4 أبريل 2021

كيف أصبح تغيير صورة "البروفايل" عملاً سياسياً؟

كيف أصبح تغيير صورة "البروفايل" عملاً سياسياً؟

كُلّنا سواسية كأسنان المِشط في حَقنا بالمشاركة السياسيّة على وسائل التواصل الاجتماعي لأي حَدثٍ يُغضبنا، أو نود التعبير عن تَضامُننا أو موقفنا تجاهه. تَتّسع بذلك رُقعة النشاط السياسيّ الرقميّ1هو أي فعل سياسي حاصل على شبكة الإنترنت أو/ومواقع التواصل الاجتماعي. والشرائح المُنخرطة في تَعبيرها ونشاطها السياسيّ، وتَغدو الديمقراطية السياسيّة مَنالية الجميع. ما نحتاجُه فقط هو حِساب لإحدى مَنصات وسائل التواصل، ورأي ما للكِتابة، أي رأي، دون تدقيق لُغويّ أو مَضامينيّ، لا يِهُم. أو المُشاركة بصورة أو فيديو مثلاً لاستقطابٍ جماهيريّ أعلى وحَصد عَدد أكبر من اللايكات ورَفع رصيدنا الرقميّ. 

يَبدو لنا الأمر بهذه البساطة، لكن مع دخول النشاط السياسيّ كل هذه المساحات الرقميّة، ثمّة اعتبارات ومَحاذير عديدة استجدّت، غيّرت من مَفهوم النشاط السياسيّ وأخضعته لقوانين اللّعِب الجديدة. أفضى ذلك  إلى تعالي أصواتٍ كثيرة تنتقد وتُشكّك في فاعلية الحراك السياسي والاجتماعي الافتراضيّ.

على حَد تعبير أوبراين: "يُمكن أن نقول مُنذ الآن إننا دخلنا عَصراً جَديداً مِن النِضال، وُلِدَ مِنْ، ويُعبِّر عن نَفسِه ويَعمل مِن خِلال مَنظومة مُجتمعيّة مُتشابكة إلكترونياً". على الرُغم من أنه لم يَسبق لأي جيل من قَبلنا التمتع بمنالية عالية نسبياً للتكنولوجيا، إلا أننا لم نستطع تحقيق ما حقّقته ثورات وحركات ثورية سابقة. بالتأكيد هناك أسباب بنيويّة حالت دون نجاح الكثير مِن حراكات الألفية. إذاً ما الخلل؟ هل تزوّدنا وسائل التواصل، "فيسبوك" على وجه التحديد، بما يلزم من أدوات مُساندة للعمل، كما يَدّعي، أم يُعرقلنا عمّا يَلزمُ فِعله في الشوارع والميادين الفعليّة لا الافتراضيّة؟

عن أي عمل سياسيّ رقميّ نتحدث؟

صُمِمت شبكات التواصل الاجتماعيّ بدهاءٍ شديدٍ من قِبل مُبرمجين ورجال أعمال لخلق فضاءٍ رقميّ مُكتظ بروابط تواصلٍ ضعيفة غير مُتماسكة، كما تُفيدنا نظريّة قوّة الروابط الضعيفة لعالم الاجتماع مارك جرانوفيتر Mark Granovetter في تحليل هندسة الشبكات الاجتماعيّة. تقول هذه النظرية إنّّ العلاقات الاجتماعيّة التي تتسم بندرة الاتصال المباشر، وضعف القرب العاطفيّ والثقة، وانعدام تاريخٍ من الخدمات المتبادلة، هي فعليّاً أقوى وأقدر على نشر المعلومات وإيجاد فرص عمل للأفراد، وذلك بالمقارنة مع الروابط القوية كعلاقات الأصدقاء والعائلة. وعليه، تتغذى وتكبُر شبكات السوشيال ميديا على هندسة علاقاتنا من خلال نسيجٍ اجتماعيّ ضعيف الترابط، وسريع الانتشار، ومُستهلك، لماذا؟

إنّه الربح2بلغت إيرادات شركة فيسبوك لعام 2019 حوالي 70.7 مليار دولار أميركي. 70.7 مليار دولار أميركي هي إيرادات شركة "فيسبوك" لعام 2019، وذلك من خلال التسويق الرقميّ من خلال بيع بيانات ملياريّ مستخدم لشركات ودول، وأجهزة استخباراتية. تخيلّوا معيّ شَكل نشاطنا السياسيّ في مُجمّع تجاري رِبحيّ ضخم، مُضحك!

لذا تُضفي الروابط الضعيفة على العمل السياسيّ الرقميّ ضعفه، ليُصاغ في ثنايا هذه الشبكة الضعيفة أسلوبٌ جديد من النشاط السياسيّ، أكثر أماناً مثل المُناصرة باللايكات، والضغط الجماهيري الفيسبوكي، والاحتجاج الرقميّ "بالهاشتاغات"، وأقل تكلفة بالتأكيد، وذو خيارات أكثر للاستهلاك، وهو ما يُعرف بالنشاط السياسيّ الكسول Slacktivism.

ولسهولة تناول الوجبات السياسيّة رقميّاً لِمن يشاء، أصبح فيسبوك مَصدراً للفوضى والتشتت، أو ما سُمي بالتعدديّة الفوضويّة Chaotic Pluralism، التي توضّح كيف تتشرذم الجهودُ وتختلف الآراء والوجهات السياسيّة بشكلٍ فوضويّ لا بَنّاء على هذه المنصات. ساعد ذلك في تعظيم أي مشاركات سياسيّة سطحيّة لِتُصبح الأفعال الصغيرة في المُشاركة السياسية مثل الإعجاب بقولٍ سياسيّ لمؤثر فيسبوكيّ عتيد، أو الموافقة على المشاركة في مسيرة أو وقفة احتجاجية، أو استخدام "هاشتاغ" ثوري، أو توقيع عريضة لوقف الاستيطان الإسرائيلي، أو تغيير صورة البروفايل الشخصية مع عبارة في أسفلها تقول "معاً لإنهاء الاحتلال" لها صّولاتها وجولاتها كأفعال سياسية حقيقية.

اقرؤوا أيضاً: "نشاطيّة الوسوم: نزع السّحر عن منصات التواصل الاجتماعيّ"

وهو ما فسّره الصحفي والكاتب مالكوم جلادويل Malcolm Gladwell في نقده لميوعة العمل السياسيّ التقليدي بقوله إنّ "النشاط الفيسبوكي السياسيّ لا ينجح من خلال تحفيز الناس على تقديم تضحية حقيقية، بل من خلال تحفيزهم على فعل الأشياء التي يفعلها الناس عندما لا يكون لديهم الدافع الكافي لتقديم تضحية حقيقية". لدعم مقولته، رصد جلادويل فاعلية صفحة فيسبوك الرسمية لتحالف إنقاذ الإبادة الجماعية والتطهير العرقيّ في إقليم دارفور في السودان، ووجد أنّ متوسّط تبرع 1,282,339 مشتركاً على الصفحة كان تسع سنتاتٍ أميركيّة فقط. وذلك لأنّ الشبكة لا تُفكّر بشكلٍ استراتيجي، ولا تسمح لك بذلك. أدواتها مَحفوفة بالآنية، والفردانية، والتحديثات المُستمرة في آليات مُراقبة المحتوى لصالح رؤوس الأموال وأصحاب السلطة، لا لصالحنا نحن.

مُعضلة اللاتنظيم، واللاسرية، ومَقتل التماثل

في أبسط أشكاله، يحتاج النشاط السياسيّ الجادّ إلى رؤية استراتيجية واضحة، وتنظيم في آليات العمل، وحشد جماهيري ما بين فئات مُجتمعية مُختلفة. لكن الصّادم هو أن فيسبوك لا ينحصر دوره فقط على عَدم مُساندتنا في كل ما سَبق، بل إنّه مُصَمّمٌ ليعمل ضدّ الآليات التقليدية في النشاط السياسيّ، لتُضاف على النشاط الرقميّ مُيوعة وضجيج رقميّ أكبر، وفيما يلي أبرز سمات النشاط السياسي الرقمي التي تساهم في ذلك.

أوّلاً، مُعضلة اللّاتنظيم. في فلسطين، وفي دِراسة تَتبعت الحراكات والمجموعات الشبابية الناشئة ما بين 2011-2018، مثل "حراك 15 آذار" (إنهاء الانقسام)، و"فلسطينيون من أجل الكرامة"، وغيرها، أظهرت مبالغتهم في الاعتماد على وسائل التواصل مقارنة بالبنيّة التنظيمية والعمل في الشارع الفلسطيني. عدا عن تعظيم مِحورية وسائل التواصل في الحَشد والتَجمهُر، أظهرت نتائج دراسة أخرى، تمت فيها مُقابلة أربعين ناشطاً وناشطة من حراكات 15 آذار (إنهاء الانقسام)، وغيرها، الدور السلبيّ الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي آنذاك. فمِن جهة كَشفت الدِراسة عن مُعضلة الرقابة الرقميّة التي ساهمت في اعتقال العديد من الناشطين والناشطات من قِبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية فَور الدعوة للمشاركة في الحراك عبر فيسبوك. ومن جهة أخرى أشارت تلك الدراسة إلى انخراط الأجهزة الأمنية في خلق حالة بلبلة على "فيسبوك" من خلال التشكيك في نوايا نشطاء وناشطات الحراكات الناشئة، والتشهير بهم والذم بأخلاقهم، ولا سيّما الفتيات. ترافق ذلك مع تهديد بعض النشطاء والناشطات بالمزيد من الضغط والتشهير في حال مواصلتهم التظاهر.

اقرؤوا أيضاً: "ما الداعي للاحتجاج؟"

ثانياً، مُعضلة اللّاسرّية. بات التعاون القائم بين أجهزة الأمن الإسرائيلية وبين الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعيّ، وبالأخصّ فيسبوك وتويتر، حقيقةً واضحة، ويُساهم هذا التعاون بشكلٍ واضح في تقويض الحريّات وقمع الناس. فعّلت "إسرائيل" عام 2015 وحدة إلكترونية تُدعى Cyber Unit لتُراقب المُحتوى الفلسطيني، وتَحذف أي مُحتوى مُباشرةً، وتُراقب حسابات الفلسطينيين الرقميّة، وتعتقلهم أيضاً. مثلاً، خلال عام 2016 اعتُقل أكثر من 400 فلسطينيّ بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل. 

يَجعل ذلك التجسَُسَ والرقابة الرقميّة أكثر خطورة من أساليب التجسُس التقليديّة. بمجرد استخدامك جهازاً ذكيّاً تُصبح مراقَباً، ومُتعَقّباً طوال الوقت، وتُزود باستمرار أجهزةٌ استخباراتية بِكُل تَحرُكاتِك، ورأيك، وانفعالاتك، وأحاديثك مع الآخرين. وعلى الرغم مِن أن 65% مِن الشباب الفلسطينيّ يعتقد أن المشاركة السياسيّة عِبر الإنترنت يُمكن أن تُؤثِّر على صُنّاع القرار؛ فإن ثلثيّ الشبابْ الفلسطينيّ لا يشعُر بالأمان للمشاركة السياسيّة عبرَ وسائل التواصل بسبب المخاوف الناتجة من ممارسات السُلطات، سواء الفلسطينية أو الاسرائيلية، أو الضغط والرقابة العائليّة.

ثالثاً، مُعضلة التماثل. تَعمل هندسة خوارزميات فيسبوك على مَلء حساباتنا على وسائل التواصل بكل ما يشبهنا ويروقُ لنا، كإبراز عدد الأصدقاء المُشتركين ما بيننا وبين آخرين لنتواصل معهم، وضَخّ مُحتوى رقميّ على حائطنا الفيسبوكي يتوافق ويُعزز من آرائنا وتوجهاتنا السياسية لحد كبير جداً. نصبح بذلك داخل كانتونات ضيّقة تتشابه في توجهاتها السياسيّة وتتعصّب لها Political Polarization، وهو ما أسماه الناشط والكاتب إيلاي باريزر "فقاعة التصفية" Filter Bubble.

يُدخلنا هذا التشابه الخانق إلى ما يُسمى بغرفة الصَدىecho chamber، حيث لا نِسمع إلا صدى أصواتنا وما يماثلها، وفي هذا التشابه الخادع مَقتل للعمل السياسيّ الفِعلي. وإن كانت التنظيمات السياسيّة التقليديّة تنطوي على إيديولوجيا لربما مُنغلقة، أو فئوية، أو عصبية، لكن عامليّ السُرعة والسَطوة على بياناتنا الشخصيّة يعودان للمعادلة الرقميّة لتزداد الأمور تعقيداً في الاستقطاب والتماثُل. اعترفت شركة كامبريدج أناليتيكا Cambridge Analytica، أن لديها، وبجانب كُل المعلومات الشخصية المُستقاة من فيسبوك، ما يُقارب 5000 نُقطة بيانات عن كُل ناخب تقريباً، تستخدم لتضليله بِشكل شخصيّ، مِن خِلال ملء حسابه "بما يَعتقد" أنه يشبه فِكره ويُماثل سُلوكه. مِن خلال تطبيق هذه الآليات الخفيّة في التضليل الرقميّ، استطاعت الشركة أن تُضلّل فِئة كبيرة مِن الناخبين الذين لم يتخذوا قراراً بعد بشأن مرشحٍ بعينه وتوجّه تفضيلاتهم السياسية.

اقرؤوا أيضاً: "كيف يُقرّر فيسبوك حذف منشورك؟"

هذا لإنّ لهذه الشركات سَطوة رقميّة كبيرة، فمثلاً لمنصّة فيسبوك تأثير على ما يُقارب 2.8 مليار مُستخدم باستخدام خوارزميات وهندسة تكنولوجيّة تُبدع في التضليل والاستقطاب السريع، التي مِن الصعب على البشريّ تَحديها أو مُواكبتها، ويمكنها بذلك لعب دور سياسي مؤثّر.

فلسطين ليست استثناءً

صاغت الهبّات والانتفاضات الفلسطيني منذ بدايات القرن الماضي حتى الآن لدى الفلسطينيّ مفهوم العمل والوعيّ السياسيّ من خلال زرع الفِكر الثوري، وتنظيم آليات النضال والمقاومة، والحشد الجماهيري والتعبئة السياسية، الذي قُدِم في سَبيله شهداء وشهيدات الوطن ونِضالاتٍ جَمّة لا تُعد ولا تُحصى. ولم تعد تلك الحال في العصر النشاط السياسي الرقمي.

في مقالٍ يسردُ فيه خالد فرّاج عن تجربته في الانتفاضة الأولى والمُفارقة الغريبة الحاصلة على العمل السياسيّ اليوم: "وبعد ثلاثين عاماً نكتشف كم تغيرت الأشياء، فالحائط الذي كنا نكتب شعارات الانتفاضة وقرارات قيادتها عليه لم يعد منبراً ووسيلة، وإنما حلّ محله حائط افتراضي في "الفيسبوك"، كما أن المنشور الورقي التحشيدي، أو بيانات قيادة الانتفاضة والأحزاب، لم يعودا أداة متداولة يتعين على من يوزعها أن يتلثم بالكوفية الفلسطينية خشية اعتقاله من طرف سلطات الاحتلال، بل باتت وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر وانستغرام وغيرها) هي البديل، ولم يعد الليل والشوارع والميادين والأحياء والجبال هي الأوقات والأمكنة الأمثل لممارسة الأنشطة الانتفاضة".

إنّ دخولنا عصر العالم الافتراضي، وما لحقه بالضرورة من انسحاب للعمل السياسي إلى المساحات الافتراضية، فتح آفاقاً جديدة إيجابية، إلا أنّه في الوقت ذاته خنق كثيراً من إمكانيات العمل السياسي المؤثّر وفرص التغيير. وما بدأ باعتباره نشاطاً مسانداً للنشاط السياسي، التهم في نهاية المطاف هذا النشاط وطغى عليه موصداً الأقفال على أهم سمات العمل السياسي الجدّي من تنظيم وتواجد بين الناس على الأرض وغيرها.

ولرُبما نَسأل ما العَمل؟ أنُغادر الشَبكة بلا عودة؟ رُبما نعم، ورُبما نَعيّ أكثر لِهيمنة الشَبكات وسطوتها علينا، لنَستمتِع معاً بضجيجٍ رقميٍّ أقل وعَملٍ فِعليٍّ أكبر.