حتى الرابع والعشرين من أغسطس/آب الماضي، شعر النّاس في قطاع غزّة براحةٍ نسبيّة، إذ بدا أن الإجراءات الوقائيّة المُتخذة على المعابر المؤدية إلى القطاع قد آتت أُكلها في منع انتشار فيروس "كورونا"، في الوقت الذي كانت فيه الإصاباتُ تتصاعد في الضفة الغربيّة وأراضي الـ48. بعد ذلك التاريخ، ومنذ تسجيل أول حالة للإصابة داخل القطاع، استبدل بتلك الراحة شعورٌ بالقلق حيال التطورات، خاصّة في ظلّ نظامٍ صحيّ متهالك، وأوضاعٍ اقتصاديّة غير مستقرة.
يحاولُ هذا المقال توصيفَ الحالة الراهنة في قطاع غزّة، فيعرض الحالةَ الوبائيّة، ويُقدم تقديراتٍ للخسائر الاقتصاديّة التي تكبّدَها النّاسُ بسبب الإغلاق الجزئيّ والكليّ الذي فرضته الحكومة هناك.
منحنى يتصاعد..
سجّلت وزارة الصحّة الفلسطينيّة في غزة منذ مارس/آذار وحتى 17 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري ما يقارب 11,532 إصابة بفيروس "كورونا"، منها ما يزيد عن 3500 حالة نشطة، و48 حالة وفاة. اتسمّ منحنى تسجيل الإصابات المكتشفة بالصعود، ففي سبتمبر/أيلول الماضي كان متوسط الإصابات ما يقارب 40 إصابة في اليوم، أما في أكتوبر/ تشرين الأول فقد وصل إلى 140 إصابة اليوم، ثمّ قفز هذا الشهر إلى تسجيل ما يقارب 400 إصابة في اليوم.
بعد اكتشاف الحالة الأولى داخل المجتمع شكّلت حكومةُ غزّة لجنةَ طوارئ استشاريّة وتنفيذيّة من وكلاء ومدراء وزارات الصحّة والداخليّة والاقتصاد والشؤون الاجتماعيّة، لتكون مسؤولةً عن متابعة تطورات الحالة الوبائيّة والتعامل معها. تبعاً لذلك، صدر القرار بفرض إغلاقٍ شاملٍ ومُشدد؛ أُغلِقَت المدارس والجامعات والمساجد والمصانع والشركات، واستُثني العاملون في وزارات الصحّة والداخليّة، وبعض المرافق الحيويّة كالمحال التجاريّة والمخابز والصيدليات. كما جرى تقسيم القطاع إلى 250 وحدة جغرافّية مساحة كلٍّ منها 1 كلم مربع، عُزِلت عن بعضها البعض بمكعباتٍ إسمنتيّةٍ، وفُرِضَ حظرٌ للتجوال يبدأ من الساعة الثامنة مساءً وحتى صباح اليوم التالي.
استمر العمل بهذا البروتوكول الذي وُصِفَ بالمُشدّد حتى نهاية سبتمبر/أيلول. ومع حلول شهر أكتوبر/ تشرين الأول، ورغم استمرار تسجيل الإصابات بوتيرةٍ أسرع من الشهر الأول، شهد القطاع تخفيفاً في إجراءات الإغلاق وإزالةً لبعض القيود. أُعيد تقسيم المناطق إلى 94 وحدة جغرافيّة بدلاً من 250 لتسهيل حركة انتقال الأفراد داخل المناطق المغلقة، وصُنّفت المناطق حسب درجة انتشار الوباء فيها إلى: مناطق خضراء حيث عدد الحالات النشطة حالتان لكل ألف مواطن، ومناطق صفراء حيث عدد الحالات النشطة خمس حالات لكل ألف مواطن، ومناطق حمراء حيث عدد الحالات النشطة أكثر من خمس حالات لكلّ ألف مواطن. ووفقاً لهذا التقسيم اختلف مستوى القيود، فقد سمح مثلاً بحريّة التنقل واستئناف بعض مظاهر النشاط الاقتصاديّ في المناطق الخضراء وعاد فيها التعليم الوجاهيّ لطلبة الثانوية، فيما استمر تقييد الحركة والنشاط الاقتصاديّ بدرجات متفاوتة في بقية المناطق.
وحتى اليوم، ما زال هذا البروتوكول معمولاً به في القطاع، مع بعض التغييرات هنا وهناك، فمثلاً سُمح للمطاعم للعمل من جديد ضمن قيود معينة، وسُمح بدوام طلبة الجامعات بشكلٍ جزئيّ وبالأخصّ طلبة التخصصات التطبيقية، فيما بقيت صالات الأفراح القطاع الوحيد الذي لا يزال مغلقاً منذ بدء الجائحة.
تتغيّر هذه المعطيات كلّما ارتفع عدد المصابين. مثلاً في 15 نوفمبر/تشرين الثاني فرضت الحكومة إغلاقاً للمنشآت التجاريّة بعد الساعة الخامسة مساءً. تزامن ذلك مع السماح بالحجر الصحّي للمُصابين في منازلهم بدلاً من حجرهم في أماكن الحجر المخصصة لذلك بسبب اكتظاظها، ومع توقعات تشير إلى إمكانية فرض إغلاق شامل في القطاع خلال الفترة القادمة.
اقرؤوا المزيد: "حجرٌ منزليّ في المخيّم؟".
إغلاق أم تعايش؟ السؤال الأكثر تكراراً
في الشهرين الأخيرين، ظهر نهجان في التعامل الحكوميّ مع انتشار الفيروس. الأول تدعمه أصواتٌ من وزارة الصحّة تؤكد على ضرورة الإغلاق وعدم تخفيف القيود وبالذات فيما يتعلق بالمدارس والمساجد. يُبرِّرُ أصحاب هذا الاتجاه موقفهم بأن الإمكانات المتوفرة لدى وزارة الصحّة من حيث عدد الأسرّة والطواقم الطبيّة وأجهزة الإنعاش والتنفس الاصطناعيّ لا تكفي للتعامل مع أعداد مرتفعة جداً من المصابين، وبالذات من أصحاب الحالات الحرجة، والذين لم يقتصروا على كبار السّن بل طالوا الفتية كذلك.
عن ذلك يقول الناطق باسم وزارة الصحّة أشرف القدرة أنّ الوزارة تعاني من عجزٍ بنسبة 47% في توّفر أصناف الدواء الرئيسيّة، وعن عجزٍ بنسبة 33% في المُستهلكات الطبيّة، وأنّ 55% من لوازم المختبرات وبنوك الدّم نفذت. في ظلّ هذا الوضع، فإنّ 20% من الإصابات المسجّلة في غزّة، وفقاً للقدرة، تقع ما بين المتوسطة إلى الخطيرة، و30% من القدرة السريرية للمشافي المُخصصّة للتعامل مع "كورونا" في حالة إشغال.
اقرؤوا المزيد: "سيرة استنزاف الصحّة في غزّة".
أما الاتجاه الثاني الذي يُطالب بإزالة قيود الإغلاق والدفع نحو التعايش فتدعمه أصواتٌ من اتحادات ونقابات العمال وعمال المياومة، وبعضُ الأصوات داخل الحكومة (مثل وزارة الماليّة والنقل والمواصلات) والبلديات. يرى هؤلاء - من الحكومة والبلديات- بأنّ العودة للعمل في القطاعات الاقتصاديّة سيمنحُهم هامشاً من السيولة النقديّة لتأمين رواتب الموظفين من خلال تحصيل الجباية من القطاعات التجاريّة والنّاس على حدٍّ سواء، إذ أنّ استمرار الإغلاق سيعني بالضرورة عدم تأمين رواتب الموظفين أو تسديد النفقات التشغيليّة والتمويليّة.
وقد بدأت ارتدادات ذلك بالظهور، إذ احتجّ عدد من موظفي بلدية محافظة غزّة بعد أن اكتفت البلدية بدفع سلفٍ ماليّة لهم بقيمة 500 شيكل (140 دولاراً) للشهر الثالث على التوالي، بعد تراجع إيراداتها من التحصيل الضريبيّ والجباية خلال فترة الإغلاق. كما احتج اتحاد موظفي وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) بعد قرار الأخيرة تأجيل صرف رواتب 28 ألف موظف تابعين لها لشهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول، بسبب ما قالت إنّه العجز المستمر في الموازنة. ومن غير المستبعد أن تتسع دائرة الاحتجاجات لتشمل قطاعات اقتصاديّة أخرى، ما يعني أنّ قطاع غزّة معرضٌ لشلل على مستوى تقديم الخدمات الأساسيّة، وهو من شأنه رفع تكلفة استمرار الجائحة بشكل مضاعف عما عليه الآن.
القطاع الخاصّ وعمّال المياومة الأكثر تضرراً
من حيث الأهمية النسبية للقطاعات الأكثر تضرراً بالجائحة، كان القطاع الخاصّ في قطاع غزّة الأكثر تأثراً مقارنةً بغيره، كون غالبية سكان القطاع يعلمون في القطاع الخاصّ (أو أنّهم ضمن فئة البطالة)، إذ يساهم القطاع الحكوميّ بنسبة 20% فقط من القوى العاملة.
كما أنّ الجزء الأكبر من العاملين في القطاع الخاصّ يعتمدون على نظام العمل اليومي (المياومة) كمصدر دخل رئيسي لهم بنسبة 90%. أبرز هؤلاء العاملون في الأسواق اليومية والأسبوعية، والعاملون في المطاعم وأصحاب المشاريع الفردية كأصحاب الكافيهات المنتشرة على شاطئ البحر، يضاف لهم قطاع سائقي المركبات وبعض مشغلي الصناعات الأولية التي يعتاش منها عشرات آلاف الأسر.
ووفقاً لتقديرات اقتصادية عمل القطاع الخاص خلال فترة الجائحة بطاقة تشغيلية تقدر بـ40%، ووصلت إجمالي الخسائر التي تكبدها منذ بداية سبتمبر/أيلول وحتى العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بـ 210 مليون شيكل (62 مليون دولار). استكمالاً لذلك فإن الخسائر غير المباشرة لشلل القطاع الخاص خلال فترة الجائحة، أثرّت على قطاعات اقتصاديّة أخرى، كصيادي الأسماك ومربي الدواجن، الذين تأثرت مبيعاتهم بتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، ما دفعهم إلى تخفيض تكلفة أسعار منتجاتهم لتلائم القدرة الشرائية للمواطنين.
اقرؤوا المزيد: "عمال غزّة في مواجهة كورونا".
في المقابل لا يختلف وضع موظفي السلطة في غزّة عن نظرائهم في حكومة غزّة، فالسلطة على شفا انهيار مالي بسبب استمرار أزمة المقاصة منذ مايو/أيار الماضي، كما أن توقف الدول العربية عن تقديم مساعدات مالية للسلطة، ووصول مستوى الإقراض من البنوك إلى سقفه الأعلى، فإن قدرة السلطة على تأمين رواتب موظفيها لا تبدو واردة ما لم يطرأ أي عامل خارجي يخرج السلطة من أزمتها الراهنة.
وبالنظر إلى الحالة الاقتصاديّة في قطاع غزّة، فإنّها ذات نمط استهلاكيّ، فالإنفاق على السّلع الاستهلاكيّة يتجاوز 121% من إجماليّ الدخل. لذلك يُعدُّ مستوى الدخل عاملاً رئيسيّاً ومركزيّاً في دفع عجلة الاقتصاد نحو النمو، وأيّ تقليصٍ في الموارد الماليّة التي تأتي على شكل رواتب من القطاعات المختلفة يعني إدخالَ القطاع بموجة من الركود. وبلغةٍ اقتصاديّة يُصنَّفُ اقتصادُ غزّة بأنّه اقتصاد غير ذاتيّ الدفع وغير مستدام، ويعتمد على ما يُعرَف بآلية "الحقن المؤقت" التي تأتي على هيئة تدفقاتٍ نقديّةٍ تُمنح على شكل رواتب ومساعدات خارجيّة تؤدّي إلى تحفيز الطلب لاستمرار دوران العجلة الاقتصاديّة.
ومنذ العام 2006، ظهرت جوانب التشوّه والخلل البُنيويّ للاقتصاد في غزّة من حيث تأثرِهِ الشديد بالتقليصات الماليّة التي مارستها السّلطةُ الفلسطينيّة بحقّ موظفيها في القطاع؛ شملت المرحلة الأولى من العقوبات، والتي تلت أحداث الانقسام منتصف العام 2007، قطع كافة أشكال التمويل الممنوحة للوزارات والدوائر الحكوميّة والقطاعات الاقتصاديّة الأخرى كاتحاد المقاولين، إضافة إلى إحالة عشرات الآلاف من موظفيها للتقاعد المبكر. بعد عشر سنوات وتحديداً في مارس/ آذار 2017، بدأت المرحلة الثانية من العقوبات بإقرار السّلطة تقليصات في رواتب موظفيها تراوحت ما بين 30- 50%، وأحالت أكثر من 28 ألف كادر تابع لها للتقاعد المبكر.
غياب للتنسيق والمبادرة
ورغم صعوبة الظروف والموقف، إلا أنّ المراقب لسلسلة القرارات التي اتخذتها حكومة غزّة مؤخراً يلاحظ غياب التنسيق بين الجهات الحكوميّة والهيئات ذات الصّلة، وأحياناً التخبط في تنفيذ القرارات، فمثلاً انقسم قطاع التعليم في ذات المنطقة بين التزام المدارس الحكوميّة بقرار العودة لمقاعد الدراسة، وبين التزام مدارس (الأونروا) بالتعليم الإلكتروني. كما أن قرارات الإغلاق جُوبِهت بتحفظات من أصحاب العمل والمنشآت الاقتصاديّة الذين قالوا إنّ تلك القرارات تُفرض دون تنسيقٍ معهم أو تقديرٍ للنتائج المترتبة عليها.
أما على الصعيد الشعبيّ فلم تشهد غزّة أي مبادرات من القطاع الخاصّ وخاصّة الشركات الكبرى للتخفيف عن كاهل الناس. فقد افتقرت غزّة إلى المبادرات الأهليّة، ولم يبادر أحد مثلاً لإعلان إعفاء عن فواتير الكهرباء والماء والاتصالات أو حتى تخفيف الضرائب على الأقل فترة الإغلاق. وعلى صعيد العمل الإغاثي، وباستثناء دورٍ محدودٍ للفصائل الفلسطينية عبر الجمعيات الخيرية والإغاثية التابعة لها التي قامت بتوزيع المساعدات الغذائية على الأسر الفقيرة، كان غياب الشركات الكبرى والبنوك واضحاً في تحمل مسؤوليتها الاجتماعيّة والأخلاقيّة.
أمام هذا الواقع، تواجه حكومة غزّة تحديات جوهريّة في الاستمرار بمواجهة الوباء ومحاولة تقليل المخاطر الصحيّة الناجمة عنه، وفي نفس الوقت تجنب المزيد من الخسائر الاقتصاديّة في بقعةٍ تعاني من حصار مزمن، وارتفاع في معدلات الفقر والبطالة.