بعد ليلةٍ باردةٍ داخل الصّالة المصريّة لمعبر رفح جنوب قطاع غزّة، وجدت أجسادُ الشبان الخفيفة براحاً لها على مقاعد إحدى سيارات الترحيلات المتجهة إلى مطار القاهرة. نجاةً من الوقوع تحت وطأة المسافات والانتظار على حواجز الجيش والأمن المصريين، دسّ أحدُ الشبان يدَهُ في جيب حقيبتِهِ وأخرج "فلاشة" يحفظُ بها بعضاً من الأغاني.
دون التفوهِ بكلمةٍ، مدّ الشاب "الفلاشة" بمحاذاة كتف السائق. التقطها الرجلُ وشَبَكَها في المسجِّل، لِتَصدح موسيقى مهرجان "وداع يا دُنيا وداع" من سماعات السيارة، ويعلو معها صوتُ السائق المصريّ بنبرةٍ مُستهجِنة: "عليّ الطلاق ما عرفت المهرجانات إلا منكم يا أهل غزة".
مرافقة ذلك السائق المصريّ شبه اليوميّة لعشرات الخارجين من قطاع غزّة، حَدَّثته بكلِ بساطةٍ عن ميل ذوقهم للموسيقى المصريّة. وهو ميل يتكشف بوضوحٍ، لا تُخطِئه آذانُ السامع، كلما اتجهنا جنوباً في القطاع. يقفُ وراء كلِّ ذلك تاريخٌ طويلٌ من الارتباط الثقافيّ والسياسيّ، المتكئ على الجغرافيا، أو لعنتها إن شئت.
اقرأ/ي المزيد: "التنسيق في معبر رفح.. المالُ طريقاً للسفر".
منذ التسعينيات تقريباً، تكثّف حضور رائج سوقِ الموسيقى المصريّ –على اختلاف ألوانه- في غزّة كما في القاهرة، وكأن الاحتكاك بين هذين الفضائين هو احتكاكٌ حتميّ. يذكر كثيرون أغنية "يا ترى" للمطرب المصريّ بهاء سلطان، الصادرة عام 1999، مثالاً على هذا الرائج. يتذكرون سماعها في اليوم ست وسبع مرات، دون تكبد عناء تشغيل جهاز تلفاز أو راديو. وهم جالسون في غرفهم، وَصَلَتهم الأغنيةُ من سماعات السيارات المارّة في محيط بيوتهم، ومن مكبرات الصّوت في أعراس المنطقة، ومن مسجِّلات الجيران المزعجين.
من حينها إلى اليوم تصاعد الحضورُ الموسيقيُّ المصريّ بمختلف ألوانه في غزّة، وبدأ يتجاوز الاستماع إلى محاولة التقليد والإنتاج.
في البداية كانت الوصلة
عدا عن السّماع الحرّ، تجلّى حضورُ الأغاني المصريّة في غزّة عبر منصات الأعراس. إذ صارت الوصلةُ المصريّةُ جزءاً أساسياً في برامج الحفلات، لا يُنهي المطربُ سهرة العريس بدونها. وقد ارتبط نجاح بعض مطربي الحفلات الشعبيّة في غزّة، كخالد المغاري، ورامي عكاشة، بتفوّقهم في أداء الوصلة المصريّة بشكلٍ يفوق غيرهم.
ضمّت وصلة الأغاني المصريّة في الأعراس ألواناً مختلفة، طربيّة كمقاطع لأغاني أمّ كلثوم وعبد الحليم حافظ، وأخرى شعبيّة لعدوية وحكيم وأحمد شيبة وعبد الباسط حمودة، وغيرهم. كما كان المطربون يثرون وصلاتهم على الدوام بتنويع أغانيها ومواكبتها للرائج والجديد.
وإن غاب المطرب، كانت الأغاني المصريّة تحضر في حفلات الأعراس المعتمدة على نظام الـDJ، والمعروفة بـ"حفلات الستيريو"، وهو طابع الحفلات الغالب في غزّة، كونه الأقلّ تكلفة. ومن هذه الحفلات تحديداً بدأت موسيقى المهرجانات المصريّة بالتسرب تدريجياً إلى ساحات الأعراس، لتسيطر وتلقى رواجاً جيّداً بين شرائح عمريّة واجتماعيّة مختلفة.
كل الطرق تؤدي إلى المهرجان
في بداية الأمر لم تلقَ المهرجانات القبول ذاته الذي تلقاه الآن في غزّة سواء في سهرة العرس أو في السيارة أو البيت أو المقهى. اُعتبرت في حينه تقليعةً هابطةً وسوقية. صحيحٌ أنّ هذه النظرة لم تتغير عند الكثيرين إلى اليوم، إلا أنّهم أصبحوا أكثر قبولاً لسماعِها وغنائها وتشغيلها في سهراتهم.
وكانت مناطق الجنوب، رفح وخانيونس، أكثر رحابةً في استقبال المهرجانات المصريّة، وخصوصاً في "حفلات الستيريو"، لا الحفلات التي يحييها مطربون شعبيّون الذين كانوا حينها يرفضون غناءها في حفلاتهم.
لم يصمد هذا الرفض طويلاً حتى بدأ أغلب المطربين الشعبيّين بحجز مكان لها في وصلتهم المصريّة، كسامي الحرازين، وخالد فرج، وأكرم حسن، ورامي عكاشة، وعبود الحرازين. وبعد أن كانت الوصلة المصريّة تُقدّم على استحياءٍ، كفقرةٍ ختاميّةٍ تضمّ أغاني مهرجانين أو ثلاثة كحدٍّ أقصى، أصبحت المهرجانات فقرةَ السهرة المُنتظرة، التي تُشعِلُ لهيبها.
في سهراتٍ أخرى صارت "فقرة المهرجانات" هي "الفرشة" الأساس، وكل شيء آخر هو اكسسورات يمكن التخلي عنها أو استبدالها. وينتقي مطربو الحفلات ومنسقو الأغاني أكثر المهرجانات رواجاً على الساحة المصريّة لغنائها وتشغيلها في حفلاتهم. خلال العام الماضي على سبيل المثال، لم تُقدّم وصلة مصريّة إلا وتضمنت المهرجانين "عايم في بحر الغدر"، و"إلعب يلا".
يُعبّر التحوّلُ الواضح في موقف المطربين الشعبيّين الأكثر شهرةً من المهرجانات عن غلبتها الكاسحة وسطوتها الواسعة بالسحر أو السر الذي تَملَكُه موسيقاها. فرغم كثافة مؤثراتها الإلكترونيّة، إلا أن ألحان المهرجانات تتسمّ بالبساطة البعيدة عن أيّ تعقيد، وتعمد إلى الإيقاعات المُكررة التي تسحبُ رأسَ المستمعِ معها في دوامةٍ لا فكاكَ منها. الأهم من ذلك أنّها موسيقى لن تُضحِكَكَ ولن تُبكِيكَ، إنّها تكتفي بإبهاجِكَ فقط.
ورغم الشحنة الذكوريّة العالية في كلمات المهرجانات، إلا أنّها تحمل كذلك مجموعة من القيم التي تلقى تقديراً -وإن كان زائفاً في بعض الأحيان- في أوساط الطبقات "الدنيا"، مثل الشهامة والنخوة والعصبيات المناطقية. تُركّز المهرجانات على هذه القيم في سبيل إظهار شكلٍ من أشكال الوفاء والأصالة الاجتماعيّة، وكدلالة على استمرار ارتباط مطربي المهرجانات -بعد شهرتهم- بالشبكات الاجتماعيّة التي انبثقوا منها واستمدّوا منها جمهورَهم الأول.
في السياق ذاته، لاقى خلال الفترة الماضية على سبيل المثال، مهرجان "يا بنت يلّى أمك مزة" هجوماً وانتقادتٍ حادّة، جاء بعضها على "هباطة" كلمات المهرجان، وبعضها الآخر على وجود الأطفال في الكليب. وصل الأمر لأن تفتح النيابة العامة تحقيقاً وتستدعي المشاركين في إنتاج عمل "تتضمن كلماتٍ هابطة، وحثّاً على الفجور، وإخلالاً بالحياء العام والأخلاق والنظام العام"، بحسب تعبيرها.
من الاستماع إلى الإنتاج
مع مرور الأيام تجاوز الأمر سماع المهرجانات والابتهاج على ألحانها إلى محاولات إنتاج مهرجاناتٍ محليّة في غزّة، بكلمات وألحان جديدة. إلا أن أغلب تلك المحاولات ولم تلقَ نجاحاً واستمراراً، وظلّت تُراوح مكانها في المحاولة.
قاد أبرز تلك المحاولات ثلاثةُ شبانٍ أطلقوا على أنفسهم "رملاوية غزة". أنتجت هذه الفرقة مهرجانات مثل أخبرهم يا صلاح ورافع مايك، وأحيت العديد من سهرات الأعراس في غزّة. كما ظهر الشبان الثلاثة في مقطع فيديو يؤدون إحدى مهرجاناتهم خلال أمسيةٍ شعريّةٍ، في مشهد لا يمكن وصفه إلا بالمربك والمريب. منذ عامين تقريباً اختفى ثلاثتهم، ولم يعاودوا النشر على صفحاتهم على "فيسبوك" و"يوتيوب".
وفي مثالٍ آخر على التأثر بالمهرجانات المصريّة، برزت تجربة مهرجانات الفنان حسام خلف من رفح، والمعروف بـ"المخ". قدّم "المخ" أغنيّة فلسطينيّة على نمط المهرجانات تتعدى المواساة والتذمر والشكاوى إلى الشتم والسخرية. يسخر "المخ" من "كرابيج الضرائب" في غزّة، ويرفض ارتفاع الأسعار، والمعبر المغلق، والراتب المقطوع أو المتأخر، والوظيفة التي لا تأتي أصلاً.
ولا يمكننا أن نخطئ انطواء السخط تحت عباءة السخرية في كليبات "المخ" التي ينتجها على نفقته الخاصة، بل وبالدين أحياناً. هو سخط على الاحتلال وحصاره وحروبه، سخط على السّلطة الفلسطينيّة وسياستها العقابية، سخط على الحكومة في غزّة وضرائبها التي لا تنتهي. وقد سبب له الأخير وجع رأس إضافي مع الأجهزة الأمنية في غزة.
لا تسلم السلطة الفلسطينيّة ورموزها كذلك من سلاطة لسانه. يخاطب في إحدى أغانيه الرئيس محمود عباس: "سيادة الرئيس.. يوم وفاتك حنشرب سكر سادة". وفي مهرجان "مافيا" يتحدث عن الحكومة الجديدة: "بعد ما ضيعنا "الحمد لله".. هالله هالله.. شكل بايدك حط اشتية". ووسط سوق السمك في رفح، يظهر "المخ" في مقطعٍ مصوّر وهو يجر عربة مخبوزات ويغني: "يا بنت الهباش.. وظيفة براتب كاش- يلا مهو أبوكي يا عيني.. وزير الأوباش".
الكلمة فلسطينية واللحن مصريّ
دون تقديم جديد على مستوى الإنتاج الموسيقي، لجأ بعض الهواة في غزّة إلى استعارة اللحن من أغاني ومهرجانات مصريّة، وإعادة إنتاجه بكلمات فلسطينية تحاكي واقعهم. إلى جانب "المخ"، يلعب هذه اللعبة مؤخراً علي نسمان المعروف بـ"شريحة". إنّها لعبة واضحة وبسيطة ومجدية في ذات الوقت. يقتنص الاثنان أغانٍ وكليباتٍ رائجة في مصر، وبالضرورة في غزّة، يأخذا ألحانها، ويكتبا كلماتٍ جديدةً على وزنها. ودون التخفف من مفردات اللهجة المصريّة فيها، يُخرج الاثنان أغانيهما على شكل كليباتٍ غنائيّة ساخرة.
في آخر أعماله، نسخ نسمان لحن أغنية المطرب المصري مصطفى حجاج "حظوة يا صاحب الحظوة"، وألف عليها أغنيّة جديدة؛ "صفقة يا صاحبي صفقة"، علّق فيها على "صفقة القرن" بعد إعلانها في يناير/ كانون الثاني الماضي. حصدت الأغنية حوالي مليون ونصف المشاهدة على صفحة نسمان على "فيسبوك"، وهو رقم يعتبر مرتفعاً بالمعايير المحليّة. وقد أنتج "شريحة" كذلك كليبات غنائيّة على نسق مهرجاناتٍ مصريّة رائجة، تناول فيها قضايا وطنية، منها أغنية "قاعد لوحدك"، التي تأخذ لحن "إلعب يلا" لنجميّ المهرجانات أوكا وأورتيجا.
على عكس نسمان، يتمتع "المخ" حسام خلف بحضور أكثر خفة في كليباته الساخرة. كما أنه أكثر تركيزاً على استقاء ألحانِ كليباته من أغانٍ مصريّة ذائعة الصيت، بدايةً مع "3 دقات" و"أزمة يا غزة أزمة"، من لحن رائعة عدوية "زحمة يا دنيا زحمة"، إلى أن حصر مصادره للعثور على الألحان في أغاني المهرجانات.
ومقارنةً بأعماله الأولى، فإنّ نسخ المهرجانات المصريّة التي غنّاها "المخ" نالت انتشاراً أوسع. بدايةً من "وداع يا غزة وداع"، التي حاكت في كلماتها وألحانها مهرجان حمو بيكا وحسن شاكوش "وداع يا دنيا وداع"، مع استعارة خاطفة في منتصفها لمزمار عبد السلام في "عم يا صياد". وكذا في "بنت الجيران"، المأخوذة من مهرجان حسن شاكوش الذي يحمل الاسم ذاته. تكرر الأمر كذلك في أغنيتين اتكأ فيهما "المخ" على ألحان مهرجانات محبوبه محمد رمضان، بل واستعار مظهره في الكليبات. وفي محاولة لاصطياد المستمعين أو ربما كسلاً لا أكثر، نسخ "المخ" كذلك ذات عناوين أغاني رمضان، ومنها: "مافيا"، و"نمبر وان"، الأغنية الأكثر شهرة "للمخ"، والتي تقول لازمتها:
"أنا في غزة عايش شمحطي.. عمري واصحابي لسا ضايعين
أنا على الأمل عايش في وطني.. واسمي المخ من فلسطين.. نمبر وان".
مصرّ ترد السّلام
في مقابل تلقي المهرجانات وإنتاجها ونسخ ألحانها في غزّة، غنّى مؤدّو المهرجانات المصريّة لفلسطين، وغزّة تحديداً. اقتربت تلك المهرجانات أكثر من محبيها الفلسطينيين، وحملت لغةً مغايرةً لتلك التي اعتدنا وُرُودَها في الأغاني العربيّة التي غُنّت من قبل لفلسطين وعنها.
في مهرجان "يا خاينين"، ظهرت فلسطين عند حمو بيكا بـ:"الضرب الحامي.. ومبناخدش يلا بالأسامي - انزل غزة تلاقي معزة.. تعمل حملة تموت قدامي". أما رفيقه علي قدورة فقال: "جوانا بتعيش.. أرض غزة ما بتجليش- هنا الرجولة من الدرجة الأولى.. وقت الجد تلاقينا جيش". فيما طغت أكثر روح "وين الملايين" الكلاسيكية على مهرجانين آخرين، هما "بدنا نعيش - لأرض فلسطين" لأحمد سبيرتو ويوسف بندق، و"غزة تحت القصف" للمشاكس القناص.
ختاماً، لا يمكن القول إنّ تجربة المهرجانات في غزّة تُقدّم إضافةً على مستوى الإنتاج الموسيقيّ المحليّ، وهو ما يُبيقيها في دائرةٍ ضيّقةٍ من المحدودية والتكرار والاستنساخ، دون الذهاب لفتح مساحاتٍ تجريبيّة وإنتاجيّة أرحب وأكثر ثراءً وتجديداً.