رقعةٌ كبيرةٌ من الرماد، هكذا أصبح حقلُ القمحِ الممتدّ على مساحة عشرة دونمات في منطقة "السدر" بين قريتي المغير وترمسعيا شمال شرق رام الله. السنابل التي كانت تُسابِقُ بعضَها البعض في النضوج لا أثرَ لها، سوى حبيبات قليلة نجت من الحريق، وتناثرت مواسيةً صاحبها لعلها تنبت مُجدّداً. لا شيءَ في الحقل إلا الرماد، بقي شاهداً على اعتداءٍ آخر شنّه المستوطنون على المغير، في السادس والعشرين من أيار/ مايو 2023.
تقع المغير على بعد 27 كيلومتراً شمال شرق مدينة رام الله، وتعتبر قريةً زراعيّةً، يعتمد أغلب سكانها على زراعة القمح والشعير، وبالأخصّ في سهلها الممتد، وعلى أشجار الزيتون، كمصدر رزقهم، وقد تحوّلت في السنوات الخمسة الأخيرة إلى هدفٍ متكرر لعدوان المستوطنين.
View this post on Instagram
وكما حصل في بداية موسم حصادِ القمح في سنواتٍ سابقة، افتُتِح هذا الموسم أيضاً باعتداءٍ جديد للمستوطنين على سهل المغير. يراقب المستوطنون المزارعين الفلسطينيّين وحقولهم؛ ما إن يشتدّ الزرع ويقترب الحصاد، حتى يباشروا باعتدائهم. وهو توقيتٌ مدروسٌ لإلحاق أكبر ضررٍ بالمزارع، وحرمانه من محصوله الذي جدّ في رعايته شهوراً طويلة، وبالتالي تحقيق الهدف النهائي للمستوطنين: طرد الفلسطينيّ من أرضه ومدّ المستوطنات فوقها.
"حرقوه برمشة عين"..
وسط الحقل المحروق، وقف عودة فتحي أبو عليا يراقب التلةَ القريبةَ التي أغار منها المستوطنون على حقله، قادمين من مستوطنة "عادي عاد" التي تبعد ثلاثة كيلومترات. كانت الساعة في حينه العاشرة صباحاً، وكانت عائلته قد تجمعت في الحقل الساعة الثامنة صباحاً لتحصد القمح وتُرَتِبه في بالاتٍ استعداداً لبيعه. عند العاشرة أيضاً كان كل شيءٍ جاهز وكان من المفترض أن يصل سائق الشاحنة لينقل البالات لبيعها، لكن كبريت المستوطنين كان أسرع.
اجتاح المستوطنون الحقل، وكانوا حوالي 40-50 مستوطناً، لم يعودوا يتخفون ليلاً، إنما جاءوا في وضح النهار، أطلقوا النيران من مسدساتهم لتفريق الناس، ثمّ جمعوا البالات فوق بعضها البعض، وأشعلوا النار فيها. يقول عودة: "نضج المحصول وطولت السنابل وقررنا حصادها وبيعها بالات للمواشي.. وإجا المستوطنين حرقوها برمشة عين".
أنتج حقل عودة المستأجر 270 بالة قمح كانت جاهزة للبيع بتكلفة 30 شيكلاً للواحدة، إلا أن كلها دُمرت في الحريق. يفتح عودة يديه ويقول: "لا ملجأ لنا إلا رب العالمين". ويضيف، "كل اشي بسويه المستوطنين ما بخوفنا وما بثنينا.. احنا فلاحين وفش النا بديل عن هذه الأرض فهي مصدر رزقنا الوحيد، لن نتركها للمستوطنين، ولو متنا بنزرعها بقبورنا".
لكن الوجعَ كبير ولا يخفيه عودة، يقول: "مقهور هذا تعبي وشقاي وكنت متأمل أطعم ولادي منه.. بعز علي كثير أنني فقدته بلمح البصر". يلتف عودة إلى الأرض المجاورة التي لم يحصدها بعد ولكنها اليوم تحت تهديد اعتداءٍ جديد، ويفكر مطولاً كيف سيحصد والمزارعون الآخرون محاصيلهم وسط استمرار هذه الاعتداءات.
يقع هذا الحقل ضمن تصنيف أراضي (ب) حسب اتفاقية أوسلو، أي أنّها تحت الإدارة الأمنيّة الإسرائيليّة والمدنيّة الفلسطينيّة. لكن مزارعي المغير لا يُلقون بالاً لهذا التصنيف، إذ يعتبرونها تقسيماتٍ واهية لا توفّر ولو القليل من الحماية. يعلّق عودة: "كل الأراضي يسعون لتهجير الفلاحين منها، ويمنعوننا من زراعتها.. المستوطن لا يفرق بين ب وج".
الجيش يحاصر ويعتقل، والمستوطن يحرق
منذ منتصف أيار/ مايو 2023، وقرية المغير تشهد اعتداءاتٍ متتالية من المستوطنين، فيما يغلق جيش الاحتلال يوميّاً مداخل القرية ويفرض حصاراً عليها مُعرقلاً تنقل المزارعين إلى أراضيهم. كما يشنّ حملات مداهمة للمنازل واعتقالات للشبان، طالت حتى كتابة هذه السطور حوالي 50 شاباً، أُفرِج عن معظمهم بعد إخضاعِهم لجلساتٍ من التحقيق والتهديدات.
تمتد قرية المغير على مساحة 41 ألف دونم وكلها سهول ممتدة نحو الشرق باتجاه غور الأردن. إلا أنّ 70% منها تقع ضمن تصنيف (ج)، أو أنها رهن مصادرة الاحتلال، وهو ما يعني أنّ الأهالي محرومون من زراعتها أو التمدد فوقها. أما ما تبقَ للناس فهو فقط 1200 دونم، مصنّفة كتصنيف (ب)، وهي محاصرة من كل الجهات بالاستيطان: مستوطنات شفوت راحيل، وعدي عاد، وشيلو، وشارع ألون الاستيطاني وبؤر استيطانية متناثرة.
ويأتي الاعتداء الأخير في سياقٍ مستمر من العدوان المتصاعد على المغير، تصاعد بعد تكثيف بناء البؤر الاستيطانية الرعويّة في أراضي القرية وفي محيطها لفرض واقعٍ استيطانيّ جديد، وخاصّة في الأراضي الواقعة شرق شارع ألون الاستيطاني. يقول رئيس مجلس المغير أمين أبو عليا: "ما يجري اليوم هو جزء من التنفيذ العملي المستمر لخطة الضم التي جُمِدت إعلاميّاً ولكنها تنفذ على أرض الواقع".
وقد برز في اعتداء المستوطنين الأخير على المغير التنسيق الواضح والعلنيّ مع جيش الاحتلال، إذ يوفّر الحماية والتغطية لهم من خلال تفريق الناس وإطلاق النار والقنابل صوبهم. يقول عودة: "إذا بندافع عن حالنا بقتلونا أو بحاكمونا.. المستوطن مسلح وحكومته بتحميه وبتعطي الحق يقتلنا ويحرق أرضنا". ويُبيّن عودة أنّ الجيش والمستوطنين كانوا يتبادلون التوجيهات، مُضيفاً: "أحد المستوطنين المُلثمين قال مهدداً أنا مخابرات وجئت اليوم لأقتل". ويشير إلى أن معظم المستوطنين يحملون المسدسات خلال عدوانهم على المزارعين، وقد أصابوا في الاعتداء الأخيرة أربعة من شبان القرية.
رؤوس الأغنام التي اختفت
لم يسلب الاستيطان المغير جغرافيتها الواسعة والممتدة فحسب، بل انعكس ذلك أيضاً على طبيعة عيش القرية التي لطالما اعتادت على الزراعة وتربية المواشي كمصدر رزق أساسي. يعلق أمين أبو عليا: "نتيجة للحصار الاستيطاني وتقليص المناطق الرعوية، أصبحت تكلفة تربية المواشي مرتفعة جداً والمصروفات تفوق الدخل"، وهو ما أدّى إلى انحسار وتراجع تربية المواشي والتي كانت قرية المغير من أشهر القرى في رام الله بها. يضيف: "كانت كل بيوت المغير تُربي المواشي وأقل بيت يملك 100 راس من الغنم أو البقر، اليوم فقط 5% من أهالي القرية يعملون في تربية المواشي، وربما لا يزيد ما يملك كل شخص فيهم عن 50 راس".
أما الزراعة، فعدا عن حرق المحاصيل، وضع الاحتلال يده على آبار المياه في المنطقة، ويمنع باستمرار المزارعين من حفر آبار جديدة أو شقّ طرقٍ زراعيّة، ويُصادر بين الحين والآخر المعدات الزراعيّة ويُغرّم أصحابها آلاف الشواكل قبيل استرجاعها. يُعلّق أمين أبو عليا: "أهالي قرية المغير يدفعون يومياً فاتورة وجودهم في هذه الجغرافية.. وهم على استعداد الثبات لما لا نهاية أمام كل هذا الواقع".
مواجهة على جبهات عدة
ياسر الحاج محمد (62 عاماً) أحد الأباء الذين اعتقلهم الجيش للضغط على أبنائهم خلال جلسات التحقيق، يقول إنّ جيش الاحتلال يحقّق مع أبناء القرية حول تصديهم لهجمات المستوطنين. هذه واحدة من جبهتين تناضل فيها عائلة الحاج محمد التي يتكرر اقتحام الجيش لمنازلها. أما الجبهة الثانية، فتخوضها على قطعة أرضٍ، هي آخر ما تبقى لها، تجاور شارع ألون الاستيطاني، تتعرض لاعتداءات متكررة من المستوطنين.
تمتد أرض الستينيّ ياسر على مساحة خمسة دونمات، يعمل فيها يوميّاً منذ بلوغه سن التقاعد بعد أن كان يعمل مُدرّساً للتربية الرياضيّة. كان آخر الاعتداءات عليها خلال عيد الفطر 2023، شمل ذلك تكسير عددٍ من الأشجار والمزروعات. يُعلّق ياسر: "كأن واحد نزع روحي.. تعب سنين راح بلحظة على أدين مستوطن". ورغم تكرار العدوان على أرضه، لا ييأس ياسر ولا يتوقف عن زراعتها والتواجد فيها، يقول: "احنا فلاحين وأصحاب مواشي، وبدنا نعمر أرضنا شو ما صار يصير". ويستدرك: "كل الهجمات هي سياسة تهجير عن أرضنا، بدهم نروح نشتغل عندهم ونصير عبيد.. ولكننا لسنا عبيد المرحلة".
تملك عائلة ياسر قطع أراضٍ أخرى، لكنها كما هو حال معظم أهالي المغير، تقع إلى الشرق من شارع ألون، ويمنعهم الاحتلال من الوصول إليها أو العمل فيها. يشير ياسر إليها من بعيد ويختصر وصفه لها: "أراضينا هناك جنة بس ممنوعين نوصلها". ويضيف "مستوطن واحد مانع كل المنطقة توصل لأرضها تحت حماية الجيش".
لم يُزل ياسر بعد أشجار التين واللوز والكرز والزيتون التي حطمها المستوطنون في أرضه كشاهد على جريمتهم فيها، وهي أشجار زرعها قبل نحو عشر سنوات، يقول: "بعتبروا الشجر عدوهم.. ولذلك احنا بدنا نضل نزرع عدوهم". وبين الأشجار زُرعت قنابل الصوت والغاز كشاهدٍ آخر على تغطية جيش الاحتلال لهجمات المستوطنين واستهدافهم المتكرر للمزارعين.