في 7 تشرين الثاني/ أكتوبر 2023 لم يخترق مقاتلو كتائب الشهيد عز الدين القسام الحيّز الجغرافي للاحتلال فحسب، بل إن طوفان الأقصى شكّل خرقاً أفقياً في جدار الزمن، وعمودياً في سقف الوعي. أما العنف الذي وظفه الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة والساحات الأخرى فهو انعكاس لحجم الأثر الذي خلفته عملية طوفان الأقصى على الوعي الأمني الإسرائيلي.
فالدول عادة لا تتقبل المفاجآت الاستراتيجية بسهولة خاصة عندما تنشأ عن فشل في جهازها الأمني الذي يعد جهاز المناعة للدولة. تغزل الدول نسيجها الاجتماعي بخيوط عديدة لتصميم هويتها، أحد هذه الخيوط هو "الآخر" أي "العدو"، وتحرص على تكريس شكل علاقة معينة مع "الآخر" أيا كان للحفاظ على الهوية.
في السياق الاستعماري يكون الأمر سهلاً، لسهولة فرض ديناميكيات قوة ذات ملامح محددة على "الآخر" الذي هو المستعمَر. بالنسبة إلى "إسرائيل" الدولة فإن أحد أهم أعمدة تشكيل هويتها هو أنها الدولة الوحيدة الموجودة لحماية يهود العالم وأنها الأكثر أمنا لهم، وإثباتا لذلك تحرص "إسرائيل" على الحديث الاستعراضي المستمر عن أجهزة الأمن لديها وتعددها وتطورها التقني والتكنولوجي في هذا القطاع.
وما فعلته كتائب القسام في السابع من أكتوبر هو أنها مسّت هذه الهوية مباشرة بعد أن تمكنت من اختراق كل هذه الدفاعات الأمنية بشكل مدروس ومخطط له وغير انفعالي. لذلك بالنسبة إلى "إسرائيل" فإن الخسائر تتجاوز عدد الأسرى والقتلى، ويمتد الخطر ليشكل تحدياً أمام هوية "إسرائيل" الدولة، وسردية وجودها كونها دولة آمنة لليهود ما يمثل تهديداً مباشراً لأمنها الأنطولوجي، أي شعور "إسرائيل" بأنها مستقرة وقادرة على الاستمرار كدولة.
"وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم"
منذ عام 2007 ضربت "إسرائيل" حصاراً اشتد خناقه تدريجيا على قطاع غزة حتى أصبح يُعرف بأنه أكبر سجن مفتوح على كوكب الأرض1“Gaza: The World’s Largest Open-Air Prison,” NRC, 2018, https://www.nrc.no/news/2018/april/gaza-the-worlds-largest-open-air-prison.. لكن حبس الجسد الفلسطيني وإطباق الخناق عليه براً وجواً وبحراً ليس كافياً، فحتى يحمي الإسرائيلي نفسه من الشعب الذي يهدد وجوده، عليه أن يتأكد من بسط سيطرته على حياة الفلسطيني وتفاصيلها كافة. وهذا الشكل من السيطرة يحتاج بالضرورة إلى مراقبة مكثفة، تهدف بشكل أساسي إلى تكوين معرفة عن الفلسطينيين في قطاع غزة غرضها السيطرة والإدارة والتأثير2 وفق تعريف المراقبة(surveillance) في حقل الدراسات الأمنية راجع Surveillance studies: an overview, David Lyon.
لذلك، أعلنت وزارة حرب الاحتلال عام 2016 بدء إنشاء جدار ذكي من الفولاذ على حدود قطاع غزة بطول 65 كيلومتراً، وبتكلفة تصل إلى ألف مليار دولار أميركي، هو الجدار الأول والوحيد في العالم هدفه حماية "إسرائيل" من "الوحوش"، بحسب تعبير رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بعد عملية اقتحام كوماندوز القسام قاعدة زيكيم العسكرية عام 2014 عن طريق البحر3“جدار غزة وتداعياته,” Carnegie Endowment for International Peace, accessed January 21, 2025, https://carnegieendowment.org/sada/2019/03/the-implications-of-israels-gaza-barrier?lang=ar..
امتد الجدار من زيكيم عند الحدود الشمالية لقطاع غزة، ويتكون من ثلاث طبقات بعلوّ 200 متر قبالة الساحل إلى معبر كرم أبو سالم في الجنوب. وله امتدادٌ موازٍ تحت الأرض. وعُزز بسياج ذكي مزوَّد بأحدث أجهزة الاستشعار وآلات مراقبة متطورة ومئات الكاميرات الذكية.

تكوين معرفة عن "الآخر" يكتسي أبعاداً كثيرة في السياق الاستعماري، أحدها أن المستعمِر بذاته يركّب هويته وينشئها على أساس ما يكوّنه من معرفة عن هذا الآخر. كما أن هذه المعرفة بذاتها تصبح أداة تطويع في يد المستعمِر ضد الشعب المستعمَر ويكرّس شكلاً محدداً من ديناميكيات القوة يحرص على الحفاظ عليه. فسلب المستعمَر من خصوصيته يعني سلبه الوكالة على نفسه وقراراته وتطلعاته وحتى أفكاره.
وهكذا، عن طريق المراقبة ووعي المستعمَر أنه تحت المراقبة، يبدأ الإنسان تكوين هوية جديدة تتوافق وحالة المراقبة الدائمة التي يرزح تحتها. ذلك ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كثير من كتاباته ليشرح كيف تتمكن الحكومات من ضبط السكان وتهذيبهم بإنشاء نظام مراقبة أساسه أن يستبطن الإنسان أنه تحت المراقبة المستمرة وإن لم يكن كذلك، وهكذا يضطر الإنسان إلى الانصياع للقوانين بناء على احتمالية أنه تحت المراقبة، لنصل في نهاية الأمر إلى إنسان منضبط ومطيع. هذا التصميم "المثالي" للمراقبة يوظف مشاعر الخوف لدى الإنسان، ولكن العطل في هذا التصميم هو أنه يصبح غير مجد عندما يوظَّف على إنسان صاحب عقيدة راسخة تؤسس لإنسان لا يخاف إلا من خالقه.
أما الوجه الثاني لاستخدام تلك المعرفة الناتجة عن التجسس والمراقبة، فهو إنتاج مزيد من المعرفة التي تكرس ما يريده الاحتلال من خطاب وسرديات عن الشعب المستعمَر أولا، وعن نفسه ثانيا. بالنسبة إلى الاحتلال فإن قطاع غزة (والجسد الفلسطيني أينما حل عموما) هو مختبر تجارب، إذ تعطي المراقبة المستمرة والعميقة لسكان القطاع فرصة فريدة لصانع المعرفة الإسرائيلي كي ينتج معرفة أقرب ما تكون إلى الواقع من دون الحاجة إلى الوجود في ذلك الواقع (الميدان) أساساً.
اقرؤوا المزيد: أسياد في الأرض: تكنولوجيا المقاومة التوحيدية
يستخلص الاحتلال معرفته من مراقبة الفلسطينيين في غزة، والتي تشكل المادة الخام لمعارفه الأخرى، وحتى تصبح هذه المعرفة ذات قيمة عليها أن تمر في دورة إنتاجية تبدأ عند الأكاديميين الذين يتلقفون المعلومات ويحللونها بالشكل الذي يخدم حصراً أجندات الاحتلال ومشاريعه ونظرياته في شتى الميادين والحقول المعرفية كالأمن ومكافحة التمرد ومكافحة الشغب ومحاربة العنف، وغيرها من مشتقات "مكافحة الإرهاب" الذي يشغل الخيال الأمني الغربي.
هذه النظريات والسرديات لا تتوقف عند الغرب ومدارسه، بل تجد طريقها إلينا نحن عن طريق الأكاديميين العرب إما ممن يرى في الأكاديميات الغربية موضوعية ونزاهة مطلقة، وإما بفعل السذاجة. وتبدأ هذه السرديات تترسخ في وعينا وعقولنا باحتلالها شاشات التلفاز ومنصات التواصل الاجتماعي والصحف، وتصبح جزءاً من فهمنا لأنفسنا ووعينا لقضيتنا وللفاعلين في هذه القضية. مثال على تلك السرديات أن حركات المقاومة في فلسطين هي وكيل إيراني، على الرغم من سطحية التوصيف، وما ينم عن غياب فهم حقيقي لعلاقة حركات المقاومة الفلسطينية بمحيطها.
خداع "إسرائيل"
على مدى سنوات أنشأت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مقاربة خاصة للتعامل مع الخطر الذي تمثله حركة حماس تراوح ما بين استخدام القوة العسكرية بشن حروب على القطاع، وتقديم تسهيلات اقتصادية يسميها الإسرائيليون استراتيجية "جز العشب"، وذلك سعياً إلى تقويض أي فرصة للحركة تسعى فيها لبناء قدراتها العسكرية.
وفعلاً، اعتقدت "إسرائيل" أن هذه الخطة نجحت خاصة بعد قرار الحركة الإحجام عن المشاركة في المواجهة التي بادرت بها حركة الجهاد الإسلامي في آب/ أغسطس 2022، واستمرت لثلاثة أيام. ولهذا تراجع خطر حماس على سلم أولويات الأمن الإسرائيلي وتقدّم خطر المقاومة الإسلامية في لبنان، وبدأت "إسرائيل" تروّج سيناريوهات الخطر القادم من الشمال4David Makovsky, “The Collapse of Israel’s Hamas ‘Conceptzia,’” Text, The National Interest (The Center for the National Interest, October 26, 2023), https://nationalinterest.org/feature/collapse-israel%E2%80%99s-hamas-conceptzia-207058..
لا تزال التحليلات تتوالى لتقدم تفسيراً لكيف استطاعت حماس أن تخدع "إسرائيل" على مدى طويل، وتخترق وعيها، وتفرض عليها فهماً خادعاً عن نشاطات الحركة ونواياها، رغم التقدم التقني العالي الذي تتغنى به المؤسستان الأمنية والتقنية، وادعائها التفوق البحثي في شتى مجالات العلوم الاجتماعية.
كان لا بد أن نشرح كل هذه الدورة لنفهم حقيقة التعقيدات الأمنية التي سبقت طوفان الأقصى، وبالتالي نقدّر عمق تداعياتها على عقل "إسرائيل" الدولة وحجم العمل الذي ترتب على حركة حماس القيام به لتصل إلى لحظة السابع من أكتوبر. هناك هموم أمنية عدة بالنسبة إلى كيانات الدولة، قد يكون أقلها أهمية أمنها المادي أي غياب الحرب ووجود السلم.

بالأساس فإن أحد أشكال بناء هويات الدول، يكون عن طريق بناء هوية "للآخر"، والخطر الذي يمثله هذا "الآخر" عليها. والأمن هو انعكاس للخوف من الآخر، والهوية تُبنى على أساس ما تستثمره مؤسسات الدولة في ذلك الخوف. عندما تتحكم الدولة في السردية التي تنتجها عن نفسها والسردية التي تنتجها عن "الآخر"، تصبح قادرة على إنتاج سيناريوهات تسمح لها بتصور الخطر الذي قد يقع. إذ إن جوهر الأمن هو القدرة على تخيّل الخطر المحتمَل في المستقبل والعمل على تنفيذ إجراءات تمنع حدوثه. وكلما كانت المخيلة الأمنية للدولة قادرة على إنتاج سيناريوهات أخطر صارت أكثر أمنا5Brian Massumi, “The Future Birth of the Affective Fact,” in Ontopower: War, Powers, and the State of Perception (Duke University Press, 2015), https://read.dukeupress.edu/books/book/134/chapter/104213/The-Future-Birth-of-the-Affective-Fact..
أما بالنسبة إلى الدول، فوجود الخوف شيء محمود، ويمكن التحكم فيه6Joseph Masco, The Theater of Operations (Durham & London: Duke University Press, 2014). لا بل هو ضروري لأنه يؤمن للدولة سردية اللحمة الاجتماعية والهوية المشتركة والجامعة7David Campbell, Writing Security: United States Foreign Policy and the Politics of Identity (U of Minnesota Press, 1992).. ما ليس جيداً للدول هو القلق الناجم عن خطر لم تكن تتوقع حدوثه، لأن ذلك يعني أنها ببساطة فشلت في حماية نفسها ليس من الخطر المادي فحسب، بل من الخطر على كينونتها وهويتها وفهمها لذاتها ولمن هو عدوّها. فما بالك بدولة نشأت على أساس أنها هي "جنة الأمن لليهودي" وبناء على هذا تشكلت الهوية لليهودي الجديد الذي أصبح قادراً على حماية نفسه من كل وأي خطر!
اقرؤوا المزيد: ماذا يقول لنا السابع من أكتوبر؟
إن ما فعله طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر أدى على أقل تقدير إلى اهتزاز ثقة "إسرائيل" بنفسها، ولهذا مثلاً سارعت الحكومة الإسرائيلية وعلى غير عادتها إلى الحديث بشكل درامي، وعبر عدد من المقابلات التي أجراها مخبرو الموساد مع محطات أجنبية، ليستعرضوا كيف تمكنوا من اختراق أجهزة البيجر لمقاتلي حزب الله في لبنان.
طوفان الوعي
الأمن ليس مجرد إجراءات تنفيذية نراها على أرض الواقع، هذه الإجراءات التي نصطدم بها ونتعامل معها هي بالأساس انعكاس لأفكار وهواجس وسيناريوهات مكانها العقل، أما الإجراءات فما هي إلا انعكاس لها. السبب في حالة الصدمة التي تعيشها "إسرائيل" الدولة ليس في نجاح طوفان الأقصى، بل كيف تمكنت حماس من إنجاحه، وحتى الآن لا تعرف "إسرائيل" ذلك.
إذ لم تخترق حماس أنظمة التجسس والمراقبة الإسرائيلية فحسب، بل اخترقت العقل الإسرائيلي بحد ذاته والدورة الإسرائيلية لإنتاج المعلومة، وأحالت مقاربات التحكم والتأثير التي كانت على مدى سنوات طويلة تطبقها على سكان قطاع غزة سلاحاً على "إسرائيل". ولسنوات عديدة اعتقدت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أنها ثبتت معادلة ردع ذات شكل واضح مع حركة حماس في قطاع غزة مبنية على الهدوء المتقطع، وهنا علينا أن ننتبه إلى أن "إسرائيل" بعد طوفان الأقصى لم تعد صياغة علاقتها مع "خطر حماس" فقط، بل علاقتها مع كل محيطها، فهاجمت حزب الله في لبنان بشراسة، رغم أن حزب الله كرر مرات عديدة عدم رغبته الدخول في حرب واسعة مع الاحتلال الإسرائيلي.
كذلك تتعامل "إسرائيل" مع الضفة الغربية، فصعّدت بعد طوفان الأقصى وتيرة اجتثاثها للمقاومة، وقد أصبحت ترى فيها خطراً أكبر يهددها، إذ إنه حتى شهر آب/ أغسطس 2023 رصد الاحتلال خلال ثلاثة أشهر، سبع محاولات لإطلاق صواريخ من الضفة نحو المستوطنات المحاذية لمدينة جنين8Emanuel Fabian, “Palestinians in West Bank Try to Fire Rocket at Israeli Town, for 7th Time in Months,” News, Times of Israel, September 10, 2023, https://www.timesofisrael.com/palestinians-in-west-bank-try-to-fire-rocket-at-israeli-town-for-7th-time-in-months/.. ليعلن بدء عملية عسكرية جديدة على الضفة الغربية في آب/ أغسطس 2024 بعد أن أعلنت المقاومة الفلسطينية عودة العمليات الاستشهادية إلى الواجهة. وفي كانون الثاني/ يناير 2025، استأنف جيش الاحتلال عملياته في مخيمات شمال الضفة، بعملية جديدة باسم "السور الحديدي"، مستغلاً اتفاق الهدنة مع غزة.
اقرؤوا المزيد: معركة الطوفان الغائبة.. من يملأ الفراغ الفكري والسياسي؟
اختلف رد الفعل الإسرائيلي بعد الطوفان عما قبله، ليس لأن العمليات الاستشهادية أخطر من الصواريخ (حتى وإن كانت بدائية الصنع)، بل لأنها تشي بمخطط أكبر، إذا ما تركت الأمور على ما هي عليه، مما يسمح بتكرار مشهد السابع من أكتوبر في الضفة. لذلك، ينفذ الاحتلال اليوم عملية لاستئصال الحالة النضالية من المخيمات بشكل كامل ومحاولة القضاء عليها.
الأحداث الكبيرة لا تنتهي بوقوع الفعل، بل إنها تمثل جسراً بين الماضي والمستقبل، والأفعال الثورية لا تعطي المستضعَف لحظة ثمينة يحرر بها تاريخه وحسب، بل إنها اللحظة التي يتحكم بها في مستقبله ويفرض بها سيطرته على مستقبل عدوّه. من السذاجة اعتقاد أن لحظة 7 أكتوبر انتهت، أو أنها ستنتهي عما قريب، ومن المهم أن نبدأ مبكرا فهم ارتدادات عملية طوفان الأقصى خارج السياق المادي، بل على مستوى الوعي الإسرائيلي، لأنها ما سيؤسس لشكل المرحلة القادمة لنضالنا ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ما ارتكبته آلة الحرب الإسرائيلية من جرائم في قطاع غزة لا يمكن تجاوزه، لكن هذه الحرب ليست حرباً مادية فقط، بل تتجاوز الرصاص والحديد، هي في الحقيقة حرب وعي، وليس غريباً أن أبو عبيدة وصفها في كلمته الأخيرة بـ "طوفان الوعي"، والأمر لا يتعلق ببيئة المقاومة ومناصريها، وتمدد الفكر المقاوم على امتداد العالم العربي، بل إن الأمر هذه المرة يتعلق بـ "إسرائيل" نفسها وهويتها والطريقة الجديدة التي سيجب عليها ابتداعها للتفكير في مستقبلها. هذه العملية امتداد أصيل لقول الأسير محمود العارضة إن "إسرائيل وهم من غبار".