يسمعه أحد.. عندما أغلقوا عليّ نعش السجن
ضحكت، بينما كنت أفكر في مفارقة عميقة: كل واحد منا كان يختلق وجه الآخر، كأننا كنّا نعيش مع صور متبادلة لا وجود لها إلا في عقولنا، كنا نحبّ أصواتاً، نتعلّق بضحكات، وننسى أن الوجه يمكن أن يهزّ كل شيء حين يظهر فجأة.
لم أكن خائفاً من الوجوه، بل من عملية المقارنة بين ما تخيلناه وما فرضه الواقع، لكن شيئاً آخر حدث، أدركت أن الغياب، مهما كان قاسياً، يمنح حضوراً لا يمنحه اللقاء، الأصدقاء الذين رافقوني في الظلام كانوا قريبين مني بطريقة لم يقترب بها أحد، كنت أشعر بهم من دون أن أراهم، وكان الخيال يرفعهم إلى مرتبة لا يستطيع الضوء الوصول إليها.
وعند اللقاء، لم ينهدم كل شيء كما كنت أخشى، حدث العكس، صار لكل واحد منهم حقيقتان، الحقيقة التي رأيتها والحقيقة التي تخيلتها، وبين الحقيقتين، ينشأ نوع من الارتباط لا يمكن للكلمات وحدها أن تصفه، اللقاء الأول بعد الغياب الطويل لا يقدّم وجوه الآخرين فقط، بل يعيد تعريف وجوهنا نحن.
عالم لا يكتمل إلا بالضوء
اليوم، حين أتذكر تلك اللحظة، لا أتذكّر الوجوه كما رأيتها للمرة الأولى، بل الصدمة الداخلية التي شعرت بها، العالم بدا جديداً رغم أنه لم يتغير، وكنت أعيد تشكيل ملامحي من خلال رؤية الآخرين.
الأغرب، أنني لا أستطيع الفصل بين الوجهين: وجه الحقيقة ووجه الخيال، كلاهما يسكن داخلي، وكلاهما جزء من التجربة، كأن الوجوه التي لم أرها قط، والتي عشت معها في العتمة، كانت تمريناً على الصبر، وعلى القدرة على الصمود. هكذا الإنسان يستطيع أن يصنع عالماً كاملاً من صوت واحد، لكنه يحتاج إلى الضوء كي يكتمل.
اقرؤوا المزيد: حين عرفت الله لأول مرة في السجن
لم يكن اللقاء الأول نهاية العتمة، بل بدايتها الجديدة، فالوجوه التي رسمناها في الظلام كانت أكثر رحمة من تلك التي رأيناها أخيراً، في الخيال، نمنح رفاقنا ملامح تحفظ لهم بعضاً من عزتهم، نُخفي آثار البلاءات، ونمنحهم ما حُرموا منه من ضوء، لكن حين ينكشف الغطاء، ندرك كم بالغنا في حماية بعضنا من الحقيقة، نرى العيون التي فقدت بريقها، والأجساد التي نحلت حتى كادت تختفي.
هناك، في المسافة الصغيرة بين الوجه الذي صنعناه، والوجه الذي رأيناه، يولد قهر لا يشبه أي قهر آخر: أسر لا يسلب الحرية فحسب، بل يسلب حقّك في أن تتخيّل من تحب كما كان، يفرض عليك وجهاً آخر، مُتعباً ومنطفئاً، لا تملك رفضه ولا القدرة على احتماله.
وأقسى ما يتركه الاعتقال في الروح ليس الجوع ولا الضرب ولا العتمة، بل هذا الشرخ الصامت: أن تحمل وجهين للإنسان نفسه، وأن تعيش العمر وأنت تحاول ألا تنسى أيهما صنعه الخيال، وأيهما سحقه السجّان.