26 فبراير 2020

لا صوت لتنظيم غزّة داخل حركة "فتح"

لا صوت لتنظيم غزّة داخل حركة "فتح"

يشهدُ تنظيمُ حركة "فتح" في غزّة أزمةً جذريّةً أدّت إلى تغييب دوره السياسيّ عموماً، ودورِه في القرار الفتحاويّ خاصّةً. حوّلت هذه الأزمةُ التنظيمَ إلى هيئةٍ تنفّذ قراراتِ اللجنة المركزيّة دون قدرةٍ على التأثير. وفي مقابل هذا الإقصاء المُمنهج، يجدُ تيّار محمد دحلان فرصةً ذهبيّةً لكسب التأييد داخل القطاع.

ولتناول واقع حركة "فتح" في قطاع غزّة اليوم، لا بدّ من الرجوع إلى الوراء قليلاً؛ إلى لحظةِ إنشاءِ السُّلطةِ الوطنيّة الفلسطينيّة، وصولاً إلى الانقسام الفلسطينيّ الداخليّ، وما ترتب على هذه الفترة من تداعياتٍ على الواقع الفلسطينيّ عامّةً، وواقع "فتح" خاصّةً.

ترأست حركة "فتح" منذ عام 1996 السّلطةَ الفلسطينيّةَ بجميع مؤسساتِها التنفيذيّة والتشريعيّة والأمنيّة، إثر ذلك، تماهت كاملُ مؤسسات الحركة مع مؤسسات السّلطة، حتّى أصبحت السُّلطة هي الحركة والحركة هي السُّلطة. حمَّلَ هذا التماهي حركةَ "فتح" أخطاءَ وخطايا السّلطة الفلسطينيّة أمام الشارع الفلسطينيّ. ودفعت الحركة ثمنَ ذلك غالياً عندما خسرت الانتخابات التشريعيّة العامّة في يناير/ كانون الثاني 2006 لصالح حركة "حماس". مهّد ذلك للانقسام والاقتتال الداخليّ المُسلح عام 2007، فسيطرت حركة "حماس" على قطاع غزّة، بينما استقرّت السّلطة الفلسطينيّة، أو "فتح" في الضّفة الغربيّة.

صراعات من زمن "الختيار"

أبرزَت أحداثُ الانقسام حجمَ التناقضاتِ والخلافاتِ داخل حركة "فتح". على سبيل المثال، ظهرت أصواتٌ تزعّمها أحمد حلس، أمين سرّ "فتح" في قطاع غزّة، تروّج إلى أنّ الاقتتال صراعٌ بين حركة "حماس" وجهاز الأمن الوقائيّ، في إشارةٍ إلى القياديّ الفتحاويّ محمّد دحلان. إلا أن هذه الخلافات لم تكن وليدة اللحظة، بل تعود إلى سنوات 2003 و-2004، عندما دمج الرئيسُ الراحل ياسر عرفات الأجهزةَ الأمنيّةَ، وأقال اللواء عبد الرزاق المجايدة، عيّن مكانه اللواء موسى عرفات مديراً للأمن العام.

في حينه، أثار تعيينُ موسى عرفات موجةً واسعةً من الانتقادات والاحتجاجات من كتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكريّ لحركة "فتح"، والتي تظاهر أفرادُها في غزّة، وقالوا إنهم طالبوا بإقالة مسؤولٍ فاسدٍ، فجاءهم أبوعمار بمن هو أكثر فساداً منه. وقد شهدت تلك الفترة استقالات كلّ من رئيس جهاز الأمن الوقائي في غزّة رشيد أبو شباك، ورئيس جهاز المخابرات العامّة اللواء أمين الهندي، احتجاجاً على قرارات عرفات.

اتسعت الخلافاتُ بعد رحيل عرفات، بدءاً من بيت عزائه، فقد شهد بيتُ العزاء إطلاق نارٍ من قبل مناصري أحمد حلس اتجاه محمود عباس. حلس كان قد سعى إلى عقد مؤتمرٍ في غزّة بعنوان "حركة فتح نحو تصحيح المسار"، لكن سرعان ما خفت نجمُهُ بعزلِهِ من أمانة سرّ الحركة، وتشكيل قيادةٍ جديدةٍ أوكلت مهامَها إلى ماجد أبو شمالة. وقد عبّر حلس عن عدم اعترافه بشرعيةِ هذه القيادة وقرارات الرئيس عباس آنذاك.

ساهمت هذه الخلافات والصراعات الداخليّة في غزّة، إلى جانب مثيلاتها في الضّفة الغربيّة، في خسارة حركة "فتح" في الانتخابات التشريعيّة. على سبيل المثال، ترشّح لتلك الانتخابات كثيرٌ من الفتحاويين كمُرشحين مستقلين، مما سبّب حالةً من التشتت وسط أبناء وكوادر وأنصار الحركة، انعكست في النتائج النهائيّة بخسارة الحركة المدوية.

اقرأ/ي المزيد: "من الرصاص إلى العفو.. سيرة كتائب شهداء الأقصى".

تنظيم بلا رأس

بعد وقوع الانقسام عانت حركةُ "فتح" من غياب قياداتِها البارزة ومغادرتهم القطاع إلى الضّفة الغربيّة ومصر. أصبح تنظيمُ القطاعِ بلا رأسٍ، وأخذ على عاتقه مشاغبةَ حركة "حماس" في غزّة، خاصةً بعد مقتل عددٍ من أنصار "فتح" في مهرجان إحياء الذكرى الثالثة لوفاة عرفات برصاص حركة "حماس" عام 2007. كما انتشرت حملاتٌ تدعو للصلاة في السّاحات العامّة بدلاً من المساجد التي تسيطر عليها "حماس" مما أدّى إلى قمع المصلين في الساحات. اتّهمت "حماس" فيما بعد قياداتٍ من التنظيم بالمسؤولية عن تفجيرات وأحداث شغب، مما أدّى إلى حظر التنظيم ونشاطاته في القطاع، واعتقال المئات من أنصار وكوادر الحركة والشبيبة الفتحاويّة.

ضمن ممارسات "حماس" ضدّ التنظيم، منعت عام 2009 كوادر "فتح" من مغادرة القطاع إلى رام الله للمشاركة في أعمال المؤتمر السادس للحركة. يُعتبر هذا المؤتمر نقطةً فاصلةً بالنسبة للحركة في قطاع غزّة، فقد اتّضح فيه تهميش القطاع إلى حدٍّ بعيد. من ذلك صعود دعوات لإجراء المؤتمر دون الممثلين عن التنظيم في غزّة، ودعوات أخرى اقترحت التصويت والمشاركة عبر الهاتف، كما ظهرت اتّهامات بتزوير وتحييد أصوات غزّة التي صوّتت عبر الهاتف.

في هذه الظروف، بدأ التنظيم في القطاع ينظِّم أوضاعه من خلال الهيئة القيادية العليا لحركة "فتح" في القطاع، وهو تشكيلٌ استحدثته اللجنةُ المركزيّة لمتابعة أوضاع التنظيم في القطاع. أما في الواقع، فقد وُلِدت هذه الهيئة فاقدةً للصلاحيّات، وظهرت كمجرّد ديكورٍ تنظيميّ. بل عزّزت الهيئةُ الانقسامات والخلافات الداخليّة في الحركة نتيجةَ عجزِها عن معالجة القضايا، ولم يكن لها أيُّ فعلٍ ملموس على الأرض، حتّى رفضت المناطقُ والأقاليم التنظيميّة التعاطي معها.

إقصاء دحلان

كان إقصاء محمّد دحلان من اللجنة المركزيّة للحركة عام 2011 أحد أبرز الأحداث في سيرة التنظيم في القطاع. إذ يُنظر إلى دحلان باعتباره الممثل الأقوى لقطاع غزّة داخل اللجنة المركزيّة. ويُمكن القول إنّ إقصاءه حمل ضمنيّاً إقصاء تنظيم غزّة، وذلك نظراً لشعبية دحلان الكبيرة لدى الكوادر في القطاع، وحصوله على أغلبيّة ساحقة في دائرته الانتخابيّة للانتخابات التشريعيّة.

ألقى هذا الحدثُ بظلاله على الحركة وعزّزَ من الانقسامات الداخليّة، وتبع ذلك حملةٌ واسعة لإقصاء العديد من القيادات المحسوبة على دحلان والقيادات المتعاطفة معه في المجلس الثوريّ للحركة، ومنهم سمير المشهراوي، وماجد أبو شمالة، وأشرف جمعة، وسفيان أبو زايدة، وغيرهم. أدّى ذلك لاحقاً إلى تشكيل إطارٍ يتزعّمه دحلان، وهو "التيّار الاصلاحيّ الديمقراطيّ" في حركة "فتح".

وجاء المؤتمر السابع لحركة "فتح" عام 2016 في ظروف أكثر تعقيداً، إذ شرّع المؤتمرُ الإقصاءَ الكامل لتيّار محمد دحلان، فلم يتم توجيه الدعوة لهم للمشاركة فيه. كما بدا واضحاً تهميش قطاع غزّة رغم مشاركة أغلب أعضائه في أعمال المؤتمر، وقد دلّل البعض على هذا التهميش بالإشارة إلى الفندق البسيط الذي رُتِبت فيه إقامة ممثلي القطاع، مقارنةً بالفندق الفخم الذي أقام به أعضاء المؤتمر الآخرون. 

كما برز التهميشُ واضحاً في نتائج اللجنة المركزيّة، إذ ضمّت أعضاءً محسوبين اسماً على قطاع غزّة، لكنهم لا يقيمون فيه منذ سنواتٍ طويلة. إلا أنّ النقطة الأبرز في هذا المؤتمر هي حصولُ أحمد حلس على عضوية اللجنة المركزيّة للحركة، والذي نُظِرَ إليه باعتباره تكليفاً لحلس بمواجهة تيار دحلان، مما ساهم في تعزيز حالة الانقسام الداخليّ للحركة، وأعادها إلى سنوات 2003-2004، مع الفارق أن محمود عباس في تلك الفترة كان يُنظَر إليه كحليفٍ لدحلان، واليوم تنقلب الصورةُ بتحالف عباس مع أحمد حلس لمواجهة تيار النائب دحلان في القطاع.

أزمات غزة..  

منذ مطلع عام 2017، عصفت عدةُ أزماتٍ بقطاع غزّة وحركة "فتح"، كان أبرزها خصومات رواتب الموظفين التابعين للسلطة في القطاع، والتي سُوِّقَت على أنها إجراءات عقابية لحركة "حماس" لحثها على العودة إلى المصالحة وإنهاء الانقسام. تبع ذلك جملة من حملات التقاعد المبكر، والتقاعد المالي غير القانوني، وقطع رواتب العديد من الموظفين وأسر الشهداء والأسرى والجرحى، إضافةً إلى ملف "تفريغات 2005"، وهو ملف قديم جديد لم يحسم ويتوقع تحويله إلى وزارة الشؤون الاجتماعية بدلاً من اعتمادهم كموظفين رسميين في اجهزة أمن السلطة.

كما يمكن القول إنّ السّلطة أرادت توظيف التنظيم في غزّة للدخول في مواجهةٍ مع حركة "حماس" جراء هذه العقوبات، أو ما تسميه "الإجراءات" لإجبار "حماس" على المصالحة. وقد دعم عزام الأحمد هذا التوجه عندما صرّح بأنّ غزّة طائرة مخطوفة، و"علينا إعادتها مع المخطوفين" بهذه الإجراءات.

وضعت هذه الأزمات قيادة "فتح" في غزّة أمام المحك، وساءلت مدى قدرتها على معالجة هذه القضايا. ويمكن القول إنّ طريقة تعاطي اللجنة المركزيّة للحركة في رام الله مع هذا الملف، لم يختلف كثيراً عن طريقة تعاطيها مع ملفات قطاع غزّة عامة منذ العام 2007، فالكل في غزة سواء أمام اللجنة المركزيّة والرئيس عباس.

ثبت فشل قيادة غزّة

وبالنظر إلى مختلف مؤسسات حركة "فتح"، من اللجنة المركزيّة إلى المجلس الثوريّ، أو حتى اللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، فإنّنا لن نجدَ من يمثل مصالح وقضايا قطاع غزّة التنظيميّة والقضايا العامّة ككلٍّ في إطار الحركة والمنظمة والسّلطة. فلا صوت قويّ أو مؤثر لغزّة هناك. حتّى أن بعض التقارير اتّهمت الأعضاء المحسوبين على غزّة في اللجنة المركزيّة والسّلطة بتحريض الرئيس ضدّ القطاع ومواصلة فرض العقوبات. 

ولا يقتصر هذا على اللجنة المركزيّة لـ"فتح" فقط، بل يشمل كذلك بعض الشخصيات الغزاويّة صاحبة النفوذ في الضفة أيضاً؛ مثل محمود الهباش، وزياد أبو عمرو، وعزام الشوا، والمحسوبين اسماً على غزّة دون الإقامة بها، مثل اسماعيل جبر، وروحي فتوح في اللجنة المركزيّة.

كذلك، فقد شُكِّلت العديد من اللجان من قبل مركزية "فتح" والسّلطة الفلسطينيّة لمعالجة قضايا القطاع المختلفة، إلا أننا لن نجد أي توصيات أو قرارات صدرت عن هذه اللجان قد نُفِّذت، فقد بقيت حبراً على ورقٍ فحسب.

ما يحدث داخل حركة "فتح" هو عملٌ ممنهجٌ لإقصاء قطاع غزّة من حالة التأثير الحركيّ والوطنيّ، والذي سينعكس جليّاً في صراع خلافة الرئيس عباس والتي تنحصر بين موازين القوى المحسوبة على الضّفة الغربيّة في اللجنة المركزيّة مثل محمود العالول، ومحمد اشتيه، وجبريل الرجوب، وصائب عريقات، وحسين الشيخ. وليس من مصلحة هذه الموازين وجود قياداتٍ مؤثرة لغزّة داخل المركزيّة أو دوائر صنع القرار في السّلطة.

في المقابل هناك صعودٌ ملحوظٌ ومتسارعٌ لتيار محمد دحلان. وقد قدّمت خطواتُ عبّاس هدايا لا تقدّر بثمن لدحلان، إذ عزّزت مواقفه وخطابه المعارض لعبّاس والسّلطة والحركة. هكذا، أصبح دحلان، بالنسبة لقطاعات واسعة، منقِذَاً من عقوبات السلطة.

وبموازاة إقصاء الضّفة لغزّة، وصعود دحلان، ثَبَتَ فشلُ قيادة غزّة التنظيميّة في معالجة القضايا الملحّة، وأصبح الهمّ الوحيد لهذه القيادة الحفاظ على مكتسباتها الشخصيّة والتنظيميّة فقط، فيما حرص باقي الكوادر والموظفين على الصّمت وعدم التعاطي مع هذه المشاكل التي تمسّهم شخصيّاً، خوفاً من فقدان ما تبقى لهم من رواتب وامتيازات قليلة.

واليوم لا يوجد لقيادة حركة "فتح" في قطاع غزّة أيُّ دورٍ في صناعة القرار الفتحاويّ، بل هم جهة منفّذة فقط لما تقرره اللجنة المركزيّةُ للحركة، دون أيّ اعتراضٍ فعليّ قويّ وحقيقي على الأرض، يعيد لغزّة مكانتَها التنظيميّةَ والحركيّة والتأثير على القرار التنظيميّ.



6 يناير 2020
حماس، إيران، والأخلاق الطائرة

قصفت أميركا سيّارة قائد فيلق القدس الإيرانيّ قاسم سليماني، وهو الرجل الذي أشرف على هندسة مشروع إيران التوسعيّ في المنطقة،…