تُمثل المعارك الكبرى لحظات نموذجية للاستفاقة من سُبات الغفلة، ونزع ثوب اليأس والوهن الذي يُصيب الأمة المسلمة. ذلك الوهن الذي جعله رسول الله ﷺ من أسباب عجز هذه الأمة وضعفها، كما في حديث ثوبان: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت" [سنن أبي داود: 4297].
ومنذ 22 ربيع الأول 1445هـ، الموافق 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023م، حلت علينا أحد المعارك الكبرى التي لا يكون ما بعدها كما قبلها، سيما وقد نزع أربابها الوهن من صدورهم وكان الموت أحب عندهم من الحياة عند أعدائهم، ألا وهي معركة "طوفان الأقصى". ويُخبرنا الطوفان -أول ما يُخبرنا- بأن طريق المؤمنين باقٍ على هيئته، وأن هذا الطريق ما زال ينتظر مِن المؤمنين مَن يسير فيه، وأن السبيل سبيل الإيمان، طالت المعركة أو قصرت.
ومع طوفان الأقصى، حدث طوفان آخر في متابعة الأخبار وقراءة التحليلات العسكرية واستشراف الرؤى الاستراتيجية عن المنطقة كلها، وحدث ما يُشبه "الاستفاقة" في متابعة الشأن العام، بعد عزوف عربي عام عن القضايا الكبرى، ويأس من تغير المشهد المحلي للمنطقة العربية، إلا ما كان من الماجريات السياسية اليومية التي يتابعها المواطن العربي، والتي لا تُغني ولا تُسمن من جوع.
ومع هذه الاستفاقة تتوارى خلف الأنظار استفاقة أخرى لا تقل أهمية، ولم تستعر نيرانها بعد، ولم تُؤتِي أُكلها، وربما لم تأت الفرصة المناسبة لطرحها بصورتها الكاملة، ألا وهي استفاقة: إعادة ضبط البوصلة الفكرية والسياسية لهذه الحالة التي أوجدها الطوفان.
الساحة المتعطشة والنخب البائدة
يكاد يتفق الجميع أن أهم ما أنجزه طوفان الأقصى -إلى الآن- هو نسف صورة العدو الذهنية التي صورها عن نفسه، وتعريته أمام العالمين. لكن مع نسف الطوفان لهذه الصورة، نسف أيضاً جبالاً من اليأس والإحباط بعدما أحاطت بالمصلحين طوال عقد مضى (2013-2023)، وأزاح حمولة كثيفة من المفاهيم البراقة المستوردة من خلف البحار، أو تلك التي رسخها المنافقون العرب (والمطبعون في القلب منهم)، ثم ضاقت هذه المفاهيم عن أن تشمل أهل غزة المحاصرة رغم زعمهم أنها أخلاق كونية (حقوق الإنسان، التعايش العالمي، الديانة الإبراهيمية، التطبيع الكامل، عدالة المجتمع الدولي…).
ومع هبوط مظلات المجاهدين الشِراعية إلى قلب مستوطنات الصهاينة، أصبحت هذه المفاهيم الباردة -والتي رُوجت لعقد كامل على أنها مستقبل المنطقة العربية- جزءاً من الماضي، ولأهلها الآن أن يتحسروا على ما أنفقوا من أموال على جيوشهم الإعلامية، والبحثية، والاستخباراتية، والمشيخية؛ "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ" [الأنفال 36].
ولأن الفراغ لا يبقى فراغاً، ولابد من تمدد يشغله، فما إن تتوالى أيام معركة الطوفان، حتى نجد أنفسنا أمام سؤال: من يملأ فراغ هذه الحمولة من المفاهيم التي نُسفت؟ وكيف يمكن أن يُستثمر هذا المناخ المهيأ بخطاب فكري وعقدي ومفاهيمي جديد ينتظره المصلحون منذ زمن؟
بادئ ذي بدء، فإن الفعل العسكري والميداني أسرع حركةً في معركة الطوفان -بل وأكثر حِكنة- من الفِعل السياسي الذي يمثله السياسيون، والمفكرون والمُنظرون، أو حتى الدعاة والمصلحون. فالناس تنتظر بيانات الملثم أكثر من انتظارها لخطابات الساسة وفتاوى الأشياخ واستشراف المفكرين. وتشاهد مقاطع "الإعلام العسكري" أكثر من مشاهدتها للقنوات الإخبارية والبيانات الرسمية وتصريحات الرؤساء. وتتسابق في التعرف على جذور هذا الصراع في لهف ينسف كل جهود التطبيع في العقد الماضي. ومثل هذا اللهف، وإن كان يدل على توق الناس إلى ذروة سنام الإسلام، وأن الجماهير في تعطش لرفع الذل والهوان الذي أصابهم، فإنه يدل أيضاً على أن المعركة التي تُخاض عسكرياً وتُنجز فيها إنجازات كبرى، ويصاحبها أيضاً آلام كبرى، لا يواكبها القدر نفسه من الإنجازات المنوط بالنخب الدينية والسياسية والمجتمعية القيام بها.
وإذا تأملنا واقع النخب العربية من حولنا، وجدنا أغلب هذه النخب -إن وجدت- مشرذمة لا يجمعها جامع، بينما لم يكن الأمر كذلك قبل عقد ونيف من الزمن، أي قبل الثورات العربية. فلم يكن يُتخيل أن يمر حدث مثل هذا الذي يحدث في غزة إلا بجيوش مترسنة من الفواعل المدنية والسياسية والمجتمعية، التي تتولى دفة التوجيه للعالم الإسلامي، عربه وعجمه، فضلاً عن دور هذه النخب في ربط جأش الأتباع ومحاولة استثمار طاقتهم وإحداث ضغط عربي حقيقي للتصدي للصهاينة. ولكن بعد عقد كامل من التضييق على الفواعل الإسلامية في البلاد العربية السُنية، وتفكيك القواعد المجتمعية المركزية في هذه البلاد، وذهاب كثير من الدول العربية إلى خطيئة التطبيع، بل ومحاولة بعض الدول العربية القضاء على أي مظهر منظم "للإسلام الفاعل" في حياة الناس؛ بعد هذا كله لا غرو ألا تجد عموم الجماهير المتألمة من يوجههم ويضبط بوصلتهم في مثل هذه الأحداث.
أما الشباب المسلم (مواليد منتصف الألفينات وما بعدها تغليباً) الذي لم يمر بخبرات نضالية طويلة، ولم تعتركه الأيام بعد فلا غرو أيضاً أن يستيقظ وعيهم الجمعي -والحمد لله- ويدركوا مفهوم الأمة في أتون هذا الطوفان، لكن مع فقدان البوصلة لديهم حول أي الطرق يسلكون، وما واجبهم في هذه المرحلة، إذ فُككت سلفاً عامة الحواضن المرشّحة لإرشادهم عن هذه الأسئلة التي تعصف بعقولهم.
وإلى جانب الأسباب الخارجية لتفكك تكتلات النخب العربية المؤهلة لسد الفراغ، ثمة سبب آخر داخلي لا يقل أهمية، ألا وهو تغير الشريحة الشبابية نفسها، وتغير نمط حياتها، وطبيعة أسئلتها وميولها واهتماماتها عن الشريحة التي اعتادت هذه الفواعل والتكتلات السياسية أو الدعوية أو العلمائية مخاطبتهم قديماً. فالسنوات الأخيرة ظهرت فيها تشكلات شبابية وفكرية جديدة لم تتقاطع مع هذه النخب وتكتلاتها أصلاً، بل إن كثيراً منهم لم يتعرف من الأساس على التيارات الإسلامية عن قرب، بل شوهت لهم هذه التيارات، وأبداها خصومها تيارات شر خالص لا خير فيها، ولم يكن هذا التشويه من السياسيين والحكومات وحسب، وإنما من بعض العلماء والمشايخ المعتبرين في بيئاتهم المحلية كذلك. فإذا أُضيف إلى ذلك تغير طبيعة هؤلاء الشباب أنفسهم وطريقة تفكيرهم؛ لوجدنا أن ذلك سبباً عميقاً في ضعف التواصل والتوجيه بين هؤلاء الشباب وهذه النخب القديمة.
ولذا أصبح دور كثير من هذه النخب القديمة التي تنتمي إلى الفضاء الحركي لهذا الدين، من جماعات وتنظيمات ومؤسسات وهيئات علمائية، مقتصراً في الغالب على البيانات الإعلامية أو إثبات الموقف السياسي، ولا يتجاوز تأثيرها على أتباعها المباشرين، دون التأثير في جموع الناس المنتظرة من يؤثر فيها ويوجهها فكرياً ومعنوياً وإيمانياً. والأسوأ من ذلك، أن تلك الكيانات والنخب قد فقدت التأثير الرمزي (الأيقوني) الذي ملكت زمامه دهراً طويلاً بين الناس، وكان هذا الشحن الرمزي هو طريقها الأقصر لتغذية الجماهير من حولهم، والذي تمثل في صور عديدة، مثل الشخصيات الاعتبارية التي لها رمزيتها وحفاوتها في العالم الإسلامي أجمع، كرمزية الشيخ المقعد أحمد ياسين، والذي كانت صورته في كل شارع عربي قبيل الثورات كرمز مقاوم أحيا أمة بعلو همته. وكذلك فقدت هذه النخب تمثيلها الأوسع للسرديات الكبرى العادلة، التي يحتاج العالم الإسلامي إلى سماعها، مثل مفاهيم: الأمة الواحدة، الحِراك بهذا الدين، المدافعة بين الحق والباطل، الجهاد في سبيل الله، أممية الإسلام، وغيرها. فحتى وإن آمنت هذه الكيانات بأصول هذه المفاهيم المركزية -بصرف النظر عن صوابية تصوراتهم حولها-، غير أننا نجد مثل هذه المفاهيم قد بات يستقيها الناس من شبكات وبيئات أخرى غير تنظيمية في الغالب.
وعلى هذه النخب العربية (الشرعية والسياسية والفكرية والإعلامية) أن تُدرك أن ما بعد الربيع العربي غير ما قبله (بل نحن في مرحلة "ما بعد" ما بعد الربيع العربي)، وأن شرائح المتلقين من حولهم تختلف عما تربّوا هم عليه، وأن عليهم أن يطوروا مفاهيمهم وأدوات خطاباتهم لمواكبة هذه الحالة من حولهم.
فالحاصل، أن ساحة التوجيه الفكري ومساحته شبه خاوية الوفاض بين نخب معطلة وجماهير تنتظر من يغذي فكرها، بعد أن بطلت رواية التطبيع العربية وآلتها الإعلامية وانفسح المجال العام قليلاً. وهذا، أي خواء الساحة من الموجهين الحقيقين، وإن كان سلبياً من جهة، إلا أنه إيجابياً من جهة أخرى، لأن الساحة الفكرية لن تكون بعد معركة الطوفان كما كانت قبلها، وفي هذا فرصة كبرى للمصلحين والعاملين لقضايا أمتهم بأن يُطوروا خطاباتهم وأدوات تأثيرهم في هذه الطوائف الشبابية، وتثويرهم بالمعاني والمعالم التي اندثرت فيما بينهم؛ "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" [البقرة 251]. لاسيما إن وعوا أن مضامين الحق التي يحملونه في صدورهم، تمتلك -في ذاتها- بواعث انتشارها وقبولها إذا أُوصلت -بصورة صحيحة- إلى متلقيها من أصحاب الفطر الصحيحة. وفي هذا بشرى لهم وباعث عظيم على الحركة الراشدة في مثل هذه الأوقات، لاسيما والقرآن -كتاب الله الخالد- والسيرة النبوية يُعلمانا أن أفضل وقت لغرس مفاهيم الإسلام الكبرى، هو هذا الوقت الذي يُدافع فيه دفاعاً جليّاً عن الحق ضد الباطل.
القرآن والسيرة: إعادة البوصلة في المعارك الفاصلة
من طبيعة النفس الإنسانية أن ثمة معانٍ لا يمكن فهمها إلا في سياق ساخن من الأحداث التي يُوجدها الله فيها. ويُنبئنا الخطاب القرآني بأن أفضل وقت لتغيير القناعات الكبرى، وترسيخ القيم الأساسية لهذا الدين، وإحداث الوعي بحقيقة الإسلام، هو وقت المعارك الفاصلة، لما لها من أهمية كبيرة في صناعة الوعي وتشكيله بصورة لا تقل عن إعادتها تشكيل الجغرافيا وكتابة التاريخ. بل إن التأريخ للطفرات النوعية في تاريخ الأمم والمجتمعات، إنما هو تاريخ هذه الأحداث الفاصلة. والقرآن ما خلّد بدر (وهي معركة نصر) وأحد (وهي معركة هزيمة) والأحزاب وبقية المشاهد في آيات طوال، إلا لحاجة المؤمنين لهذه المعاني التي لا تتأتّى إلا في هذه الأجواء التي تتوحد فيها الغاية، وينعقد فيها العزم في سبيل الله تبارك وتعالى، ويعرف المؤمن فيها سبيله.
بل إن بعض المعاني الإيمانية لا تتكشف إلا في هذا السياق التدافعي؛ قال تعالى: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" [آل عمران 122]. قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: "فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهلَ دينه وأصحابَ رسوله، على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من مُعاينته حقيقةَ علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان، من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك = إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم (لعلهم يحذرون)" [تفسير الطبري]. أي أن بعض مسائل الفقه في الدين، وفهم مراد الله في الأرض لا تتحقق تمام التحقق إلا بهذا البذل للدين والحركة به في هذا المناخ الساخن من الأحداث، لأنه الأكثر تهيئة لاستقبال هذه المعاني العظيمة وغرسها في نفوس الناس. بل إن بعض المعاني يصعب تصوّرها، فضلاً عن استحضارها، في فترات الهوان والاستضعاف والسبات. وسنة الله أن تأتي لحظات من العزة والمنعة والمدافعة للفقه في هذه المعاني الكبرى على وجهها وبثها في نفوس الناس بعدما كادت تندثر، وأعلى هذه اللحظات: الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام.
والمتأمل في السياق القرآني، يجد أنه قد كَثُر نزول القرآن بمعانٍ عظيمة تهدي المؤمنين طريقهم في الحياة في ثنايا آيات الجهاد والقتال والمدافعة وتعاقب سنن الله في الكون، لأن الهداية إلى هذه المعاني تتأتى في هذا المناخ الساخن الذي يُوجد فيه المؤمن. بل شُحنت آيات الجهاد بالحكم الإيمانية التي لا يمكن حُصولها إلا في سياق المدافعة، مثل اتخاذ الله شهداء، وتمحيص المؤمنين، وإمهال الظالمين، ومحق الكافرين، والاستخلاف في الأرض، وتعظيم الله وتقديم مراده على الرغبة في الآباء والأبناء والأموال، إلى غير ذلك من المعاني التي شُحن بها القرآن. بل صَوَبَ القرآن بعض المفاهيم بإعادة تعريفها ضمن هذا السياق التدافعي، فمن تأمل مثلاً مفهوم السكينة في القرآن، يجده مقروناً -على الدوام- بذكر الجهاد والمدافعة لأعداء الله والموالاة لله ورسوله والمؤمنين. قال تعالى: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" [الفتح 18]، فهذه عادة القرآن في هذه اللحظات، أن يُعيد بوصلة المسلم في خضم الأحداث الساخنة، وينبّهه إلى تصحيح المفاهيم في ظل المعارك الكبرى من حوله. والذي يقرأ القرآن في مثل هذه الأيام، يرى آياته كأنها تتنزل من جديد في المعاني التي أكد القرآن استحضارها في سياقات المدافعة1راجع على سبيل المثال ظهور المنافقين الدائم في أوقات الأزمات، ليلوموا المسلمين، ويرجفوا ويخذّلوا، وبيان القرآن لأحوالهم، واستقرأه في واقعنا، وذلك في سورة آل عمران والأحزاب والفتح..
ولا أدل على هذا المعنى القرآني عملياً، من أن أعظم سيرة تأريخية -وهي سيرة سيدنا رسول الله ﷺ- إنما كانت المغازي عنوانها الأول. فإذا ذكرت السيرة ذكرت المغازي، وذكرت الصوائف والشواتي، وذكرت السرايا والفتوحات والمعارك؛ حتى كادت كتب السيرة الأولى تُعرف بكتب المغازي، وما ذلك إلا لأن أحداث السيرة -في عامتها- لم تكن إلا في جو ساخن من الحركة والبذل والمدافعة مع المشركين، وفي هذه البيئة الساخنة تَعلم الصحابة الدين، ورسخ الإيمان في قلوبهم، فلم يكن تلقيهم له نظرياً من متنٍ أو حاشية، وإنما تلقوه بالكد والنصب والتعب والمنافحة والجهاد في سبيل الله، وفي وسط هذه المغازي ظهرت الشِرعة، وتم أمر الإسلام، وانتشر في العالمين.
والمتأمل في السيرة النبوية وغزوات رسول الله ﷺ وأصحابه، لا يراها حروب جغرافيا وفتوحات هداية وحسب، وإنما يرى فيها أيضاً فرصة استثمرها رسول الله ﷺ لصناعة العقلية المسلمة وتوجيه دفة النظر إلى مفاهيم لم تكن تُستشعر في الحياة العادية بعيداً عن هذه المعارك الكبرى. فأرسخ الدروس العملية ما كانت حين تلتحم السيوف بالسيوف، وتتكسر النصال على النصال. ولنضرب ثلاثة أمثلة على ذلك من سيرة المصطفى ﷺ، وإن كانت الأمثلة لا تحصى.
"فلما كانت الغلبة للمشركين في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة النبوية، صرخ أبو سفيان بأعلى صوته فقال: أنعمتَ فَعَالِ، إن الحرب سجالٌ يوم بيوم، أعل هُبل. فقال رسول الله ﷺ: قُم يا عُمر أجبْه فقل: الله أعلى وأجلّ! لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار"2تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون، ص167..
فهذا القول ليس جواباً حربياً وحسب، وإنما هو إرساء فكري وإيماني -في أوقات الأزمات والانكسار العسكري- بأن العزة للمؤمنين وإن دارت عليهم الأيام، وإن غُلبوا، وإن هُزموا في معركة، وأن قتلاهم ليسوا سواء مع قتلى المشركين، فقتلاهم في الجنة، وقتلى المشركين في النار. وهو مصداق لقوله تعالى: "وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" [آل عمران 139].
وفي مشهد آخر، غزا فيه فئام مع رسول الله، "فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟ فقال رجل: يا رسول الله إنما هم أولاد المشركين، فقال: ألا إن خياركم أبناء المشركين، ثم قال: ألا لا تقتلوا ذرية، ألا لا تقتلوا ذرية، قال: كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها وينصرانها" [مسند أحمد 15589]. وإذا تأملنا هذا الأثر، لا نجده توجيها في أخلاقيات الحروب وحسب، وإنما هو أيضاً ملحظ فكري وتوجيه عملي لإرساء قيمة العدل التي أتى بها الإسلام، وأن المؤمنين مطالبين -وهم في أشد لحظات القوة والبطش- بهذه القيمة النبيلة، فالعدل قيمة كبرى يُرسيها الإسلام حتى في حروبه مع الكفار والمشركين؛ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة 8]. ولك أن تُقارن هذا السلوك مع ما يفعله الصهاينة من قتل الأطفال بلا مبالاة، فقد جاوز قتلهم الأطفال الـ 4500 شهيداً حتى الآن، وفي هذه الحرب فقط.
وفي مشهد ثالث أوضح وأنصع وأكثر استثنائية في استثمار هذا المناخ الساخن لإرساء القيم الجوهرية وضبط البوصلة الفكرية التي أتى الإسلام لترسيخها، نلحظه في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. ففي أحد المعارك أوغل أحد المشركين في دماء المسلمين، حتى قتله أسامة بن زيد رضي الله عنه، فلما حمل أسامة عليه السيف قال: "أشهد ألا إله إلا الله". فلما أخبر أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: "لِمَ قَتَلْتَهُ؟"، فقال: يا رسولَ اللهِ، أَوْجَعَ في المسلمينَ، وقَتَلَ فُلاناً وفُلاناً، وسَمَّى له نَفَراً، وإِنِّي حَمَلْتُ عليهِ، فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ، قال: لا إلهَ إلا اللهُ. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : "أَقَتَلْتَهُ؟" قال: نعم. قال: "فَكَيْفَ تَصْنَعُ بلا إلهَ إلا اللهُ، إذا جَاءَتْ يَومَ القِيَامَةِ؟" قال: يا رسولَ اللهِ، اسْتَغْفِرْ لِي. قال: "وكَيْفَ تَصْنَعُ بلا إلهَ إلا اللهُ إذا جَاءَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟"، فجعل لا يَزِيدُ على أَنْ يقولَ: "كَيْفَ تَصْنَعُ بلا إلهَ إلا اللهُ إذا جَاءَتْ يَوْمَ القيامةِ" [متفق عليه].
فحتى وإن كان أسامة في معركة تختلط فيها الدماء بالدماء، إلا أن رسول الله ﷺ قد وجدها فرصة عملية ليرسخ القيمة الكبرى التي ما شرع الجهاد إلا لأجلها ابتداءً، وهي تحقيق التوحيد لرب العالمين، وأن يسلم الناس لربهم، وليس مجرد التشفي والانتقام كما يفعل الصهاينة. فالمجاهدون إنما بعثوا للناس هداة لا سفّاكي دماء.
وما هذه الآثار سوى نماذج من مئات النماذج التي تؤكد ما أشرنا إليه، وهو استثمار الخطاب الشرعي (قرآناً وسنة) لمثل هذه المعارك الفاصلة في إرساء المفاهيم الكبرى التي يحتاج المسلمون إلى تثبيتها في نفوسهم في خضم هذه المعارك الكبرى. وأن هذه المعارك هي -في وجه آخر لها- فرصة ذهبية لبث الوعي الذي اندثر بين الناس، وإحقاق حقائق الدين الكبرى، والتي شُوِّه كثير منها في زماننا بتزييف المتصهينة العرب وأشبابهم. و"التجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس، ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق"3في ظلال القرآن - تفسير سورة التوبة..
أما بعد: من يُحدث الناس؟ وبمَ؟!
وصلنا الآن إلى بيت القصيد، فالسؤال الذي ينبغي أن يُطرح ويثار الحديث حوله هو سؤال الوجهة في استثمار الخطاب الشرعي، الفكري والإيماني، وهو سؤال: من يُحدث الناس (شخوصهم، صفاتهم، طبيعتهم، تاريخهم…)؟ وبم يحدثهم (مضامين الخطاب)؟ وذلك من أجل ضبط البوصلة الفكرية في هذه الأحداث. والإجابة عن هذا السؤال بشقيه يضيق عنها مثل هذا المقال الذي طال، لكني سأُشير إلى كليات ينبغي أن نستحضرها في هذا السياق الذي نحن فيه.
وأول ما ينبغي تقريره، أن في هذه اللحظات التي يُضحي فيها المؤمنون بأنفسهم وأهليهم ومساكنهم وأموالهم ويُعطونا درساً عملياً في نزع الوهن من نفوسهم، فإن من التثاقل إلى الأرض أن تتخلف النخب العربية (الشرعية والفكرية والسياسية) الآمنة في سِربها، والتي عندها قوت يومها عن المهام المنوطة بها، أو أن تنأى بنفسها عما افترضه الله عليها من البذل والسعي والعمل إبراءً للذمة أمامه. بل الذي أعتقده، أننّا إن كنا نتحدث عن نُخب مسموعة في دوائرها عليها تولي مسؤوليتها، فنحن نتحدث عن فروض -كفائية أو عينية- تبحث عمن يتولى مسؤوليتها ويشمر عن ساعد الجَد في العمل المناط به، سيما وأن هذه الأوقات هي أفضل أوقات التأثير وشغل الفراغات التي يُمكن الوصول لها.
فكما أشرنا سلفاً، هذا الوقت من أفضل الأوقات للتذكير بكليات الإسلام الكبرى، وأصول القضايا المشتركة والمتفق عليها والتي تفرض نفسها -بدورها- على الساحة الآن. ولا أعني بذلك التذكير الإيماني والشرعي بفضل الشهادة ومعاني الصبر والاحتساب فحسب، وإنما أعني المفاهيم التي تتولد من زخم حدثٍ كهذا، مثل بث روح الاعتزاز بالإسلام، ومركزة مركزياته الكبرى، وترسيخ معاني العزة والرجولة والإباء في نفوس المؤمنين به، وترسيخ أُخوة المسلمين العامة، ووجوب السعي لتمكينه ونصرته. فالطوفان هو وقت استنهاض الهمم، ودفع اليأس، وترسيخ دعائم الإيمان في النفوس. سيما وأن الحرب سجال، فقد يفوز المؤمنون عسكرياً في معركة ويخسروا في أخرى، لكن اسوأ الخسارات الخسارة النفسية التي تصيب المقاتلين في عزيمتهم ونفوسهم.
وإذا كنا نتحدث عن معركة مثل معركة الطوفان -للإسلام فيها موقعه الأكبر- فلا يمكن أن تغيب عنا مركزية الغيب، والبعد الأخروي، وعنوان الانتماء للإسلام في هذه المعركة التي نحن فيها. فإذا كان المجاهد يفرض معادلة الآخرة بقوة مع كل هيعة أو ليعة، فيذكر اسم ربه وهو ينال من عدوه نيلاً، أو وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فلا يمكن للمؤمنين بسبيل هذا المجاهد أن يتحرّجوا من التذكير بأن الإسلام هو طريقهم، وأنه الحادي لهم في كل هذا الذي يمرون به، وأن هذا الطريق الذي هم فيه، يرجون أن يكون في سبيل الله.
يعلم كاتب هذه السطور أن كثيراً من المصلحين قد يأسوا من مواصلة طريقهم الذي سلكوه سابقاً وفشلوا في استكماله أو توقفوا، بل وشَكَ بعضهم أو شَكَّكَ في جدوى العمل للإسلام من الأساس، لأسباب عديدة ليس هذا موطنها. لكن طوفان الأقصى قد أتى هدية ربانية لليائسين، ليقول لهم: هناك جدوى من طريق الإصلاح، فلكل حقبة تحدياتها، وبعد الشدة فرج، وإنما النصر صبر ساعة.
إن الطوفان وما بعده، إنما هو بداية التشمير عن ساعد الجد، والصبر على ما هو آت، وتجاوز ساحة اليأس والإحباط إلى ميدان العمل الفسيح. فاللحظة مؤهلة للبذل، والساحة عطشى لمن يقوم لله فيها بما يستطيع، والنفوس متعطشة لمن يُذكّرها باسم الله في هذه الحياة، والطوفان برهان عملي على إمكانية الوصول. ونحن في مرحلة حرجة إلى أبعد مدى، ما قبلها ليس كالذي بعدها في ميزاني الأرض والسماء. فإذا كان محللو السياسة يستشرفون "ميلاد" نظام عالمي جديد، فحُق لنا أن نعمل نحن أيضاً -كلٌ بما يستطيع- لميلاد بعث جديد، يكون لاسم الإسلام فيه الموقع والمكانة التي ما وُجد الإسلام إلا ليشغلها على الأرض، وتكون موصلة الصلة بالسماء. وللحديث بقية إن شاء الله.