16 يونيو 2022

في غزّة: عقوبة على رغيف الخبز

في غزّة: عقوبة على رغيف الخبز

قررت حكومة رام الله في مارس/آذار الماضي إعفاء تجّار القمح والدقيق من ضريبة القيمة المضافة (17%) التي تُـفـرض على السلع المستوردة من الخارج، وذلك لمدة ثلاثة أشهر على خلفية ارتفاع أسعار السلع الأساسية التي تبعت الحرب الروسيّة - الأوكرانيّة، وبالأخصّ أسعار القمح والدقيق. 

لكن ذلك القرار لم يشمل تُجّار قطاع غزّة، الذين ينقلون بضائعهم عبر حاجز كرم أبو سالم وتجبي الضرائب منهم السلطة الفلسطينية في رام الله. وفي 12 يونيو/حزيران الجاري، مدّدت السلطة قرار الإعفاء دون أن تُشير بوضوحٍ لغزّة والتعامل مع تجارها، رغم الجدل الواسع الذي أُثير على خلفية استثنائها من القرار الأول.

غير أنَّ الأزمة قادت إلى خلافٍ جديدٍ بعد أن اتجهت حكومة غزّة إلى ما أُسمي "المعاملة بالمثل" وفرض ضريبة القيمة المضافة على عددٍ من السلع القادمة من الضفّة الغربيّة إلى القطاع، وسط ترجيحٍ بأن يطال القرار مزيداً من السلع في الأيام القادمة. 

مصادر القمح والدقيق

يعتمد قطاع غزّة بشكلٍ أساسي على حاجز كرم أبو سالم التجاريّ الذي يسيطر عليه الاحتلال، إذ يدخل عن طريقه 80% من حاجة القطاع من الدقيق والقمح، فيما تتوفر النسبة الباقية من الدقيق فقط عن طريق مصر عبر بوابة صلاح الدين التجاريّة. هذا وتجبي السلطة الفلسطينية في رام الله الضرائب عن كل البضائع التي تدخل عن طريق حاجز كرم أبو سالم، بينما تجبي حكومة غزّة الضرائب عن البضائع التي تدخل عبر بوابة صلاح الدين.

عودة إلى الدقيق والقمح، فإنّ أكثر من نصف الدقيق الذي يمرّ عن طريق حاجز كرم أبو سالم يذهب لصالح وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تُغطي معوناتها نحو 60% من حاجة القطاع وفق حديث أسامة نوفل، مدير دائرة التخطيط في وزارة الاقتصاد في حكومة غزّة. 

بينما يعتمد قطاع غزّة في النسبة الباقية على القطاع الخاصّ الذي يستورد حاجته إما عن طريق حاجز كرم أبو سالم، أو عن طريق بوابة صلاح الدين مع مصر. مع الإشارة إلى أن إدخال القمح إلى قطاع غزّة ممكن فقط عبر حاجز كرم أبو سالم، إذ لا تدخل سلعة القمح عن طريق مصر لعدم إدراجها من الجانب المصريّ. 

طفل فلسطيني يجرّ عربة لبيع الخبز في أحد شوارع غزة، مايو/أيار 2021. (عدسة: محمود الهمص/ وكالة الصحافة الفرنسية).

افتُتحت  بوابة صلاح الدين التجاريّة في الحدود الجنوبيّة للقطاع عام 2017 بعد إغلاقها عام 1994، إثر تفاهمات بين غزّة ومصر لتعزيز الحركة التجارية والمساهمة في تلبية حاجة القطاع، لكن لا يمكن الاعتماد عليها، بحسب نوفل.

بعد نحو 5 أعوام على إعادة فتح البوابة، لا تزال الحركة التجارية عبرها خجولة، وتخضع لاعتبارات مختلفة، بحسب نوفل. ويُضيف: "نسبة البضائع المختلفة (الغذائية وغير الغذائية) التي تأتي عن طريق البوابة مع مصر لا تزيد عن 21% من حاجة القطاع من مجمل البضائع، فيما يأتي 70% من البضائع التي يحتاجها القطاع عن طريق حاجز كرم أبو سالم مع الاحتلال".

منذ يناير/كانون الثاني وحتى مايو/أيار الماضي دخل إلى قطاع غزّة عن طريق حاجز كرم أبو سالم 36 ألف وخمسمئة طن من الدقيق لصالح وكالة الغوث، بينما لم يدخل لصالح القطاع الخاصّ أكثر من ألف طن من الدقيق. لم تكن عراقيل الاحتلال السبب الوحيد في تقليل نسبة الاستيراد، بل أيضاً ارتفاع الأسعار وعدم شمول غزة في الإعفاء من ضريبة القيمة، وفق قول أصحاب المطاحن والمخابز لـ "متراس".

ضريبة مقابل ضريبة؟

تؤكد كلّ الجهات المعنية في غزّة، بدءاً من التجار وصولاً إلى المخابز والمطاحن والجهات الحكومية، أنّ السلطة الفلسطينيّة لم تشمل قطاع غزّة في الإعفاء من ضريبة القيمة، وهو ما يندرج ضمن سياسة السلطة في فرض عقوبات على القطاع، كـمنع التوظيف، والتقاعد المبكر، والتضييق على القطاع. مع ذلك، تردّ وزارة الاقتصاد في رام الله عليهم بالقول: "إن غزة مشمولة في الإعفاء"، وحتى بعد تمديد حالة الإعفاء في الضفّة، لم تأتِ السلطة على ذكر قطاع غزّة، خصوصاً بعد حالة الجدل المستمرة حول الأزمة.

في 23 مايو/أيار الماضي أعلنت وزارة المالية في غزّة فرض ضريبة القيمة المضافة (16%) على عدد من السلع القادمة من الضفّة الغربيّة ضمن سياسة "المعاملة بالمثل" وهي منتجات "الشيبس والمياه والمشروبات الغازية"، مع توقعات بأن يطال القرار 24 سلعة أخرى. وبحسب بيان لمكتب الإعلام الحكومي، فإن السلطة الفلسطينية رفضت كل الوساطات التي تدخلت لحل المسألة.

تُبرّر حكومة غزّة قرارها بالقول إنّها تلقت "عشرات الشكاوى من التجار ورجال الأعمال في غزة، الذين طالبوا بالضغط على مالية رام الله والسلطة لوقف هذا الإجراء غير القانوني". فيما وصف وزير الاقتصاد في السلطة الفلسطينية خالد العسيلي قرار حكومة غزّة بأنه "إجراء غير قانوني ولا يجوز داخل الوطن الواحد، وأن الأمر يشبه فرض ضرائب بين الخليل ونابلس، وهذا لا يجوز".

فلسطينيون يجمعون أكياس الدقيق في مقر توزيع تابع لوكالة "الأونروا" في مدينة غزّة، مارس/ آذار 2022. (عدسة: مجدي فتحي/ نور فوتو).

ماذا عن حكومة غزّة؟

أما عن إجراءات حكومة غزّة في محاولة لتخفيض الأسعار، فيقول المتحدث باسم وزارة الاقتصاد هناك، عبد الفتاح أبو موسى، إنَّ وزارته عملت خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري على تقديم إعفاءات لتجار غزّة من الرسوم الجمركية التي تحصلها على معبر كرم أبو سالم إلى جانب إعفاء البضائع المستوردة من مصر من ضريبة القيمة المضافة. وبحسب ادعائه فإنّ وزارته "عملت كل ما هو ممكن لضبط الأسعار".

غير أن الحكومة بغزة تراجعت عن قرارها بإعفاء البضائع المستوردة من مصر من ضريبة القيمة المضافة، بعد أن مضى ثلاثة أشهر، وبرّرت ذلك بالادعاء أنّ "نسبة البضائع القادمة من مصر قليلة، ولا تؤثر في حالة السوق، لأن الاعتماد على بوابة صلاح الدين قليل وغير أساسي".

إلى جانب ذلك، لم تراقب الجهات المعنية في غزّة حالة ارتفاع الأسعار والتفاوت في سعر السلع الأساسية بين التجار وبائعي التجزئة، التي بدأت قبل أن تتبدى مظاهر موجة ارتفاع الأسعار العالمية، إذ كان يمكن ملاحظة ارتفاع أسعار الدقيق والمواد التموينية بشكل تدريجي في غزة، بعد نحو 10 أيام على بدء الأزمة الروسية - الأوكرانية.  

كذلك، يعيش القطاع حالة تضارب في أسعار غاز الطهي، إذ تركت الحكومة الأمر لأصحاب المحطات وبائعي التجزئة لتحديد السعر المناسب لتعبئة اسطوانة الغاز المنزلي (12 كيلو) بين (60 – 70 شيكلاً) مكتفية بالإشادة بالجهة التي تخفض السعر، دون أن تضطلع بدورها الحقيقي في تثبيت سعر مناسب تُلزم به الجميع. على سبيل المثال خفّضت بعض المحطات سعر تعبئة أسطوانة الغاز (شاملاً توصيلها) إلى 63 شيكلاً. لكنها هوجمت من جمعية أصحاب البترول، الأمر الذي دفعها لتغيير موقفها، وتبني التسعيرة السائدة.

شاب فلسطيني يعمل في أحد المخابز في غزة، مايو/ أيار 2022. (عدسة: رزق عبد الجواد/ وكالة شينخوا الصينية)

ارتفاع لا يسد الجوع..

في مايو/أيار الماضي، اتفقت وزارة الاقتصاد في غزّة مع أصحاب المخابز على خفض وزن ربطة الخبز التي تزن 3 كيلوغرامات إلى 2.6 كيلوغرام مقابل رفع سعرها شيكلاً واحداً لتصبح ثمانية شواكل. بحسب رئيس جمعية أصحاب المخابز في القطاع، عبد الناصر العجرمي، فإن تلك الخطوة كانت بسبب ارتفاع أسعار الدقيق عالمياً، وأيضاً بسبب استثناء غزة من ذلك الإعفاء. 

غير أنّ ليونس الحلو (42 عاماً)، الذي يعيل عائلةً مكوّنة من 6 أفراد، رأياً آخر. يحكي الحلو أنّ عائلته كانت تستهلك يومياً ربطة خبزٍ كاملة. أما بعد تقليص وزنها فإنّها تستهلك يومياً ربطةً ونصف من الخبز: "صِغر حجم الرغيف، وكأنه فقد نصف وزنه"، يقول الحلو، الذي يعمل في استراحة على شاطئ قطاع غزة، إنَّ زيادة أسعار الخبز وتقليص حجمه أضاف فاتورةً جديدة إلى حساباته اليومية. "أجرتي اليومية 25 شيكلاً، في السابق كان يذهب منها 7 شواكل لربطة الخبز، الآن يذهب منها نحو 11 شيكلاً، يعني أن الأمر بات أسوأ".

ويشرح الحلو أنّه عائلته تخلّت عن عادة صنع الخبز في البيت بعد أن أُجبرت على تغيير آلية الحصول على الكهرباء إلى طريقة عدّاد الدفع المسبق: "نشحن شهرياً بـ30 شيكلاً، إن قررنا استخدام طنجرة الخبز، سنستهلك الفاتورة في يومين". 

فلسطيني يعمل في أحد مطاحن قطاع غزّة، مارس/ آذار 2022. (عدسة: محمود الهمص/ وكالة الصحافة الفرنسية).

أثّر ارتفاع أسعار القمح والدقيق على عمل مطاحن القمح في غزّة أيضاً، إذ يقول المدير العام لشركة مطاحن السلام في غزّة عبد الدايم عواد، إنّ ارتفاع الأسعار قادهم إلى خفض الإنتاجية بنحو 10%، مما أدّى لتسريح 25 عاملاً من مجمل عُمّاله البالغ عددهم 50، إلى جانب تقليص ساعات العمل.

قبل الأزمة، كانت مطاحن السلام تطحن يومياً 400 طن من القمح لِتُنتج 300 طن من الدقيق. بحسب عواد، فقد وصل طن القمح إلى 612 دولاراً بعد أن كان بحدود الـ 380 دولاراً. ويُضيف أنّ عدم شمول غزّة في الإعفاء من ضريبة القيمة المضافة رفع سعر الطن الواحد بنحو 90 دولاراً، وأن الإعفاء من ضريبة القيمة المضافة، سيخفض قيمة الطن إلى 522 دولار تقريباً (بدلاً من 612). "لكن الآن العمل بلا أي قيمة، لا تصريف للإنتاج عبر البيع ولا رغبة لدينا في شراء قمح جديد"، يقول عواد.

وفيما يخصّ البيع، يقول عواد إنهم كانوا يبيعون ألفي طن من الدقيق شهرياً، أما في الشهور الأخيرة فبالكاد يبعيون 500 طن، ويشرح أنّهم قبل الأزمة كانوا يبيعون شوال الدقيق (50 كيلوغراماً تقريباً) بـ88 شيكلاً، أما اليوم فيبيعونه بـ120 شيكلاً. وأمام سعر الدقيق المستورد من مصر الذي يقل بحوالي 10 شواكل، ضاق هامش المنافسة. يقول عواد: "نحن مجبورون على تثبيت أسعارنا، لأننا اشترينا القمح بسعر مرتفع وغير مشمول في الإعفاء، وإثر ذلك، قل الإقبال على إنتاجنا".