27 يوليو 2025

مخلّص آخر الزمان!

مخلّص آخر الزمان!

بهيئته المبتذلة المعهودة وتصريحاته التي تبدو ضرباً من الجنون يجلس دونالد ترمب الرئيس الـ47 للولايات المتحدة في مقابلة مع جو روجان ويسأله إن كان يعلم أنّ هناك أنبياء قالوا إنّ نهاية الزمان تبدأ من هناك، ويقصد الشرق الأوسط. ليست هذه الجملة سقطةً من ترمب، فما يشبهها ويرتبط بها من أفكار تأخذ طريقها على ألسنة زبانيته ووزرائه المقربين. 

على سبيل المثال، يخبر بيت هيجسث، وزير دفاع ترمب، فوكس نيوز أنّ "الربَّ منح الأرض المقدسة لإبراهيم وما عليك سوى أن تفتح كتابك المُقدّس لتعلم". وتيد كروز، السيناتور الجمهوري المقرّب من ترمب، يقول لتكر كارلسون في مقابلة تلفزيونية إنّه "درس في الكتاب المقدس أنّ من يبارك إسرائيل يباركه الربّ ومن يعادي إسرائيل يلعنه الربّ". وإليس ستيفانيك، مرشحة ترمب للأمم المتحدة، تُخبِرُ الكونغرس أنّ "إسرائيل تملك حقّاً توراتيّاً بيهودا والسامرة".

وهكذا تتوالى التصريحات من الساسة الأميركيين الذين يبدو أنهم يتّبعون مسيحاً غاضباً يقود جيشاً في معركة الزمان الأخيرة في "إسرائيل"، ويريدون أن يكونوا جنوده تماماً كالرسومات التي رأوها في الكنائس الإنجيلية. وتختلط السياسة بالنبوءة التوراتية ويصير التلمود حكماً فيصلاً في أكثر القرارات خطورة والتي قد تقود العالم لحربٍ عالمية ثالثة؛ حربٍ يرى فيها هؤلاء مقدمةً لعودة المسيح ويسعون إليها جهاراً نهاراً.

فما هي حدود سطوة النبوءة التوراتية على إدارة ترمب؟ وما مدى تأثيرها على السياسة الخارجية الأميركية؟ من يقف وراءها؟ وأي سلطة تملك في البيت الأبيض؟ كيف تؤثر على منطقتنا؟ وكيف تُضيّق على الأميركيين في عقر دارهم؟ يحاول هذا المقال تقديم إجابات حول هذه الأسئلة.

الإنجيليون.. هناك تبدأ القصة

تعدّ الطائفة الإنجيلية، وهي طائفة بروتستانتية مُميّزة، القاعدة الشعبيّة الحاضنة للصهيونيّة المسيحيّة، وتشكّل ما نسبته 23% من البالغين في الولايات المتحدة. تمتاز هذه الطائفة التي تمتلك نفوذاً سياسيّاً ومُقدّرَات ماليّة ضخمة بتمسكها الحرفيّ بالكتاب المقدس وإيمانها بنبوءة عودة المسيح الثانية، والتي يتطلب تحقّقها عدداً من الخطوات أهمّها "عودة اليهود إلى الأرض المقدسة التي وعدها الله لنبيّهم إبراهيم وبناء الهيكل الثالث فيها".

عملت الإنجيلية المسيحية عبر منظمات ضخمة التمويل وعلى رأسها مؤسسة "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل"، التي أسّسها الإنجيلي المتشدد جون هاجي، على تحويل مبادئها حول أمن وتفوّق "إسرائيل" في المنطقة إلى أيديولوجية سياسيّة-دينيّة محافظة قائمة أساساً على تفسيرات متطرفة لنصوص الكتاب المقدس؛ إذ يرون فيه، على خلاف الطوائف المسيحية الأخرى، نوعاً من الخارطة الحيوية للحياة المعاصرة وما يجب أن تؤول إليه الأمور. حسب اعتقادهم، تُعدّ عودة اليهود واستيطانهم في الأرض المقدسة أهم عتبات نبوءة عودة المسيح؛ وأنّ الله قد وعد أولئك الذين يساعدون "إسرائيل" بالبركة والنجاة بينما توعد أولئك الذين يتخلّفون عن هذه المهمة المقدسة بالعقوبة والتباب.

وتؤمن هذه الفئة بملكية اليهود للأرض المقدسة، لا وفق حدود الكيان المرسومة وقت قيامه ولكن وفق تصوّر "إسرائيل" الكبرى؛ وعليه يرون أنّ الحروب التي تخوضها "إسرائيل" هي "عمل الله المعجز" والذي يمهّد فيه لشعبه المختار موطئاً يليق بالأحداث العظام لآخر الزمان. 

اقرؤوا المزيد: قاضي أميركا.. جلّاد يحاكم فلسطين

وتعتبر الصهيونية المسيحية أشد تحمساً لـ"إسرائيل" من اليهود أنفسهم؛ فقد أظهر استطلاع رأي أميركي بخصوص نقل السفارة الأميركية إلى القدس أنّ 53% من المؤيدين للخطوة هم من المسيحيين الإنجيليين في مقابل 46% من اليهود. وقد وصف سفير ترمب إلى "إسرائيل" في إدارته الأولى ديفيد فريدمان الحدث بأنه "إحياء للتوراة" لم يسبق له مثيل في التاريخ المعاصر، وحثّ الأميركيين على زيارة "إسرائيل" ليشهدوا بأمّ أعينهم كيف بثّ ترمب الحياةَ في نبوءة الكتاب المُقدّس.

"المُخلّص" وحوله زبانيته

وطدت الصهيونيّة المسيحيّة نفسها على التأثير السياسي غير المرئي في سابق الإدارات الأميركية، خاصّةً الجمهورية منها، إلا أنّ وجودَها في ظلّ إدارة ترمب اكتسب زخماً مضاعفاً. فبالنسبة لهذه الطائفة يُعدّ ترمب "المخلّص" الذي اختاره الله ليقود الأمة في معركتها الخيّرة ضدّ أشرار العالم. بينما سعى ترمب بنرجسيّته المعهودة لتأكيد هذه الادعاءات باتخاذ قراراتٍ صادمة حتى للدبلوماسية الأميركية ذاتها.

ولا عجب فقد وصل ترمب لسدّة الحكم محمولاً على أكتاف الإنجيليين إذ ترتكز قاعدته الانتخابية على قطاعات واسعة منهم. ووفق إحصاءات انتخابات عام 2016 التي جاءت بترمب إلى سدة الحكم لأوّل مرّة، شكّل الإنجيليون البيض ما نسبته 26% من الناخبين الذين أيدوا ترمب متفوقين بذلك على الكاثوليك الذين شكلوا ما نسبته 23% بل وعلى اليهود أنفسهم الذين لم تتجاوز نسبتهم 3% من المصوتين لترمب. حافظت القاعدة الإنتخابية على تواترها في انتخابات 2024؛ إذ صوّت ما نسبته 70% من الإنجيليين البيض لترمب في مقابل 13% منهم لهاريس. النسبة اختلفت قليلاً بين الكاثوليك البيض بنسبة 55% لترمب و34% لهاريس. 

لم تقتصر الطائفة على الدعم المستتر لترمب، إذ تواجدت المسيحية الإنجيلية بشخوصها في إدارتي ترمب الأولى والثانية ووفّرت الدعم الأعمى للسياسات الاستعمارية الإسرائيلية في المنطقة، كموضوع نقل السفارة إلى القدس وضمّ الجولان ودعم ضمّ الضفة الغربيّة. برز من بين هؤلاء مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق ومايك بنس، نائب الرئيس في إدارة ترمب الأولى. لعبت الشخصيتان دوراً بارزاً في دفع السياسات الإسرائيلية لمستوى غير مسبوق بينما دفعت بترمب للتراجع عن الخطوات الدبلوماسيّة التي سبق لسلفه أوباما إرساؤها مع أعداء "إسرائيل" التقليديين، خاصّةً إيران من خلال المعاهدة النوويّة، واستبدالها بحزمة غير مسبوقة من العقوبات على طهران ضمن ما عُرِفَ وقتها بـ"سياسة الضغط القصوى". 

اقرؤوا المزيد: "معركة عضّ الأصابع.. إيران في مذكرات بومبيو".

لعب كلّ من بومبيو وبنس أيضاً دوراً كشف عنه تحقيق لموقع بروبوبليكا بضخّ ملايين الدولارات باتجاه تقوية الجماعات المسيحية في الشرق الأوسط وخاصّةً في العراق، جارة إيران، ودفع باتجاه استهداف قاسم سليماني بهجوم أميركي مباشر في محاولة لإشعال فتيل الحرب الشاملة تمهيداً لتحقق النبوءة التوراتية. 

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يضع ورقة في أحجار حائط البراق في البلدة القديمة بالقدس المحتلة، 22 أيار/ مايو 2017. (المصدر: رويترز/جوناثان إيرنست)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يضع ورقة في أحجار حائط البراق في البلدة القديمة بالقدس المحتلة، 22 أيار/ مايو 2017. (المصدر: رويترز/جوناثان إيرنست)

أما في إدارته الثانية، فقد برزت شخصيات إنجيلية أخطر من سابقاتها على رأسها سفير الولايات المتحدة لـ"إسرائيل" مايك هاكابي، إذ يُعدُّ من أكثر الإنجيليين تحمساً لـ"إسرائيل" وأمنها وتوسّعها في المنطقة. يؤمن هاكابي بأنّ "أرض إسرائيل" المقدسة بما فيها الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة يجب أن تُسكَن بالكامل من "شعب الله المختار" حتى تمهّد لأحداث القدوم الثاني للمسيح.

هاكابي أيضاً كان من المتحمسين لخطّة ترمب لتهجير أهل القطاع تمهيداً لإعادة الإستيطان إليها؛ كما أنّ حماسته لا تقلُّ شأناً في قضية ضمّ الضفّة الغربيّة التي يصفها بأنّها "احياء ومدن يهودية". غير أنّ أوهام الرجل لا تقف عند هذا الحدّ، إذ يعتقد هاكابي بضرورة إعادة ترسيم الشرق الأوسط بأكمله إتماماً للمهمة التوراتيّة الجليلة. وليست رسالته التي أرسل بها لترمب يحضّه فيها على قصف المفاعلات النووية الإيرانية إبان حرب الـ12 يوماً بين طهران وتل أبيب، ويذكّره فيها أنّ "الرب اختاره لهذه المهمة"، إلا دليلاً على الخلط السافر بين مهمته الدبلوماسيّة وبين النبوءات التوراتيّة المزعومة.

ولا يقتصر وجود الإنجيليين على المكتب البيضاوي والردهات الرسمية؛ فلرجال الدين تأثير مهم على ترمب وزبانيته، إذ يلتقي بهم في مكتبه بشكلٍ دوريّ ويُلقي لهم أذناً صاغية لما يجب فعله حتى تترتب أحداث الكتاب المقدس وتأخذ مكانها الصحيح. من هؤلاء يبرز اسم القس جريج لوري أحد قادة كنائس حركة ماجا اليمينية المتطرفة التي تعتبر ترمب أباً روحيّاً لها وتنتمي في أكثريتها للإنجيلية المسيحية وتتبنى الصهيونية فلسفة لحياتها. وأيضاً باولا وايت إحدى أبرز القساوسة الإنجيليين التي تكنّ عداءً خاصّاً للإسلام، وتعتبر أنّ خدمة "إسرائيل" مهمةٌ دينيّةٌ مقدّسة، وقد عيّنها ترمب مؤخراً مديرة لمكتب الإيمان لتعمل على جسر الهوة بين الدين المسيحيّ والحياة السياسيّة في الولايات المتحدة. 

الحرب الصليبية أم الحرب على الإرهاب 

للقومية المسيحيّة دور في تعزيز هذا الدور الذي تلعبه النبوءات التوراتيّة، وهي أيديولوجيا عابرة للأحزاب وللطوائف الدينية، تَربِطُ بين قيم المسيحيّة ومبادئها وبين الهويّة القوميّة الأميركية وتسعى لتجد لها موطئ قدم في الحياة العامّة بمستوياتها السياسيّة والاجتماعيّة. وقد استطاعت هذه الأيديولوجيا التي تمتاز بكراهيتها للأجانب، وإيمانها بنقاء وتفوق العرق الأبيض، أن تدير دفة السياسة الأميركية الخارجية خاصّةً تدخلاتها العسكرية في الشرق الأوسط، ورؤيتها حول الحريات الدينيّة وموقعية الأقليات الدينيّة حول العالم؛ مستخدمةً في سبيل ذلك النشاط السياسي وجماعات الضغط المعروفة باللوبي ومعسكرات الانتخابات التي تدعم مُرّشَحين يتبنون مبادئها. 

تتّبنى الجماعات المسيحيّة المحافظة بأطيافها المختلفة والمسيحيين الإنجيليين على وجه الخصوص هذه الأيديولوجيا، والتي من غرائبها أنها تُقدّم حقّ الدولة اليهودية في الوجود والازدهار على حقوق مسيحيي فلسطين في بلد هي مهد المسيحية. 

لعبت القومية المسيحية دوراً مفصلياً في تحويل الحرب الدائرة في الشرق الأوسط إلى حرب دينية؛ ففي كتابه الشهير "عسكرة أميركا الجديدة" يرى أندرو باسيفيتش أنّ دور المسيحية المحافظة، التي تحمل أيديولوجيا القومية المسيحية، في الولايات المتحدة اتخذ منعطفاً أكثر حديةً منذ ستينات القرن الماضي، وبالأخصّ بُعيد هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام، إذ هدّدت هذه الهزيمة لا دور الولايات المتحدة في المنطقة وحسب ولكن أيضاً إيمانها المسيحي المحافظ في الداخل. وقد رفعوا في سبيل ذلك ما عُرِف بـ"النظرية الصليبية للحرب".

اقرؤوا المزيد: ترامب ليس قدراً نافذاً

ورغم أنّ هذه النظرية العنصريّة التي ترى أنّ الولايات المتحدة هي "محظية الرب" وعلى عاتقها تقع مهمة حفظ السلام وتمدين العالم بالقيم المسيحية وبالقوّة العسكريّة جاءت منذ عصر الرئيس الأميركي ويلسون عبر ما يعرف ب"النموذج الويلسني"؛ إلا أنّ تحالف اليمين الديني المباشر مع الجيش الأميركي وأثر مبدأ "الواجب، الشرف، الوطن" الذي نادت به ظهر بشكلٍ فظّ في عهد الرئيس ريجان، ليبدأ بعدها عصر الشعار الديني لمهمة الجيش الأميركي إذ يضطلع بطموحات الإمبريالية التوسعية بينما يعتقد أنها رسالة الرب في العالم.

بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي (على اليمين)، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض في واشنطن، في 4 شباط/ فبراير2025. (تصوير: شون ثيو/ غيتي إيميجز)
بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي (على اليمين)، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض في واشنطن، في 4 شباط/ فبراير2025. (تصوير: شون ثيو/ غيتي إيميجز)

وقد أسهمت القومية المسيحية في صياغة رؤية استشراقيّة عنصريّة رأت في الولايات المتحدة وحلفائها منقذاً للبشرية من التطرف الإسلاميّ في ظلّ ما أسمته "صدام الحضارات". وتصاعد ذلك عقب هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، إذ أنتجت هذه النظرية تبعاً لذلك صفات تفوقية في الجيش الأميركي الذي يدّعي أنّه "يحمل مبادئ الحرية والديمقراطية للشرق الأوسط بالسيف الذي أوصى المسيح أتباعه باكترائه."

وقد أيد أصحاب هذه النظرية التدخل العسكري المباشر في الشرق الأوسط بهدف حمل المدنيّة المسيحيّة البيضاء لـ"عالم البرابرة" دون أن تُغفِل بالطبع ضرورة إعادة تشكيل الشرق الأوسط لصالح أمن "إسرائيل" وتسهيل نبوءات عودة المسيح، حتى سُمّيت الحرب على العراق "حرب إسرائيل" في أوساط المؤرخين والحقوقيين الغربيين. 

وبزغ أثر ذلك إدارتي ترمب وبوش الابن على وجه الخصوص؛ إذ اعتُبٍرت الحرب على ما أسمته "محور الشر" واجباً دينيّاً وأخلاقيّاً لحماية ونشر التعاليم والقيم الغربيّة التي ترى فيها قدراً إلهياً. ولذا لا عجب أن يسمي بوش الابن حربه على العراق بـ"الحرب الصليبية"، بينما يصف ليندسي جراهام، السيناتور الجمهوري الموالي لترمب، حرب "إسرائيل" الإبادية في القطاع بـ"الحرب الدينية المقدسة". وأن يصفها نتنياهو بـ"حرب أبناء النور ضد أبناء الظلام".

أما وزير دفاع ترمب الحالي بيت هيغسيث فهو يقرّ علانيةً بانتمائه للصليبيين الذين قادوا حملاتهم العدوانية في بلاد المسلمين إبان العصور الوسطى واشماً يده بكلمة كافر وعبارة "إرادة الإله" التي كانوا يستخدمونها في حملاتهم. وقد طبّق هيغسيث نظرياته العنيفة ضدّ المسلمين قبل أن ينضم للسلك السياسي؛ فقد كان قائداً في الجيش الأميركي في حربي العراق وأفغانستان وكان يوجّه جنوده للقتل دون التزام قواعد القانون. وله كتب حول كراهيته للإسلام يعتبر فيها الإسلام ديناً عدوانياً ويدعو لقيادة حملات صليبية في الشرق الأوسط. 

"الأقليات" ورقة ضغط أخرى

تلعب القومية المسيحية اليوم دوراً مزدوجاً فيما يتعلق بالأقليات الدينية؛ فمن ناحية تعمل على تهميش الأقليات الدينية في الولايات المتحدة وبخاصّةً المسلمين؛ بينما تدفع باتجاه محاصرة الحكومات المسلمة في الشرق الأوسط وأفريقيا لحماية الأقليات الدينية المسيحية فيها مما تعتبره "اضطهاد الأكثرية". فقد ركّزت إدارة ترمب على إدراج مسألة الحريات الدينيّة للأقليات حول العالم ضمن ما يُعرف بـ"التقارير السنوية لحقوق الإنسان" والتي يعتمد عليها الكونغرس لتمرير حزم المساعدات أو فرض العقوبات على الحكومات الأجنبية، كما تُحدّد الاتجاه الذي تسلكه الدبلوماسية الأميركية في هذه الدول.

وقد ارتكزت إدارة ترمب على هذه التقارير للضغط على كل من الحكومة المصرية والتركية لحماية الأقليات المسيحية فيها مقابل الحصول على المساعدات الأميركية وتحسين العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. بل إنّ تركيا، وهي دولة عضو في حلف الناتو، تعرّضت لفرض عقوبات أميركية عليها بسبب احتجازها قساً يحمل الجنسية الأميركية لأسباب أمنية لم يرَ فيه البيت الأبيض إلا انتهاكاً للحريات الدينية للمسيحيين في بلد مسلم.

اقرؤوا المزيد: مستوطن البيت الأبيض.. هكذا يوسع ترمب "إسرائيل"

من ناحية أخرى، لا يخفى على أحد الدور الذي تلعبه برامج المساعدات الأميركية التي تشرف عليها وكالة المساعدات الدولية "USAID" في تنفيذ أجندة البيت الأبيض خارج حدود الولايات المتحدة. وقد اتخذت إدارة ترمب من هذه البرامج بطاقة ضغط لتنفيذ أجندتها الدينية المحافظة في الخارج. فعلى سبيل المثال تبنّت إدارة ترمب سياسةً تُعرف بـ"سياسة مدين مكسيكو" تمنع فيها انخراط الولايات المتحدة بتمويل المنظمات الدولية التي تقرّ بحق الإجهاض أو تعمل على نشر ثقافته وذلك استجابة لضغوط الجماعات المسيحية المحافظة. 

ويُعدّ برنامج "مبادرة الشراكة الجديدة NPI" الذي أطلقته إدارة ترمب الأولى أحد أهم مداخل الدينية المسيحية المحافظة في منطقتنا؛ إذ يعمل البرنامج على توسيع قاعدة الشركاء الذين يتلقون مساعدات أميركية وفق شروط ومحددات وعلى رأسهم المنظمات المسيحية المحافظة في الشرق الأوسط تحت مظلة حماية الأقليات الدينية. وقد كان لهذا البرنامج أثر مهم في نشر الثقافة الدينية المحافظة وفق المعايير الأميركية في العراق في ظل انتشار تنظيم الدولة الإسلامية. بينما تسعى الجماعات الدينية المحافظة الآن لتطبيق هذا البرنامج في سوريا بحجة حماية أقلياتها الدينية بعد سقوط نظام الأسد، في الوقت عينه الذي تسعى فيه ذات الجماعات لضم الحكومة السورية الجديدة لقطار التطبيع في ظل اتفاقات أبراهام باستخدام ورقة رفع العقوبات وزيادة المساعدات الأميركية لدمشق. 

دولة مسيحية بيضاء: سياسات الهجرة الطاردة

لا تحاول إدارة ترمب مواراة تمييزها ضدّ المسلمين حتى بمبررات أمنية واهية كأسلافها من الإدارات؛ فترمب الذي افتتح إدارته الأولى بإصدار قرار تنفيذي أثار جدلاً حادّاً منع الهجرة من دول ذات أكثرية مسلمة فيما عُرِف بقرار "منع السفر للمسلمين"، ولم يكتف بذلك بل ضمّن قراره باستثناء مباشر لمسيحي الدول المشمولة بالمنع؛ في قرار تمييزي مباشر رفضته محكمة النقض العليا قبل أن تعود وتقبله بتعديلات بسيطة وهي المحكمة التي يسطير عليها جمهوريون محافظون بواقع 6 قضاة مقابل 3 من الديمقراطيين. 

وقد برز في هذا السياق مدير مكتب الإدارة والميزانية في إدارة ترمب الحالية راسل فوغت، وهو أحد المنتمين للقومية المسيحية ويقود حملة إسلاموفوبيا عنيفة في الولايات المتحدة. يرفض فوغت نظرية التسامح بين الأديان ويهاجم أتباعها ويسعى جاهداً لإقصاء الإسلام من الحياة الأميركية العامة وتقليص وجودهم بسياسات الهجرة الطاردة؛ متفقاً بذلك مع "مشروع 2025" اليميني المتطرف الذي يسعى لهيكلة الحكم في الولايات المتحدة وفق رؤية دينية مسيحية محافظة ترفض الإسلام وأتباعه. 

والحقيقة أنّ سياسات الهجرة تقع في قلب أجندة اليمين المسيحي المحافظ؛ ففي استطلاع رأي عقدته مؤسسة لايف ويه للأبحاث بين الإنجيليين الأميركيين مطلع العام الحالي تبيّن أنّ 44% منهم يرون أنّ المهاجرين يستنفذون موارد الولايات المتحدة بينما أيّد 80% منهم تشديد سياسات الهجرة و90% أيّدوا التضييق على حدود الولايات المتحدة. 

اقرؤوا المزيد: "استير" وأخواته.. كيف يُحرّم ترامب انتقاد "إسرائيل"؟ 

لكن يبدو أنّ للقصة أبعاداً أخرى؛ إذ تبيّن في إحصائية حديثة لانتماءات المهاجرين الدينية أن 4 من كل 5 مهاجرين مهددين بالترحيل تحت إدارة ترمب مسيحيون؛ إذ يبدو أن سياسات الهجرة المتشددة لترمب وأتباعه تطال نارها 10 ملايين مسيحي في الولايات المتحدة عدا عن أسرهم وعائلاتهم الممتدة دون أن يبدو أن لهذه الناحية أي تأثير يُذكر. 

وقد أشارت الورقة التي نشرتها مؤسسة لايف ويه إلى التناقض الصارخ بين مبادئ الإنجيليين المتمسكين بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس وبين أثر الأخير في تفضيلاتهم وخياراتهم فيما يخص سياسات الهجرة ما يشير إلى تأثير نظرية العرق كأساسٍ لتلك المبادئ وسعيهم الحثيث لإقامة دولة بيضاء تتبنى مسيحية عنصرية إقصائية لا ترغب بوجود المسيح ذات نفسه بين ظهرانيهم إن كان ملوناً.   

أخيراً، يبدو أن المسيحية العنصرية البيضاء تحكم عالمنا اليوم؛ وما مسلسل التدخلات الأميركية في منطقتنا إلا استجابة لتضافر المصالح الأيديولوجية والمادية حيث تختلط الخزعبلات الدينية لجماعة من العنصريين البيض الذين ينحدرون من أسلاف أوروبيين استوطنوا الولايات المتحدة وأبادوا سكانها الأصليين مع مصالح التفوق التجاري والاقتصادي الأميركي في المنطقة، والذي يضمن لها موقعها في نظام عالمي أحادي القطب تتربع هي على عرشه. نظام لا ترى ضمنه إدارةُ ترمب في دمنا المسفوح في القطاع منذ ما يربو على الـ600 يومٍ أكثر من "تجاوزات فردية هنا وهناك"، لكنها رأت فيما أشارت إليه باضطهاد تنظيم الدولة الإسلامية لمسيحي الشرق الأوسط جريمةَ إبادة جماعية!