15 مايو 2025

مقاومة لا تراها الطائرات

مقاومة لا تراها الطائرات

يعيش الفلسطيني في غزة أسوأ أيّامه، إذ عادت الحرب قبل أن يلتقط أنفاسه، فكانت صدمة كبرى فوق جبال الألم. لم يصمد اتّفاق وقف إطلاق النار، وعادت الحرب. حُيّدت الجبهات، وتراجعت أوراق القوة، بينما الاحتلال عاد بغطاء بلا سقف، واتّسعت "بوابة اليأس" أمام الفلسطيني أكثر من أيّ وقت مضى.

نوع السلاح: زرع الشّك 

مع عودة الحرب، عادت شعارات الاحتلال التي رُفعت في بدايتها: السيطرة على الأرض، التهجير، والاستيطان. هذه المرّة بدا أنه لا شيء يردعهم، السلاح متاح، والقرار بيد نتنياهو الذئب الجريح، والغطاء الأميركي حاضر.

في ظلّ  هذا، تبدو المقاومة محاصرة، ويُراد للفلسطيني أن ييأس، وأن يقنع بأن لا جدوى من المقاومة.

همس لي أحد رفاقي: "أشعر بأنّه كلّه ع الفاضي.. قاومنا أو استسلمنا، لا فرق". بدا كمن سُلب الإرادة وحق التفكير، وهُنا خطورة المرحلة: الحرب تستهدف العقول.

الخطّة: أن نيأس

يعيش وزير المالية الإسرائيليّ بتسلئيل سموتريتش ذروة نفوذه، وقد سنحت له فرصة العمر لتنفيذ خطته التي لطالما بشّر بها: "خطة الحسم". كيف لا وهو المُنظّر لاستمرار الحرب على كلّ  ما هو فلسطينيّ.

لا تكتفي الخطة بالسيطرة الجغرافية، بل تسعى لحسم العقول، وسحق فكرة المقاومة، وتجريد الفلسطيني من أيّ  أمل بالبقاء أو النّجاة.

تتناول عائلة البلعاوي وجبة الطعام تحت خيمة نصبتها فوق أنقاض منزلها المدمر في مخيم جباليا، في 5 حزيران/ يونيو 2024. (تصوير: محمود عيسى/الأناضول)

بالنّسبة إلى سموتريتش، الأمل هو عدو "إسرائيل" الأخطر، والمعركة على الأمل هي أساس حسم الصّراع. لماذا يقاوم الفلسطيني؟ يفعل ذلك لأنّ عنده أملاً بتحرير بلده، ولأن لديه حلماً بدولة، وسيادة، وعودة إلى الدّيار التي هُجّر منها، وبالتالي فإن "إسرائيل" ستكون محل خطر وتهديد مضاعف مع كل بارقة أمل لدى الفلسطينيين.

لذلك، يدعو إلى إعلانٍ قاطعٍ بأن لا دولة فلسطينية ستقوم، وفرض "السّيادة الإسرائيلية" على الضفة وغزة، ولاستيطان أكثر شراسة بجلب مزيد من المستوطنين. والنتيجة: واقعٌ مغلق لا يحتمل بارقة أمل، ووعيٌ فلسطينيٌ كيُّه ممكن.

هكذا يخطط سموتريتش، وما يجري على الأرض يُظهر أنّ حكومته ماضية في تنفيذه. لكن، مهما سلبوا من الأرض، وأسروا الناس، هل يمكنهم أسر العقول؟!

من الصّاروخ إلى الإشاعة

يسابق الاحتلال الزمن للسيطرة على نصف أرض قطاع غزة، وضمّه بالأمر الواقع إلى مناطقه الأمنية، عبر القتل، التهجير، الحصار، منشورات الإخلاء، وحصار مطبق، بالتوازي مع حرب دعائيّة لا تقلُّ فتكاً.

في هذه الحرب، تُستخدم الدّعاية لإرباك الوعي الفلسطيني، عبر صدمات متتابعة، وأخبار مُضللة، ودعوات للاستسلام والتخلّي عن المقاومة والأسرى.

حين نضع ذلك في سياق "خطّة الحسم"، تتضح لنا أهداف الحرب: قتل أمل الفلسطيني من الداخل، وليس عزله من الخارج فحسب.

لذا فإنّ تحليل فكرتين مركزيتين من خطاب الاحتلال قد يساعدنا على تفكيك سرديّته، وتوجيه البوصلة إلى ما نريده نحن، لا ما يُراد لنا أن نكون.

لماذا لا نستسلم؟ 

تروِّج دعاية الاحتلال للاستسلام وتسليم الأسرى والسلاح طريقاً لوقف الإبادة. لكن بنيامين نتنياهو نفسه يفنّد هذا الخيار، بإعلانه أن لا تفاوض قبل إنهاء المقاومة، ونفي قيادتها، وتسليم سلاحها، وإعادة الأسرى، وضمان السيطرة الأمنية، وبالتالي نسف أيّ دعوة للاستسلام المشروط.

اقرؤوا المزيد: غزة.. ملحمة الشهادة والشهود 

ما يُعرض على الفلسطينيين ليس هدنة، بل خضوع كامل بلا شروط، يُسلّم الفلسطينيين إلى مُنتقمين متوحشين.

لهذا، فإنّ ترويج فكرة الاستسلام ليس له أيّ وجاهة، لأن ما نريده هو حفظ ما تبقّى، والاستسلام لن يضمن ذلك.

يريدوننا مُهجّرين.. مُنكسرين

يروّج الاحتلال للتهجير باعتباره "خياراً طوعياً"، بينما يسعى لفرضه بالقوة. أنشأ له دائرة خاصة، وراح "الموساد" يبحث عن دول تستقبل الفلسطينيين، في حين يُحمّل نتنياهو مصر مسؤولية رفض استقبال سكان غزة، متبجّحًا بـ "منحهم حُريّة المغادرة".

هل يمنح الاحتلال الفلسطينيين خيار المغادرة، أم يجبرهم على الهجرة؟ الواقع يفضح الرواية الإسرائيليّة. فقبل احتلال معبر رفح لم يُسمح لسِوى 600 - 800 شخص بالمغادرة يومياً، ثم أوقف الاحتلال هذا الخروج من غزة باحتلال المعبر في السّابع من أيار/ مايو 2024. حتّى البنود التي نصّ عليها اتّفاق التهدئة لتسهيل سفر الجرحى لم تُنفّذ.

رجل يستريح بالقرب من جدارية "هنا أرض العظماء، أهلاً وسهلاً" في شارع الرشيد الساحلي في غزة، في 26 كانون الثاني/ يناير 2025. (تصوير: عمر القطاع/وكالة فرانس برس)

فلو كان الاحتلال يريد مغادرة الناس فعلاً، لفتح لهم الطريق. لكنّه يريد تهجيراً قسرياً مُذلّاً. نعم، هناك من يريد الخروج من غزة، لكنّ أضعافهم يريدون البقاء أو العودة.

في الهدنة الأولى في 2023، تجمّع مئات العالقين على بوابة معبر رفح من الجهة المصريّة على أمل العودة رغم الصواريخ التي تنهمر. يكفي أن نرى السّيدة التي خاطبت ماكرون والسيسي في مستشفى العريش، طالبةً أن تُدفن في غزة بعد أن خرجت منها لعلاج ابنتها. أو أن نقرأ منشور وسام الفقعاوي الذي رفض المغادرة رغم مرض أطفاله. هذه ليست استثناءات، بل مخيال جماعي يتمسّك بالبقاء في وجه التهجير.

مخيال الفلسطيني 

جوهر مواجهة خطة سموتريتش يكمن في "مخيال الفلسطيني". ذاك العالم الداخليّ المليء بالصور والرموز والتطلّعات.

لماذا مخيال الفلسطيني؟ لأنه مساحة لا تُحتلّ. فمنذ النكبة حاول الاحتلال نزع الأرض والهوية، لكنّه لم يستطع مصادرة الذكريات أو منع حلم العودة.

ولأنّ المخيال صيغة مقاومة، يرسم الطفل البحر دون أن يراه، ويكتب الشّاعر عن يافا التي لم يزرها، وتحلُم الأم بالعودة إلى بيتها المُدمّر. إنّها أدوات مقاومة داخليّة تُبقي الأمل.

اقرؤوا المزيد: لن نبرح غزة.. محاولات التهجير إلى سيناء والعالم

"طوفان الأقصى" لم ينبثق من فراغ، بل من مخيال فلسطيني، تحوّل إلى واقع. المخيال درعٌ يحمي من التشوّه النفسيّ ومن معاني الفقد والقهر والتشتت؛ يعيد ترتيب الألم ليُبقي الإنسان واقفاً رغم القهر والتشظّي.

وحين يتخيّل الفلسطينيّ ذاته صامداً، عائداً، ومنتصراً، فإنّه يجد في ذلك المعنى الذي يحفظ توازنه وسط الفوضى. 

المخيال الديني.. إيمانٌ لا تراه الطائرات

لا يكتمل فهمنا للمخيال الفلسطيني دون بُعده الديني، ذاك الجذر العميق في الروح، الذي يمنح الصبر على الكارثة معنىً يتجاوز حدود المنطق.

في غزة، التصبيرات عند وداع الشّهداء، أو التمتمات عند انهيار البيوت على رؤوس ساكنيها ليست مجرّد عبارات تُقال، بل مفاتيح من المخيال الديني تختزل عقوداً من الإيمان والرضا: "روحك للجنة"، "الله يتقبّلك"، "الحمد لله"، "الله يرضى عليك". 

انتشال جثمان شهيد من تحت أنقاض منزل عائلة أبو صالح في خانيونس بعد استهدافه من قبل طيران الاحتلال، في 7 كانون الثاني/ ديسمبر 2023، وما زال متمسك بمسبحته الإلكترونية. (تصوير: بلال خالد/ الأناضول)

هذه ليست تعبيرات عن الانكسار، بل تسليم نابع من ذاكرة ممتدةٍ في الزّمن تؤمن بأننا لسنا وحدنا، وأنّ هناك عدالة أكبر.

في هذا المخيال، الشهادة عبور، والبيت المهدوم متاعٌ زائل، واليقين بوعد الله وبـ"جنّة عرضُها السّماوات والأرض" هو الحقيقة الثابتة.

هكذا ينجو الفلسطيني من الانهيار، ويُعيد ترتيب فواجعه ضمن سردية إيمانيّة تُبقيه واقفاً، أو تمنحه القدرة على الوقوف من جديد حتّى على الركام، لأن ما في قلبه من يقين أقوى من كل ما يُهدم حوله.

المخيال الفلسطيني ليس ترفاً بل ضرورة وجودية، إنّه المساحة التي لا تُقصف ولا تُحتل ولا تُشترى، به تُقاوَم الرواية الصهيونية، ويُعاد ترسيم المستقبل.

وحين يخيّم اليأس، يكون المخيال ملاذاً لا يُنتزع، وإن عجز أحدُنا عن استحضاره، فليمدَّ يده إلى مخيالات الآخرين؛ ففيها ما يكفي لبناء عالَمٍ اسمه: فلسطين.