حين اقترب يوشع بن نون من أريحا كانت المدينة مغلقة، وكان سكانها مرعوبين خلف الأسوار. بأمرٍ إلهيّ، طاف بنو إسرائيل حول المدينة ستة أيام، يحمل الكهنة تابوت العهد وينفخون الأبواق في صمتٍ مهيب. وفي اليوم السابع، طافوا سبع مرات، ثم دوّت الأبواق وارتفعت الهتافات فسقط السور وسقطت المدينة معهم".
"اجتاحوها بالسيف، وأبادوا كلَّ حيٍّ فيها. لم يتركوا أحداً: لا شيخاً، لا طفلاً، لا امرأة، ولا حتى بهيمة. ثمّ جمع يوشع كل ما هو ثمي وأودعه بيت الرب. أما المدينة، فأُحرقت بالنار. وأمام الرماد، أطلق يوشع لعنته: ملعونٌ من يعيد بناء أريحا، ببكره يؤسسها وبصغيره ينصب أبوابها".، (سفر يشوع، الإصحاح 6).
يستدعي نتنياهو وجيشه في الحرب على غزّة هذا السرد التوراتيّ، ويكأن غزّة باتت أريحا بوصفها مكاناً ينبغي محوه، ويكأن نتنياهو هو يوشع بن نون وجنود جيشه يطوفون كما طاف من قبلهم حول أريحا، والغاية واحدة: إبادة المدينة وإنهاء مقاومتها.
يفترض هذا المقال أنّ ثمّة توظيفاً مكثّفاً للمصطلحات الدينيّة في الخطاب السياسيّ الإسرائيلي، وهو توظيف غير طارىء أو مستجد، بل يمثّل جزءاً أصيلاً ومتجذّراً في البنية الخطابيّة الصهيونيّة منذ نشأتها. ومن هذا المنطلق، يستعرض هذا المقال الملامح المركزيّة لهذا الخطاب.
النصّ الدينيّ في خدمة الإبادة
"أنتم جميعاً امتدادٌ لسلسلة الأبطال الذين لم يهابوا ولم يتراجعوا: يوشع بن نون، الملك داوود، بار كوخبا. هؤلاء حملوا سيف الحماية من أجل بقاء إسرائيل الأبدي، وأنتم تسيرون على خطاهم. تذكّروا كما ورد في الكتاب المقدس: "وتمنطقني قوةً للحرب، وتُخضع القائمين عليّ تحتي". (مزمور 18: 40).
بهذه العبارات، خاطب بنيامين نتنياهو جنود جيشه في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، في رسالة تعبويّة تجسّد السمات الجوهرية للخطاب الإسرائيلي الذي يرى الحربَ على غزّة امتداداً لرسالةٍ توراتيّة مُقدّسة. إذ لا تنبع الرؤية الإسرائيلية للحرب في غزّة فقط من اعتباراتٍ أمنيّةٍ أو سياسيّة، بل من قناعة راسخة بأن "إسرائيل" تخوض صراعاً ذا طابعٍ دينيّ-قوميّ، يصبح فيه الجندي استمراراً ليوشع بن نون وداود الملك، ويُختزل فيه العدو في صورة "عماليق" المعاصرة الذين تنبغي إبادتهم باسم الوعد الإلهي والنصّ المقدّس.

ومن يقرأ الخطاب الرسميّ الإسرائيليّ يلمس هذا بوضوح، إذ تُستدعى الرموز التوراتيّة في كل مناسبة مفصليّة، من "أرض الميعاد" إلى "الشعب المختار" ويجري تجنيدها لتبرير الاستيطان أو الحرب. وبهذا، يغدو النصّ الدينيّ أداة سيادية تُستخدم لإضفاء قداسة رمزيّة على القرارات السياسيّة والعسكريّة بغض النظر عن ماهيتها.
اقرؤوا المزيد: لقاءات بالسرّ.. الزعماء العرب في مذكرات نتنياهو
يعمل هذه الاستحضار الدائم والمكثّف أيضاً على حرف الأحداث عن حقيقتها وسياقاتها الإنسانيّة والقانونيّة، ويحصره في إطارٍ ضيّق بين "الخير والشر"، "النور والظلمة". بالتالي، تُحوّل الحرب وقراراتها في "إسرائيل" إلى معركةٍ مُقدّسةٍ لا تخضع للمساءلة والنقاش. وهنا، تتداخل الأيديولوجيا الدينية مع العنف الاستعماري لبلورة سرديةٍ تبريريّةٍ متكاملة.
العلماني يسبق
ربما يتساءل البعض إذا ما كان هذا التوظيف للخطاب الدينيّ ظاهرةً حديثة في "إسرائيل" ترافقت مع صعود اليمين. نجد جانباً من الإجابة في دراسةٍ حديثةٍ صدرت عن "معهد سياسة الشعب اليهودي (JPPI)" نُشرت عام 2025، قارنت بين خطابات دافيد بن غوريون في حرب 1948، وخطابات بنيامين نتنياهو خلال حرب "طوفان الأقصى" عام 2023.
اقرؤوا المزيد: تحسبهم جميعاً: تصدعات "إسرائيل" بمعول الطوفان
أشارت الدراسة إلى أنّ 79% من خطابات بن غوريون احتوت على اقتباسات من التوراة والتلمود، مقابل 58% فقط في خطابات نتنياهو. فهل يُمكن اعتبار الخطاب الديني في "إسرائيل" ظاهرة طارئة أو جديدة؟ الأرجح أن الجواب هو: لا. فحتى النخبة العلمانية التي قادت المشروع الصهيوني في بداياته، وفي مقدمتها دافيد بن غوريون، لم تتردّد في توظيف الرموز والنصوص الدينيّة ضمن عملية بناء الهويّة القوميّة.
رغم أنّ بن غوريون يُعدّ علمانيّاً في خلفيته الأيديولوجية، فقد استخدم النصوص الدينية والتاريخية اليهودية بكثافة، كما استدعى شخصيات توراتيّة وتاريخيّة مثل موسى ويوشع بن نون والمكابيين في 42% من خطاباته، في مقابل 24% فقط لدى نتنياهو خلال حرب "طوفان الأقصى". وبينما أشار بن غوريون إلى أحداثٍ مركزيّة في الذاكرة الجماعية اليهودية مثل الخروج من مصر وطرد اليهود من إسبانيا في 52% من خطاباته، لم ترد هذه الإشارات سوى في 12% من خطابات نتنياهو. كذلك، استخدم بن غوريون تعبيرات لاهوتية قوية مثل "صخرة إسرائيل"، و"بصورة الله"، و"القدوس تبارك اسمه" بنسبة بلغت 21%، في حين ركّز نتنياهو على تعبيرات إيمانية موجزة مثل "بعون الله" و"الله ينتقم لدمهم" ظهرت في 59% من خطاباته، مقابل 21% فقط لدى بن غوريون.
ما الذي تغيّر؟
هل بقي الخطاب الدينيّ في حدود الرمز والاستدعاء التاريخيّ، أم أنّه اتخذ مساراً آخر؟ لقد تحوّل هذا الخطاب من أداةٍ لصياغة الهويّة إلى وسيلةٍ لتبرير الفعل العنيف نفسه. لم يعد "العماليق" مجرد استعارة، بل صار العدو المباشر الذي يجب محوه. على سبيل المثال يُعدُّ الحاخام يتسحاق غينزبورغ، أحد أبرز منظّري هذا التوجه، إذ أعاد تعريف الصراع مع الفلسطينيين باعتباره "حرباً مُقدّسة"، ووجد خطابه رواجاً كبيراً بين جماعات مثل "فتية التلال". في ضوء ذلك يمكننا فهم نتائج استطلاع للرأي أجرته صحيفة "هآرتس" في آذار/مارس 2025 أظهر أن 93% ممن يعرّفون أنفسهم كمؤمنين في "إسرائيل" يؤمنون بوجود "عماليق هذا العصر"، وأنه يجب تنفيذ وصية التوراة "محو ذكر عماليق". الأهم من ذلك، أنّ 47% من المشاركين في الاستطلاع وافقوا على أن يتصرّف الجيش الإسرائيلي في غزة تماماً كما فعل يشوع في أريحا: إبادة جماعية باسم الوعد الإلهي.

كذلك، فإنّ هذا الخطاب لم يعد حكراً على المتدينين. بل تسرّب إلى الأوساط العلمانية أيضاً. بحسب الأرقام فإنّ 69% من العلمانيين الإسرائيليين يؤيدون التهجير القسري لسكان غزّة، و31% يدعمون فكرة محو مدينة بأكملها "كما في العهد القديم". ولم يكن الإعلام الإسرائيلي بمنأى عن هذا التحوّل، بل شهد انكشافاً صارخاً في لغته وتصوراته خطابه، فبعد 7 أكتوبر، أظهر تحليلٌ شامل أن 62% من التغطيات الإعلامية والسياسية في "إسرائيل" استخدمت مصطلحات دينيّة مباشرة، تعيد الصراع إلى أبعاده اللاهوتية: نجاسة، خلاص، وصية، عقاب إلهيّ.
الحروب كأداة لتكريس الرمزيّة الدينيّة
يبرز التوظيف الدينيّ في تسمية الحروب، إذ تتّبع "إسرائيل" نهجاً مقصوداً في تسمية عملياتها العسكريّة بأسماء مستمدة من التوراة، مما يمنح الحرب بُعداً دينيّاً وتاريخيّاً يتجاوز البعد العسكريّ البحت. ولا تقتصر وظيفة التسمية على بعدها اللغويّ أو الرمزيّ، بل تؤدّي دوراً أيديولوجياً فاعلاً في إضفاء الشرعية على الحروب.
وفق تقرير نشرته "معاريف" عام 2024، فإنّ الأسماء لا تُمنح بشكلٍ اعتباطي، بل يتم اختيارها لتتماهى مع الرموز التوراتيّة والملاحم اليهودية، ما يجعل من كل حملة عسكرية امتداداً لسردية قوميّة مُقدّسة، ويتحوّل العدو الحديث إلى تكرار لأعداء بني إسرائيل مثل عماليق أو الكنعانين.
اقرؤوا المزيد: الدولة القلقة.. سيناريوهات التهديد الوجودي لـ "إسرائيل"
وبحسب التقرير فإنّ عملية التسمية تبدأ من تلقي اقتراحات الضباط الميدانيين، ثمّ تمرّ عبر وحدات تحليل في قسم الإعلام العسكري، لتصل في نهايتها إلى مصادقة هيئة الأركان ورئيس الأركان شخصياً. وتبيّن دراسة للبروفيسورة دافنا غبريئيلي - نوري أن 38% من أسماء العمليات مستمدة من الكتاب المقدس، و27% من مفردات الطبيعة، بينما تشير النسبة المتبقية إلى مفاهيم القتال والقوة. ترى الدراسة أن هذه التسميات تشكل "ستاراً لغويّاً" يُجمّل عنف الحرب ويحوّله إلى سردية بطولية تُنتج نوعاً من "تطبيع" العنف ضمن المخيال الجمعي الإسرائيلي.
ولنأخذ أمثلة على ذلك من الحرب الدائرة، فقد أطلق الاحتلال على حربه اسم "السيوف الحديدية". تُستدعى هذه التسمية من عمق الذاكرة النصيّة كإشارةٍ مباشرة إلى الصراع المؤسّس بين بني إسرائيل والفلستيين في بدايات نشوء الملكية، وتحديداً في زمن داود وشاؤول، حين حُرم العبرانيون من تصنيع السلاح الحديدي، ما عُدّ رمزاً لغياب السيادة القومية. من هذا المنظور، لا تُعبّر "سيوف الحديد" عن مجرّد أداة قتالية، بل عن استعادة للقدرة المفقودة وتكريس لحقّ السيادة على الأرض، بما يتجاوز الاستراتيجية العسكرية إلى تحقيق نبوءةٍ توراتيّة. وإذ يُسقِط الخطاب الديني - السياسي المعاصر هذه الذاكرة على الواقع الفلسطيني، فإنه يُعيد إنتاج الفلسطينيين كـ "فلستيين جدد"، ويؤطّر المعركة الراهنة باعتبارها امتداداً لحرب قديمة تُخاض مجدداً تحت عباءة العقيدة، لا ضمن حدود القانون أو السياسة.
رسائل أخرى تحملها التسميات
وفي مطلع أيار/مايو 2025، أعلن الاحتلال عن تصعيد جديد في غزّة حمل اسم عملية "عربات جدعون"، والتي تهدف إلى تحقيق حسمٍ عسكريّ وسياسيّ في القطاع، في محاولة لدفع حركة "حماس" إلى القبول باتفاق وفق الشروط الإسرائيلية. في بدايات التخطيط للعملية، رُفض مقترح تسمية الحملة باسم "شمشون"، إذ عارض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ذلك، مبرّراً رفضه بأن شمشون قال في لحظة بطولية: "فلتَمُت نفسي مع الفلسطينيين"، مضيفاً: "نحن لا نسعى إلى الموت معهم، بل نريد أن نموتهم وحدهم".
من هنا، اختير "جدعون" بوصفه نموذجاً لقيادة تسعى للنجاة الجماعية لا الموت الفدائي. فالاسم ليس تسمية فقط، بل يعكس تصوراً استراتيجياً للقيادة والخلاص والانبعاث. إن اختيار اسم "مركبات جدعون" لا يندرج ضمن تسمية عسكرية محضة، بل يعكس توجهاً رمزيّاً تعبويّاً يهدف إلى إلهام المجتمع الإسرائيلي من خلال استحضار نموذج قيادي خرج من رحم الانكسار والهامش. (هامش: جدعون، القاضي التوراتي، قاد شعبه في لحظة انحدار أخلاقي وانتشار عبادة الأصنام، حين تحالف العدوّان مديان وعمالِيق لتدمير المحاصيل. ورغم الخوف، واصل جدعون عمله الزراعي سرّاً، مؤمناً بالنجاة. حين ظهر له ملاك الرب، سأله : "إن كان الرب معنا، فلماذا أصابتنا كل هذه الشرور؟". وهنا اعتُبر سؤاله هذا قوة إيمانية لا ضعفاً، إذ دلّ على شجاعة أخلاقية وروحية.)

وفي 13 حزيران/يونيو 2025، أطلق الاحتلال حرباً ضدّ إيران تحت اسم "شعب كالأسد"، وهو اقتباس توراتي من سفر العدد (23:24). هذا الاسم اختير عمداً للدلالة على القوة واليقظة والمبادرة الهجومية. الغاية من وراء هذا الاسم أن يعكس العقيدة الإسرائيلية القائمة على الردع والضربة الاستباقية، حتى وسط الإنهاك الناتج عن الحروب في غزة ولبنان. وهذا أعادت هذه التسمية التذكير بتفسير رمزي قديم للحاخام دافيد موشيه والي يُشبّه فيه الأمة الإسرائيلية بالأسد الذي يبدو خاملاً ثم ينقضّ فجأة على فريسته.
اقرؤوا المزيد: هل انتهت "الديمقراطيّة الإسرائيليّة"؟
ختاماً، يتبيّن أن الخطاب الإسرائيلي لا يكتفي بتوظيف الرموز الدينية كوسيلة تعبئة مؤقتة، بل يعمل على إعادة إنتاجها ضمن بنية أيديولوجية تضفي على العنف الاستعماري شرعية مقبولة مجتمعياً، وتُعيد تأطير الحروب الراهنة ضمن سرديات توراتية مقدسة. هذه السرديات لا تبرّر الحروب فحسب، بل تَمنحها طابعاً شعائرياً يُستعاد فيه الماضي بوصفه نموذجاً للإبادة، كما في رواية أريحا.
كما تُعتبر تسميات الحروب العسكرية برهاناً على هذا التماهي العميق بين السياسي من جهة والديني من جهة أخرى. إذ تغدو الحرب وسيلة لتحقيق نبوءة توراتية، لا مجرد أداة للهيمنة العسكرية.
بمعنى آخر، يعمل الخطاب الديني كمحرّك مركزي في العسكرة الإسرائيلية، مستمداً من قناعة بأنه يطبّق إرادة إلهية فوق المساءلة، ويدفع المزيد من العنف الاستعماري الإسرائيلي باسم الخلاص الموعود.