3 نوفمبر 2019

ليلة الشّحـم والزيـت

ليلة الشّحـم والزيـت

كان صوت "الظبّاحة" 1حيوان ليليّ قليل الخروج من وكره في النهار، يشبه في شكله النسناس وبنفس حجمه أو حجم السنجاب. يصدر صوتاً يشبه صراخ البشر خصوصاً في موسم التكاثر أو في حال فقدان الأنثى صغارها. تعيش وتبني الظباحة وكرها بين الصخور والسلاسل يأتي من تلّ أم الزيزان2تل يقع ضمن أراضي عشيرة عرب الصبيح المهجرة، والتي كانت تمتد أراضيها على أطراف جبل الطور الشمالية والشرقية، شرق مدينة الناصرة، فيُجاوب صدى الصوتِ الصوتَ، ليملأ ليلَ الأحراشِ الممتد من سفح قرية دبوريّة جنوباً إلى قرية الشّجرة المهجّرة شمالاً. يبثُّ صوتُ الظبّاحة الذُعرَ والرعبَ في قلب أيّ سامعٍ غشيم. صوتٌ يُشبِهُ صرخةَ المرأةِ المُنادية؛ فحكاية "الفتاة المستغيثة ليلاً"3هي حكاية تداولها الفلاحون في بعض قرى فلسطين، تتحدث عن فتاةٍ قُتِلَت ظلماً على يد أهلها، بحجة ما يعرف بـ"شرف العائلة"، ولأنهّا قُتِلت ظلماً يبقى صوت الفتاة مستغيثةً ينبعثُ من موقع مقتلها ليلاً، فيما في الحقيقة الصوت المنبعث ليلاً هو صوت الظبّاحة الذي يشبه صوت صراخ المرأة -التي تداولها الفلاحون- متصلةٌ بصوت هذا الحيوان الذي لا يعرِفُه سوى من تعوّد على ليل بريّة الجليل. كان المدني وفودي ممّن يعرفون الظبّاحة شكلاً وصوتاً منذ أن شبّا شباباً على وجه البسيطة. 

أحمد المدني وفودي الرجا حيّان يرزقان إلى يومنا هذا، وقد قاربا في السّن أواخر الستينيات. من ينظر إلى سِحنة وجهيهما السمراويّة، يشعر كما لو أنّهما ورثا مرحلة الستينيات وحدهما، تلك المرحلة من زمن الحكم العسكريّ للعرب داخل الأراضي المحتلة عام 48. بينما تجاوز النّاسُ الحكمَ العسكريّ وأصبح أبناءُ الفلاحين يغادرون قراهم من النّاصرة للعمل في ورشات حيفا وتل أبيب، بقي المدني وفودي يثابران على المُضي بقطعانهم شرقاً، في ثباتٍ دائمٍ على ما تبقى من فضاء بـرّيـة الجليل المطوّقة بحراس أمن المستعمرات، وفي اعتيادٍ جدلا فيه النّهار مع الليـل. غير أنّ ليلة الشّحم والزيت كانت على غير العادة. 

اقرأ/ي المزيد: عند جبل حيدر.

كانت تلك ليلةٌ من ليالي تشرين في مطلع تسعينيات القرن الماضي. فيها قرر المدني وفودي أن يقتحما زريبةَ أبقار "كيبوتس بيت كيشت"4كيبوتس: كلمة بالعبريّة، تعني لغةً: تجمّع، وتشير اصطلاحاً إلى المستعمرات التعاونيّة الصهيونية، في غالبها زراعيّة، التي أقيمت منذ مطلع القرن العشرين على أراضي فلسطين، وكانت إحدى أبرز مؤسسات وروافد الحركة الصهيونية. يقع كيبوتس بيت كيشت إلى الشمال من أراضي عرب الصبيح، وقد أسس عام 1944 على يد مقاتلين في كتيبة الـ"بلماح" الصهيونية.، من أجل تحرير ثلاث بقرات تعود ملكيّتها للمدني، احتجزها حرّاس يهود الـ"كيبوتس" بحجة رعيها في مرعاهم.

سار المدني وفودي من خلفه في سكوتٍ يُشبه سكتة الليّل وسكينة عتمه. يُنصتان لإيقاعِ دعس أقدامهما، فيما تُلًّوح الريـحُ شلوحَ شجر الصّنوبر والسّرو، بهبوبٍ يُجَفِّف عرقهما المتصبب، ثمّ يعود صوتُ الظبّاحة مجدداً قاطعاً على سكوت الليّـل سكينتَه. بعد مسيرٍ أكثر من ساعة نحو زرائب الـ"كيبوتس"، يقول المدني إنّ صوتاً غريباً بدأ بين الحين والآخر يتسلل إلى أذنيه، فالليل بما تسمعه وليس بما تراه كما يقال في عُرف أهل الليل، حتى أنّ المرء بإمكانه المشي ليلاً في البريّـة مسافاتٍ لا يُمكنه مشيها نهاراً، أو قد يُدهش لو تأمل نهاراً في ما مشاه ليلاً. والسّر وحدهُ في الليّـل، لأنّه لا يمنحنا فرصةَ أن نرى كم مشينا، فَلَيـلُ البرِّ السّاكن يـُـفَعِّـل حاسةَ السّمع على حساب حاسة النظر بطريقةٍ مذهلةٍ، "لهيك بقولوا: الصّوت بالليّـل بودي"، يستعير صاحبنا.

فودي أيضاً انتبه إلى ذلك الصّوت الذي يعلو تارةً، ويخبو تارةً أخرى، ثمّ ينقطع ويعاود مجدداً. كان كلٌّ منهما يُحدِّث نفسَه في هوية الصّوت دون أن يُـنبّه أحدهما الآخر، إلى أن توقّف المدني واستدار باحثاً عن معالم وجه رفيقه في ظُلمة الليّـل، "سامع؟"... "آه سامع"، أجاب فودي. كان ذلك الصّوتُ صوتَ مَعْوَل (فأس) ينبش الأرضَ في مكانٍ ما حولهم في حرش الغابة. "مين هاظ إلي ببحش (كلمة عاميّة تشير إلى الحفر في الأرض) بنص الليّـل هون؟"، سأل كلٌّ منهما الآخر. أنصتا محاولَين تحديدَ الجهة التي يصدر منها الصوت، فيما رنة المعول تدقّ مسمعهما كلما اعترضتُه كتلةٌ صخريّة.

"الصوت جاي من الغرب، من تلا تل أم الزيزان"، قال فودي للمدني، فيما واصلا المسير حتى بات الـ"كيبوتس" إلى الشّرق منهما. يقول المدني: "بالأخير، حسمنا الأمر وسرنا نحو مصدر الصوت متجنبان الدعس على ما يُثير أي ضجيج يوقظ السمع". "كنّا ندوس فوق الحجارة على رؤوس أصابعنا"، يقول فودي. بعد كلّ بضعة أمتار يقطعانها نحو الصّوت، كان المدني يلتفت إلى فودي مُستهجناً، فيُشير له فودي بفتح عينيه على وسعهما، لتلمعا لمعةً أربكت المدني وجعلته كما لو أنّه يتعرّف إلى رفيقه للمرة الأولى.

في تلك اللحظات، لم تشغل بالَ أيٍّ منهما هويةُ الفاعل بقدر ما شغلهما منطقُ الفعل نفسه، "البحش نعم البحش، وليش البني آدم ببحش في الوعر بنص الليّـل؟!". ذهب المدني في تفكيره إلى أن هناك من يحفر بحثاً عن الذهب، وهذا تاريخيّاً جارٍ إلى يومنا. بينما ذهب فودي في تفكيره إلى غير الذهب، إذ سرت قشعريرة في بدنه تقول إنّ من يحفر هو شخصٌ يريد التخلصَ من جثة أحدهم، ربما هذا ما يُفسِّر لمعة عينيه التي أربكت رفيقه المدني. كان كلٌ منهما شارداً في هواجسه دون أن يتبادلاها، لتعود الظبّاحة مجدداً بصوتها المزعج، فيسكت المعول، ويتمسمر صاحبانا مكانهما، ثمّ يستأنف المعول نبشه، فيستأنفان نحوه المسير، وهكذا.

اقترب صاحبانا إلى أن صارت بينهما وبين موقع مصدر الصّوت مسافةٌ لا تزيد عن مرمى الحجر، فلاذا خلف صخرةٍ وأخذا يراقبان ما يجري. كان عتم الليّـل كحلاً، وبالكاد استطاعا تشخيص ما يدور: رجلان ملثمان أو ثلاثة على الأكثر في تناوب على يد المعول دون أي نفس.

مضى وقتٌ وهما خلف تلك الصّخرة، فهمس إليه فودي بمَ عليهما فعله، فأشار عليه المدني مقترحاً مغادرة المكان، فالـ"بحش" توّقف وحركة الملثمين بدت أثقل مما كانت عليه، غير أنهم لم يغادروا بعد، ولدى فودي فضول ورغبة بالبقاء أكثر مما لرفيقه المدني. وفيما هما يتهامسان حول وجوب البقاء من عدمه، سُمع صوتٌ يقول: "الشحمة"، كلمة واحدة أفلتت من تحت لثام أحدهم إلى مسمع صاحبينا، فكانت كفيلة لفهم ما يدور. كرر أحدُ الملثمين: "الشّحمة والزيت". عندها أيقن المدني ومعه فودي القصة، إنّه سلاح، نعم إنّه دفن سلاح.

تشحيم السّلاح وبلّه بزيت الزيتون وتركه في بطن الأرض تقليدٌ يتبّعه إما مهرّبٌ أو فدائيّ، يقول المدني. يعني ذلك أنَ لمثل هذا السّلاح هوية أبعد من مجرد كونه سلاحاً "غير مرخص"، على الأقل هذا ما يفسرّه "رجال أمن الدولة". تمترس المدني وفودي في موقعهما مجدداً، ودارا يهمسان لبعضهما في حوار سيترك أثراً على علاقتهما لاحقاً. همس فودي للمدني مقترحاً أن يبقيا حتى يغادر الملثمون المكانَ، وبعدها يكشفان ما دفنوه في بطن الأرض. ردّ عليه المدني رافضاً الفكرة، لأنّ في ذلك مجازفة، فالملثمون ربما سيبقون في الأرجاء يراقبون المكان لمدة زمنيّة، ليطمئنوا على ما دفنوه، وهذا تقليدٌ يتبعه المهرّبون في العادة.

ردّ عليه فودي باقتراحٍ آخر: أن يتركا المكان ويعودا في الصّباح، فأجابه المدني بحسٍ أمنيٍّ بالنفي ثانيةً، قائلاً إنّ المكانَ قد يكون مراقباً خلال الأيام القادمة من قبل طرف ما. كما أنّ تجربة البريّة علّمته عدم الاقتراب من أيّ غرض مدفون أو مخبوء فيها، لأنه قد يكون مراقباً، إذ تعتقد سلطة الأمن أن من يخبئ غرضاً سيعود إليه حتماً لأخذه أو لتفقده، خصوصاً إذا كان الأمر متعلقاً بالسّلاح.

"وشو نساوي؟"، سأل فودي هامساً، "نغادر المكان بلا رجعة وكأنّه ما شفنا إشي"، أجابه المدني. وفيما همّا لإخلاء المكان، وبعد بضعة أمتار، هرول المدني بحركةٍ غريبةٍ واعتلى بلاطة صخر، وصاح بأعلى صوته: "إم الزيزان مش أمان"، كرّرها مرتين، ثمّ أضاف: "المكان مش أمان". دوّى صوت المدني دوياً يوقف الماشي ويوقظ النائم، فيما بقي فودي مدهوشاً من فعل صاحبه، ثم تسارعت خطاهما مبتعديْن.   

فعلتُ ذلك كي أطرد كلّ ذلك المكان من رأسي، لأنه سيشغلني ولا أريد العودة إليه، كما شعرت أن الواجب يقتضي ذلك، خصوصاً أن رائحة هذا السلاح قد أسقطت شيئاً من علاقتي بفودي، ولأول مرة انتبه لتلك اللمعة في عينيه التي قضت على رفقتي به ليلاً منذ تلك الليلة، يقول أحمد المدني.

بعد أن ابتعدا، سمعا هدير مركبة تحركت مطفئة المصابيح بسرعة جنونيّة، ومن ثمّ صوتَ طلق نارٍ واحد في الهواء، "واحد فش غيرو"، فعرفا أنّها تحية شكر وعرفان، بينما صوت المركبة يذهب شمالاً. وفيما يقصّ علينا المدني ذلك، استحضر مطلع بيت زريف الطول غنّاه الريناوي5الحادي الشاعر توفيق الريناوي أبو الأمين من قرية الرينة، شرق الناصرة، من أشهر الحدائين الشعراء في الجليل خلال مرحلة الحكم العسكري وحتى منتصف الثمانينيات. مرةً يقول:

يا زريف الطول ومشمل شمال
الله معك والخضر ساكن شمال

والخضر هو نبي الله ووليّ اللطف بأقدار الناس، وشفيعهم لحمايتهم من تقلبات الزمان وعثراته.

بعد ما يقارب خمسة عشر عاماً، وتحديداً في أيلول 2007، دُعي أحمد المدني لحضور عرس في واحدة من قرى منطقة الناصرة. خلال سهرة العرس التقى المدني بأصدقاءٍ يعرفهم منذ زمن، دعوه هناك إلى بيت أحدهم فلبّى.  أثناء جلوسه عندهم قامت جلبة في الحيّ؛ دوريّة لوحدة أمن خاصّة داهمت أحد البيوت بحثاً عن سلاحٍ غير مرخص، على ما يبدو استُخدم في العرس ذاته، فصار السّلاح حديثَ المتحلقين في المجلس.

كان المدني مجرد مستمعٍ أمين، إلى أن طلّ عليهم رجلٌ مسنٌ خرج من باب بيتٍ ملاصقٍ قديم، ومرّ من جانبهم بيده إبريق يقصد حنفية الماء، فسأل: "مالهم لكلاب؟" في إشارةٍ لقوات الأمن، فردّ عليه أحدُ الجالسين: "كبسية على سلاح مهرّب يا حج". هزّ رأسه: "قلنالكم: إم الزيزان مش أمان"، قالها الحاج وفَتَحَ حنفية الماء. صُعق المدني! فقد قفزت كلماتُ الحاج في ذاكرته مباشرةً. وفيما انتهى من ملء إبريقه، عاد مقترباً من مجلسهم: "هاظ اسمو سلاح غير مرخص، مش مهرّب، لمهرّب إشي وغير المرخص إشي ثاني"، وجّه كلامه لعموم الجالسين وابتعد متوارياً خلف باب بيته الأرضيّ.

كان ذلك المسن هو الحاج سليم رحمة الله عليه، عاش متحاملاً على الزمن والناس معاً، ربما لأنه لم يُرزق بولد، لكن قوله "إم الزيزان مش أمان" قولٌ أشعل ذاكرة صاحبنا وأعاده لليّـلة الشحم والزيت. لا نعرف بعد كل هذه السنوات، إن كان هذا اللقاء قد جمع أول من قال هذا القول بأوّل من قيل له، غير أن تمييز المرحوم غير المرخص عن المهرّب يوحي للمدني بأنّه هو، فقد ولّى المُـهرّب فعلاً وبلا رجعة، وتفشّى غير المرخص ننهش به لحمَ بعضنا بعضاً، يختم أحمد المدني.



22 ديسمبر 2022
الإحساس الحادّ بالحياة

في بواكير عام 2003، جاءني رجلٌ ليبيّ أسمرُ قصيرٌ مهموماً. وبعد تلكؤٍ فاتحني في أمر يود رأيي فيه. قال إنه…