"دعنا نكون صريحين، أنتم منفصمون عن الواقع حين لا تقرّون بأن ما حصل في غزة هزيمة منكرة لا بد من التسليم لها، والتصرف بمقتضاها، وأن العصر القادم هو العصر الإسرائيلي بامتياز، وأن من لا يسلم لهيمنة "إسرائيل" وأميركا بعد كل ما حصل ليس إلا واهماً".
"يحلل على أساس رغباته لا على أساس الوقائع الصلبة، ومن يصر عن الحديث عن نصر ما في السابع من أكتوبر، وعن هزيمة قريبة لـ "إسرائيل" أو عن نهاية ما مقروءة للمشروع الإسرائيلي ليس إلا متعاطياً لوهم، أو لغيبياتٍ لذيذة لربما يستعيض بها عن الأفيون".
المكتوب أعلاه تكثيف لرأي منتشر اليوم في القنوات التلفزيونية والمنصات الإعلامية، يرتفع صوته أكثر فأكثر مع مشاهد الإبادة الإسرائيلية المستمرة لأطفال غزة ونسائها ورجالها، ويقدم نفسه باعتباره الأوفى للمعاناة الإنسانية وما تقتضيه من تسليم لآلامها وانكسارٍ لمعطياتها، ويتهم من يواصل الإيمان بنصرٍ ما، وبجدوى مواجهة "إسرائيل" بعد كل ما حصل في فلسطين، ولبنان، وسوريا، واليمن، وإيران، بأنه "مكابر" أو "متاجر بالدم".
ينبع هذا التحليل من رؤية معرفية تعتبر الوقائع المادية حقائق نهائية وترى في إدراكها "استنارة"، ومن ثم فإن "الإنسان المستنير" في هذا العالم الذي تحكمه وقائع المادة لا بد أن يبني موقفه على إدراك ميزان القوى. ومن هنا، يمسي التحليل السياسي تشخيصاً وموقفاً في آن معاً، فتقييم القوة المقابلة هو ما يحدد الموقف منها: فإن كانت قابلة للتحدي بالحساب المادي حينها يمكن التفكير في تحديها، أما إن كانت قاهرة لا تقبل التحدي فالواجب التسليم لها والسيولة أمامها، وهنا يصبح تحديها "عملاً صبيانياً"، أو "وهماً أيديولوجياً".
اقرؤوا المزيد: معركة الطوفان الغائبة.. من يملأ الفراغ الفكري والسياسي؟
تقابل ذلك رؤية أخرى أكثر تركيباً للإنسان والكون، ترى أن الإنسان يحيا في الواقعٍ المادي لكنه مُكلّف برسالة إلهية تتجاوزه، وأن الموقف من موازين القوى لا ينطلق من مجرد إدراكها، بل إنه نابعٌ من تكليف إلهي بلزوم الحق وإقامة العدل، وأن التفاعل مع هذا الواقع المادي هو موضع الاختبار، وأن الخلاص الحقيقي يأتي فيما بعده خارج إطار الحياة الدنيا ووقائعها المادية، ومن هنا لا يمكن لما هو مادي أن يكون نهائياً ومطلقاً، بل إن الحقيقي والنهائي والمطلق الذي على أساسه يتقرر الموقف هو الإيمان بالغيب الذي يتجاوز الحواس المجردة.
الإنسان بين اختلالات ميزان القوى وفراغاته
التحليل السياسي وفق الرؤية أعلاه، هو اجتهادٌ في قراءة الوقائع المادية تمهيداً للتفاعل معها، مع إدراك استحالة تحولها إلى وقائع نهائية ومطلقة، وهذا التفاعل يتفاوت بين تحدي القوة القاهرة والبحث عن اختلالات ميزان القوى وفراغاته إن كان الظلم طاغياً والفساد ظاهراً كما هو حال الأرض اليوم، أو محاولة تعزيز هيمنة الحق، وسيادة العدل، ومنع الطغيان من الظهور، إن كان نموذج الاستخلاف قائماً وشاهداً، وهو في كلا الحالتين تفاعلٌ يقرر التكليف الإلهي فيه الموقف، ويقرر التحليل السياسي فيه الخطط والوسائل والأدوات.
موقع الإنسان من الكون مختلف جداً بين الرؤيتين؛ فموقعه في الرؤية المادية يتفاوت بين حدين: بين أن يرى في الإنسان مركزاً قادراً على السيطرة، فما دامت حركة التاريخ تراكماً لحركة المادة فإن إدراك قوانينها سيسمح للإنسان بالسيطرة عليها فيمسي هو من يقرر حركة التاريخ ومآله، وبين أن يرى في الإنسان مجرد جزءٍ من الطبيعة خاضعٍ لحركة قوانينها مهما توهم "مركزيته" فيها، وبالتالي فإن أفضل ما يمكن أن يفعله أن يأخذ حظه من مُتَعها وملذاتها، وهو ما بنيت عليه دعوة ترامب للتهجير وأوهام التطبيع والتحالف مع "إسرائيل" اليوم.

وأما موقع الإنسان في الرؤية الإيمانية التوحيدية، فهو تحقيق التكليف الإلهي بعمارة الأرض والاستخلاف فيها بإقامة العدل والدعوة إلى الله الحق المطلق، وإذ يقتضي هذا التكليف التفاعلَ النشط مع الوقائع المادية فإن الاجتهاد لفهمها يمسي جزءاً أساسياً منه، وبما أن تكليفاً كهذا يستحيل على الأفراد إنجازه فإنهم مكلفون بتحقيقه في إطار جامع للمؤمنين بهذا الحق، ولأجل ذلك عدّ الله المؤمنين به أمة قائمة بذاتها.
اقرؤوا المزيد: ماذا يقول لنا السابع من أكتوبر؟
وسواء تحقق مقتضى التكليف الإلهي للإنسان - فرداً وأمة - في مدى حياته أو حياة جيلٍ من أقرانه أم غادروا الدنيا دون أن يشهدوا تحققه، فالواجب المضي في هذه الأمانة تحت سقف الإيمان بأن للكون إلهاً يخضع الوجود لسُنته وأمره، مع إدراك أن إظهار الحق وإقامة العدل بما يتطلبانه من زمن وأسباب تتجاوز إرادة البشر وقدرتهم شأن إلهي تدبيراً ولطفاً وحكمة؛ هي سننٌ إلهية يدرك الإنسان تواضعه أمامها ويظل معلقاً بالله في رحلة طلبها.
غزة اختبار البشرية
ومع ما تشكله الإبادة في غزة من اختبار للبشرية بكل مذاهبها وانتماءاتها، وأمام الإخفاق الشامل في وقف استفراد "إسرائيل" بغزة، أو التأثير حتى في نسبة هذا الاستفراد بإدخال الطعام والدواء ومياه الشرب تتفاوت ردود الفعل، وتعبر كل رؤية عما تحمله من إمكانات للحل اليوم وفي المستقبل: بين رؤية مادية تلوم من بادر لرفع الظلم عن نفسه في الطوفان وتتهمه بالقصور في فهم الوقائع المادية وبمحدودية "استنارته" وتحمّله وتحمّل تياره مسؤولية إخراج غزة من الجريمة باعتباره "المتسبب"، بل إن موقف بعض أصحاب هذه الرؤية تطور إلى الترويج لضرورة وقف التفكير في المواجهة باعتبارها بوابةً لإبادات جديدة.
ومن هنا، يمسي هذا الشكل من التحليل السياسي في زمن الاستفراد والإبادة عبئاً لا يحمل للمستقبل إلا أفق الاستسلام مع التفاوت في موعده وكيفيته وطريقة إخراجه، والأجسام الوطنية والعربية المطلوبة للحصول على أفضل شروطه، والواضح هنا أن نسبة كبيرة من المتدينين تؤمن بهذه الرؤية وتمارسها عملياً لكنها تؤدي العبادات إلى جانبها.

وبين رؤية إيمانية توحيدية، يجمع أصحابَها القصورُ الفادح عن بلوغ التكليف الإلهي وتحقيق مقتضاه، ويتفرع التحليل السياسي المنطلق من هذه الرؤية بين نوعين: تحليل سياسي يجهد للتكيف مع هذا القصور بتكتيكاتٍ لطمأنة الذات، وتخفيف حدة الذنب بأن أصحابه قد بذلوا "غاية الوسع"، و"أن ليس بالإمكان أفضل مما كان". وآخر يجتهد في قراءة الواقع لمغالبته، ويعمل ليكون جزءاً فاعلاً من تحويل العجز والقصور إلى طاقة دافعة للفعل تحمل وعداً في المستقبل لطوفانات قادمة أشد بأساً وأبعد أثراً، وهو الخيار الوحيد الذي يحمل الممكنات للمستقبل، ولا يغيب معه الأمل، وتتحقق معه سنة الله في دفع الظلم وإصلاح الأرض.
اقرؤوا المزيد: رسالة إلى جنرالٍ مُتعب
في المحصلة، يظل التحليل السياسي مجموعة من الأدوات المنهجية التي تكتسب قيمتها من غايتها وليس من ذاتها، فهو قد يشكل عبئاً على الفهم والممارسة حين يقدم ذاته فعلَ استنارة، وقد يتحول إلى أداة استكانة و"فُرجة" إذا ما استخدم في إطار تبريري ينشد التصالح مع التقصير، وقد يكون اجتهاداً مشتبكاً مع الوقائع السياسية بقصد مجابهتها وتغييرها في إطار أداء التكليف الإلهي بلزوم الحق وإقامة العدل؛ وحينها فقط يمكن أن يصبح فعلاً ذا قيمةٍ، ومعنى في لحظة الاستفراد والإبادة.