23 فبراير 2023

قبل الشهادة بقليل

<strong>قبل الشهادة بقليل</strong>

إن كان الشاعر الجاهليّ يقفُ على طلل محبوبته، فيقبض على المعاني ويأتي بها حبواً على شكل ألفاظ، فإنّ الشهيد المجاهد يقفُ على أطلال هذه الحياة الدنيا كلّها، وقد حوّل المعاني إلى فعلٍ متسامٍ وجعل منها حقائق جليّة، كأنّه ينظر إلى الدنيا من خارجها، متعالياً على ما فيها، راجياً ما هو خيرٌ منها. 

فهذا مثلاً محمد الجعبري الشهيد صاحب العباءة السوداء، قد أعاد كلمة "الدنيا" في وصيّته إلى أصلها اللغويّ: "من أغوته تلك الفانية فأوبقته وأهلكته وهي كلما دانت له جعلته دنيئاً، فهذه الدنيا كالماء المالح، كلما شربت منه ازددت عطشاً، وهو عطش لا ارتواء له"، ثمّ أعاد روحه إلى أصلها السماويّ وغادر.

ومعنى الفناء المنسوب إلى الحياة الدنيا حكى عنه غيرُ شهيد، فالكيلاني الذي فخّخت له "إسرائيل" الدرّاجة الناريّة كان يطمئن زوجته عندما يُصيبها القلق عليه: "وهو أنا إذا استشهدت.. الحياة فانية هاي، دار فناء"، ثمّ يتلو عليها: "كلّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام". والفتى ذو الشعر المنسدل إلى حاجبيه، قتيبة زهران، يُعلن في وصيته فيقول: "ورحلتُ عن هذه الدنيا الفانية مسرعاً إلى الدار الخالدة الباقية في جنات النعيم". فيما قال "جُليبيب" كما كان يناديه رفاقه: "أنا لا أعلم متى يدركني الموت ومتى ستنتهي رحلتي في هذه الدنيا الفانية التي خدعتنا بجاهها وعزّها ومالها".

وجليبيبٌ هذا هو العريس الشهيد فاروق سلامة. حينما كان يسأله من حوله عن استعداده ليوم زفافه -وقد كان مُطارداً- يُجيبهم بقصّة الصحابيّ الذي لبّى نداء الجهاد وهو في أيّام زفافه، فاستشهد حتّى قال عنه النبيّ الأكرم: "هذا منّي وأنا منه". نال سلامة "الحور العين" كما قالت أمه عند جثمانه، لقد فاته عرسُه وزَفَّته الملائكة، وهذا درسٌ في كيف يمكن للاسم الذي تنصبه أمام عينيك قدوةً أن تتحقّق فيكَ ذاتُه لو صدَقتَ.

العودة إلى ما هو أبعد من مئة قرن، لا يُتقنها إلا المجاهد، "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر". وهذا صاحب عمليّة التفجير المزدوجة في محطة الباصات في القدس إسلام فروخ، هتف ويداه مُصفّدتان بعد رجوعه من جلسة المحكمة: "نحن أحفاد الصحابة، نحن أحفاد عمر". وهذا فادي أبو شخيدم، الذي جنّ جنون "إسرائيل" كيف لمعلّمٍ في إحدى مدارسها أن ينفّذ عمليّة فدائية، يُخاطب تلاميذه فيقول لهم عن أولئك الذين تركوا أثراً بطوليّاً في نفسه: "وكنتُ أحدِّثُكم بقصص هؤلاء من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أُسود الإسلام في عصرنا، ووالله ما فارقت الدمعة عيني عند الحديث عنهم".

عند الشهداء، تطغى الدارُ الأزليّة على الدار الآنيّة؛ "وللآخرة خيرٌ لك من الأولى"، حيث إنّ "الآني يغلبه الأزليّ"،  كما قال صاحب الوصيّتين حمدي أبو ديّة موجّهاً كلامه لعدوّه: "أنتم لكم زناد تضغطون عليه وبه تدخلون جهنّم عبر بوابة الموت الذي نصنعه لكم، وزنادنا يأخذنا إلى جنات فيها ما هو أفضل من برتقال يافا وتفاح الجليل، فأي الفريقين تظنون أنه أسرع في الضغط على الزناد". 

يكتب الدخيل ورقةً يضعها في هويّته تُذَكِّره بسنن الصلاة، ويوصي الكيلاني زوجتَه بتحفيظ أولادِه القرآن، ويوصي الحوح والشيشاني وأبو لبدة رفاقهم بـ"الصلاة الصلاة". يحضر الإيمان هنا كطاقةِ التزامٍ وعمل، وليس فلكلوراً شكليّاً. لذا تراهم يذهبون إلى حتفهم سعداء، ليس ذهاب العدميّ، بل ذهابَ الذي أدرك حقيقةَ الصفقة، فباع للذي اشترى؛ حيث "إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة".

في أوائل كانون الأول من السنة الماضية، نشر على صفحته على "فيسبوك": "لا تقلق، سوف يعطيك ربّك حتّى ترضى، وسوف يُرضيك حتّى تنسى أنّ هماً مرّ عليك". في أواخر كانون الثاني من السنة الحالية، وبعد 47 يوماً، أُعطي خيري علقم ما أراد.

"إن كنت تقرأ هذا فهذا يعني أني قد مِتُّ، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء"، يقول باسل الأعرج في وصيته. وكلّ الوصايا سواء في الشعور الذي هو اكتمال الغاية؛ "أنا طلبت الي نلته" قال الجنيدي ورحل إلى الذين قالوا الشيء ذاته من قبل ورحلوا: "الحمد لله إن الله حققلي حلمي وهو الشهادة في سبيل الله"، "وأنا مبسوط كثير إنو ربنا حققلي حلم من أحلامي وهو الشهادة"، "الشهادة نادتني بعد أن تمنيتها منذ حين"، "اللهم إني طمعتُ فيما أخبرت، وهربتُ من خشيتك إلى مشيئتك".

وهذا أمرٌ مشترك بين الشهداء، أو المجاهدين الذين تعذّر استشهادهم، إنّهم يرتحلون قبل أن يرحلوا، كأنهم يصيرون في المنتصف بين عالم الغيب والشهادة، فيصبح سمتُ الواحد منهم عالياً؛ ألا نلمسُ ذلك في حديث أهلهم وأصحابهم عنهم؟ تأمّل في هذه الصفة شديدة العاديّة إذا ما اقتُرنت بالشهيد؛ تُخبرنا أمّ حمدي أبو ديّة أنّ ابنها كان "يكره الغيبة"! هذا في زمنٍ تُقام للغيبة والنميمة المجالسُ وتُفتتح المحادثات وتُعدّ الولائم. 

ثمّ تأمّل إلحاحَ فاروق سلامة طوال وصيّته التي كان عمودُها إعتاقَه من أيّ إساءةٍ بحقّ أيّ أحد: "قد أكون بيوم من الأيام اغتبت أحداً بزلة لسان أو في نفسي أو مع جماعة بقصد أو بدون قصد أو أخطأت بحق أحد - (الإنسان ليس معصوماً عن الخطأ) -، أتمنى أن يسامحني الجميع فقد قيل إن الله لا يسامح من اغتاب حتى يسامحه من اغتابه. أقول هذه الكلمات ليست ضعفاً مني بل هو خوف من الله من بيده ملكوت السماوات والأرض، فلقد كثر موت الفجأة.. من يحمل في قلبه خدوش صغيرة أحدثتها له فليخبرني أو ليعتقني لوجه الله.. لعلي كنت أمازحه فأثقلت عليه أو ربما لامست وجعاً أو أيقظت ذكرياته أو سببت له جرحاً دون قصد". 

إنّ فكّ الذمة هذا أمرٌ شائعٌ عند جميع الناس إذا ما كانوا على تخوم المنيّة، ولكنّه عند الشهيد يحمل معنىً إضافياً؛ كيف للشهيد المجاهد الذي يشغَلُ دولةً بأكملها أن يُشغل بفلتات اللسان، بينما تفصله لحظات عن أن تحتفي به ألسنة الناس؟ هذا الحسُّ المُرهف في البراءة من فعلٍ دنيويّ حتى يطهُر الفعل الأُخرويّ عجيب، وهو إحساسٌ مزيجٌ من القوّة والضعف والهيبة والرقّة، وليس اكتمال هذا إلا للشهيد. 

يطلبون الصفح والدعاء ويوصون أهل حارتهم بأمهاتهم، وبعاميّةٍ تخلو من المجاز مشحونة بالعاطفة، قال النابلسي وهو يرى الموت أمام عينيه: "بحب إمي كثير"، بينما قال الفتى زهران: "أمي الغالية: سامحيني؛ إن رضا رب العالمين عليّ مرهون برضاك، وإن أمنيتي لن تتحقق إلا بفك هذا الرهان ولن تكتمل أمنيتي دون صبرك واحتسابك لي عند الله شهيداً مجاهداً". 

ومن المعلوم من القضية بالضرورة، أنّ الأقصى له مكانة عزيزة في نفوس هؤلاء الشهداء، إذ انعقد قلبهم عليه فصار عقيدة، وقد اختصّ أستاذ المدرسة أبو شخيدم أهل بيت المقدس بالمُخاطبة في نهاية وصيّته، فجعل الرباط أكثر من كونه واجباً دينيّاً ووطنيّاً، فقال: "واعلموا أن حلول مشاكلكم تبدأ من رباطكم وجهادكم، قال الله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا". وهو معنى متصل مع حديث نبويّ استعمله أحمد عابد في وصيّته: "أصدقائي لا تتركوا الجهاد فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا"؛ وانشغالُ الراحل عن هذه الدنيا بالباقي فيها هاجسٌ يفتك بهدوء وصايا الشهداء.

لا يولد الشهيد شهيداً، بل يصبح كذلك؛ قدمه على الأرض وعينه نحو السماء. وسيرته ليست سيرةً ملائكيّةً مفارقةً لعالمنا الماديّ، بل هي سيرة التمرّد على الطين بكل تناقضاتها. لكن لحظة الشهادة هي بحدّ ذاتها لحظةُ مفارقةٍ، ذلك أنها ما إنْ تقع تُحيي في الناس معانيَ كثيرة؛ هل هذا شيءٌ من معنى "بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون"؟ 

إنّها حياةٌ متصلةٌ بالعروق التي تُمسِكُ زناد البارودة. يدرك عديّ التميمي الذي كتب وصيّته على عجل أنّ عمليته لن تحرّر فلسطين، ولكنّ عينه على أن "تُحرك العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية بعدي".

قال حسام اسليم: "بحياة عرضكم ما تتركوا البارودة من بعدنا"، مقتبساً في لحظاته الأخيرة عبارة النابلسي في لحظاته الأخيرة. كلّهم يحمل الهاجس نفسه؛ "نفسي الناس هاي كلها تصحصح"، وهي جملة أخرى للنابلسي اقتبسها لاحقاً في وصيتهما الفتيان خرّيجا مخيّم الدهيشة آدم عيّاد وعمر الخمور.

ماذا يقول كلّ هذا؟ كأن أثرَ الشهداء ينفذُ عبر زوارب لا نعلمها في خبايا نفوس شهداء قادمين. لا يُوَرِّث الشهيد ديناراً ودرهماً، ولكن يورِّثُ وقوفاً دائماً على طلل الحياة. 



12 أكتوبر 2019
أين تتعثر الكتابة؟

منذ انطلاق متراس في مايو/ أيار 2018، وبعد تجربة قصيرة شهدت الكثير من النقاشات بين محرري الموقع وبين الكتاب والصحافيّين،…