21 أكتوبر 2025

كيف تعيد "إسرائيل" رسم الجنوب السوري؟

كيف تعيد "إسرائيل" رسم الجنوب السوري؟

كان سقوطُ نظام بشار الأسد حدثاً تاريخياً أشعل موجات من الابتهاج في أوساط واسعة في العالم، غير أنّ التصفيق الإسرائيلي كان الأشدّ حماسة. إذ سارعت "إسرائيل" إلى الاحتفاء بهذا الحدث على طريقتها الخاصة: أعلنت إلغاء اتفاقية فضّ الاشتباك الموقّعة عام 1974، وأطلقت عملية عسكرية واسعة أسمتها "سهم باشان" استهدفت مواقع الجيش السوري وبنيته الدفاعية، ثمّ ألمحت إلى رغبتها في فتح مسار تطبيع مع النظام الجديد في دمشق.

إلا أنّ المتابع للسياسة الإسرائيلية في الساحة السورية يجد نفسه أمام مشهدٍ مختلط: تصريحات عن السلام، وغارات على مقرّ هيئة الأركان، وعمليات إنزال نوعية في أطراف العاصمة. هذا التناقض يثير سؤالاً جوهرياً: ما الذي تريده "إسرائيل" فعلاً من سوريا الجديدة؟

ينطلق المقال من فرضية أنّ الرؤية الإسرائيلية تجاه سوريا تقوم على محورين مترابطين ومتكاملين: الأول يتمثل في الإخضاع والسيطرة، بحيث تعمل "إسرائيل" على إبقاء الساحة السورية في حالة من العجز والشلل البنيوي، بما يضمن عدم إنتاج أي مقاومة أو تكرار لتجربة الجنوب اللبناني، أو حتى إقامة نظام سياسي قوي ومستقر. أما المحور الآخر فيرتبط بالتوسع الاستيطاني، إذ تسعى "إسرائيل" إلى استثمار حالة الوهن السوري في إطار مشروعها الأوسع لما يُعرف بـ "إسرائيل الكبرى"، عبر تكريس حضور استيطاني واستراتيجي يخدم أهدافها بعيدة المدى.

وبذلك يمكن القول إنّ المقاربة الإسرائيلية تجاه سوريا ليست مجرد موقف مرحلي، بل هي جزء من صيرورة متكاملة تستهدف إعادة تشكيل الحيّز السوري بما ينسجم مع رؤية المشروع الصهيوني الإقليمي، وكل ذلك لن يكون من دون الضوء الأخضر من الولايات المتحدة الأميركية.

"إسرائيل".. بين التصعيد والحسابات الباردة

تُظهر التجربة السورية كيف تعيد "إسرائيل" صياغة سياساتها تجاه خصومها. فبعد سقوط نظام الأسد، لم يكن ثمّة تحوّل إسرائيلي من الحرب إلى الدبلوماسية بقدر ما كان إدماجاً متدرجاً للأدوات العسكرية والسياسية في مسار واحد.

في البداية تبنّت "إسرائيل" نهجاً هجومياً مباشراً، تمثّل في شنّ غارات متكررة على مواقع الجيش السوري ومقدراته، بالتوازي مع توسيع انتشارها العسكري في الجنوب السوري وفرض وقائع ميدانية جديدة. غير أنّ الهدف لم يكن إسقاط النظام السوري الناشئ آنذاك، بل كان يتمحور حول تكريس واقع على الأرض ينطلق من منطق استعماري راسخ، يقوم على فكرة أن ما يُفرض مؤقتاً سرعان ما يتحول إلى دائم بحكم القوة والوقت.

وبمرور الوقت عززت "إسرائيل" حضورها في الجنوب السوري من خلال نقاط مراقبة متقدمة وقواعد لوجستية واستخباراتية، ما يشير إلى مشروع طويل الأمد لإعادة تشكيل الخريطة والسيادة في تلك المنطقة. وهنا يصبح المسار الدبلوماسي، وفكرة إدماج سوريا في مسار اتفاقيات أبراهام، لا سيما بعد زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الرياض ولقائه الرئيس السوري، مجرد غطاء سياسي يعزز شرعية الهيمنة الميدانية، لا بديلاً عنها.

اقرؤوا المزيد: الجنوب السوري: "عم نطرق جدران الخزان، هل من أحد؟"

بعد السابع من أكتوبر، دخلت "إسرائيل" مرحلة جديدة في مقاربتها الإقليمية. هذه اللحظة لم تكن حدثاً عابراً، بل نقطة انطلاق لرفع سقف اندفاعها العسكري والسياسي معاً. فبينما مثّل سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024 منعطفاً مهماً، كان الأثر الأعمق لما بعد 7 أكتوبر، حين استثمرت "إسرائيل" حالة الانشغال الدولي لتسريع توغلاتها وبناء واقع جديد في الجنوب السوري.

وعليه، فإنّ الحديث عن تحول استراتيجي في نظرة "إسرائيل" إلى سوريا يبدو مضللاً. فجوهر المشروع الإسرائيلي لم يتغير: توسع وسيطرة وإعادة هندسة للواقع السوري بما يخدم مصالحه. ما تغيّر هو الأدوات؛ إذ أُضيفت القنوات الدبلوماسية كواجهة، بينما ظل الأساس عسكرياً توسعياً.

الدروز.. أزمة جديدة في المشهد السوري

لم تتشكل محاولات نسج الروابط بين "إسرائيل" والدروز فجأة، بل تمتد إلى سنوات مضت حين فتحت "إسرائيل" قنوات إنسانية واقتصادية مع المجتمع الدرزي السوري. فبين عامي 2016 و2018، أطلقت "إسرائيل" مشروع "حسن الجوار" كما أسمته، وأرسلت آلاف الحزم الغذائية والمواد الطبية إلى السويداء وقراها، بالتنسيق مع شخصيات درزية داخل "إسرائيل".

ومع بداية عام 2025، انتقلت "إسرائيل" إلى مرحلة أخرى، بدأت بمحاولة تشغيل العمالة الدرزية السورية في قطاعات الزراعة والبناء داخل "إسرائيل"، وهو المشروع الذي لم يكتمل بسبب احتجاج المنظومة الأمنية الإسرائيلية. وفي آذار/ مارس من العام ذاته، فُتحت أبواب مقام النبي شعيب أمام وفود درزية سورية، في خطوة رمزية كبرى أعادت إلى الذاكرة زيارات دروز لبنان في الثمانينيات، وحاولت "إسرائيل" من خلالها ترسيخ صورتها حاميةً للأقليات الدينية.

وقد برزت صورة الصراع بشكل أوضح خلال أحداث السويداء بين 13 و17 تموز/ يوليو 2025، حين شهدت المحافظة ذات الغالبية الدرزية مواجهة مفتوحة بالرغم من تشكيل الحكومة السورية الجديدة. إذ رفضت بعض القيادات الروحية، وعلى رأسها الشيخ حكمت الهجري، الاعتراف بالحكومة، معتبرةً إياها مشروعاً خارجياً يهدد وحدة البلاد، وحظي هذا الموقف بدعم فصائل محلية.

اقرؤوا المزيد: كيف بدأت "إسرائيل" تقسيم سوريا؟

وبلغ التوتر ذروته عندما اندلعت مواجهات عنيفة إثر حادثة اعتداء على طريق دمشق - السويداء، سرعان ما تطورت إلى حرب مفتوحة بين القوات الحكومية والعشائر البدوية من جهة، والفصائل الدرزية من جهة أخرى، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى من المدنيين والمقاتلين.

وسط هذا التصعيد، دخلت "إسرائيل" على الخط عسكرياً، فنفّذت غارات جوية استهدفت مواقع عسكرية سورية في محيط دمشق وجنوب البلاد، بدعوى أنّ النظام تجاوز "الخطوط الحمراء" بمحاولته إعادة فرض سيطرته على السويداء. غير أنّ القرار حمل بعداً استراتيجياً أعمق، تمثّل في معاقبة دمشق ومنعها من تثبيت حضورها في الجنوب.

وقد تناولت مراكز الفكر الإسرائيلية هذه التطورات بقلق بالغ. فمركز "القدس للاستراتيجيا والأمن"، وهو معهد أبحاث سياساتية في مجالات الأمن الخارجي والدفاع يعمل على تقديم المشورة لصناع القرار الإسرائيلي، شبّه أحداث السويداء بعملية السابع من أكتوبر، من حيث الاختراق السريع بأدوات بسيطة، وسوء تقدير الأجهزة الأمنية لنوايا الخصوم، والفشل الاستخباري في رصد مؤشرات الخطر المبكر.

على المدى البعيد، تبدو مغازلة "إسرائيل" للدروز جزءاً من مشروع استراتيجي يتجاوز البعد الإنساني المعلن، في نهاية المطاف، إلى إقامة منطقة حكم ذاتي درزية في جنوب سوريا. وإذا ما تحقق ذلك، فستشكّل هذه المنطقة حزاماً أمنياً متقدماً يحمي الحدود الإسرائيلية، ويعيد رسم موازين القوى في بلد أنهكته الانقسامات والحروب الداخلية.

تطبيع سياسي أم ترتيبات أمنية؟

أثار اللقاء غير المسبوق الذي جمع وزير الخارجية السوري بنظيره الإسرائيلي للشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، في باريس، برعاية المبعوث الأميركي توم برّاك، جدلاً واسعاً في الأوساط الإعلامية والسياسية. فقد سارعت الصحف الإسرائيلية إلى الترويج لاحتمال اقتراب لحظة تطبيع تاريخي بين دمشق و"تل أبيب"، غير أنّ ما دار خلف الكواليس أظهر تبايناً جوهرياً في الأهداف والتصورات.

من الجانب الإسرائيلي، ينصبّ التركيز على ترسيخ قواعد اشتباك جديدة شمالاً تضمن استمرار حرية العمل العسكري، وتمنع أي قيود على الضربات الاستباقية. ولذا، ترفض "تل أبيب" العودة إلى اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، مفضّلة الإبقاء على الوضع الراهن الذي يمنحها هامش مناورة واسعاً من دون التزامات سياسية جديدة.

أما دمشق، فترى في أي اتفاق محتمل فرصة سياسية يمكن أن تفتح الباب أمام انسحابات إسرائيلية تدريجية من الجولان، وترتيب ملفات اقتصادية وأمنية حساسة، إلا أنّ هشاشة النظام الجديد تجعل من هذه الخطوة سيفاً ذا حدين قد يتحول إلى عبء داخلي يقوّض استقراره.

وفي هذا السياق، صرّح أحمد الشرع في أيلول/ سبتمبر 2025 بأنّه في حال التوصل إلى اتفاق، يمكن مناقشة موضوع الجولان مستقبلاً، ولكن بصيغة مشروطة وليس كجزء من الاتفاق الحالي أو من دون شروط.

اقرؤوا المزيد: شباب سوريا.. من صيدنايا إلى سجون "إسرائيل"

وبينما تتمسك المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بالوضع الراهن لضمان حرية الحركة العسكرية، أشارت بعض الأوساط البحثية، مثل معهد "ميتفيم"، إلى أنّ السياسة الإسرائيلية في الساحة السورية تعاني من غياب رؤية استراتيجية شاملة، إذ تكتفي المؤسسة الأمنية بالتمسك بالوضع القائم، دون الانخراط في صياغة تصور بعيد المدى لإعادة ترتيب المشهد.

ويستند المعهد في موقفه هذا إلى ملاحظة أنّ القوى الإقليمية والدولية الكبرى - مثل روسيا وتركيا والإمارات والسعودية - هي التي تدير عملياً ملف إعادة تشكيل النظام السوري، في حين تظل "إسرائيل" غائبة عن النقاشات الجوهرية المتعلقة بمستقبل البلاد. هذا الغياب، بحسب المعهد، يعكس اعتماداً مفرطاً على المقاربة العسكرية التي تقتصر على الضربات الجوية واستهداف البنية التحتية العسكرية، دون أي رافعة سياسية أو دبلوماسية تعزز موقع "إسرائيل" في التسويات المقبلة.

ويؤكد المعهد أنّ الدليل الأوضح على قصور النهج الإسرائيلي هو الفجوة بين النجاحات التكتيكية التي تحققها "إسرائيل" عسكرياً، وعجزها عن تحويل تلك النجاحات إلى نفوذ سياسي ملموس. ففي الوقت الذي حصدت فيه الإمارات امتيازات استراتيجية مثل إدارة ميناء طرطوس، وانخرطت السعودية وتركيا في مشاريع إعادة الإعمار وإعادة تشكيل موازين القوى، ظلت "إسرائيل" محصورة في إطار القوة المانعة، لا الفاعلة. ومن هنا يستنتج المعهد أنّ "إسرائيل"، باكتفائها بالحلول العسكرية وغيابها عن مسارات البناء وإعادة الإعمار، تكرّس صورة العزلة الإقليمية وتفقد القدرة على التأثير في مخرجات النظام السوري الجديد.

في العمق، تكشف المقاربة الإسرائيلية عن أهداف تتجاوز الحسابات الأمنية المباشرة. فالحقيقة أنّ "تل أبيب" تعمل على إعادة هندسة الجغرافيا السورية نحو كيانات حكم ذاتي، يتصدّرها مشروع إقامة منطقة درزية جنوبية تتحول إلى حزام أمني يقيّد النفوذ الإيراني ويوفّر لـ "إسرائيل" عمقاً استراتيجياً.

ويتداخل هذا المشروع مع أهداف أخرى تشمل ترسيخ السيطرة على الجولان، وتوسيع الاستيطان، وربط الجنوب السوري بامتدادات داخل لبنان، واستثمار الروابط العائلية والدينية مع دروز فلسطين لتعزيز مكاسب سياسية داخلية، مع استغلال الانقسامات الطائفية لإضعاف الدولة المركزية.

في هذا السياق، قدّمت "إسرائيل" مقترحاً لتقسيم الجنوب السوري إلى أربع مناطق أمنية: شريط تحت سيطرتها المباشرة، منطقة فصل برعاية دولية، نطاق منزوع السلاح، ومنطقة حظر جوي تمتد حتى مشارف دمشق. وبموجب هذه الصيغة، تلتزم دمشق بمنع أي هجمات على "إسرائيل"، مقابل انسحابات محدودة مع بقاء مواقع متقدمة في جبل الشيخ وتأجيل ملف الجولان.

وتكشف هذه الترتيبات عن محاولة لإعادة صياغة الجنوب السوري بطريقة تقيّد السيادة الوطنية وتمنح "إسرائيل" نفوذاً طويل الأمد، يشبه ما فرضته اتفاقيات "كامب ديفيد"، لكن من دون استعادة الأراضي المحتلة.

غير أنّ هذه الطروحات تثير تحديات؛ إذ تعني تكريس نفوذ إسرائيلي واسع في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، وفتح الباب أمام تدخل مباشر في الشأن السوري الداخلي بذرائع أمنية أو طائفية. كما وضعت الحكومة الانتقالية السورية في مأزق صعب، فهي تفتقر إلى شرعية دستورية أو تفويض شعبي يخوّلها توقيع اتفاق بهذا الحجم. وقبولها بمثل هذه الصيغة سيضعف مصداقيتها ويهدد وحدة البلاد، خاصة في ظل استطلاعات تشير إلى رفض غالبية السوريين الاعتراف بـ "إسرائيل" أو قبول أي اتفاق لا يضمن استعادة الجولان.

ختاماً، على المدى الأبعد، فإنّ نجاح "إسرائيل" في فرض هذه المعادلة قد يشجع قوى إقليمية ودولية أخرى على المطالبة بترتيبات مشابهة، بما يفتح الباب أمام تفكيك سوريا إلى مناطق نفوذ متصارعة. وبذلك يصبح المقترح الإسرائيلي لتشكيل منطقة عازلة في الجنوب تهديداً مباشراً لوحدة الدولة وسيادتها، إذ يستغل هشاشة المرحلة الانتقالية لفرض أمر واقع يخدم مصالح "إسرائيل".