5 يوليو 2022

في زمن الترويج للمثلية: كلامٌ يجب قوله

في زمن الترويج للمثلية: كلامٌ يجب قوله

أصبحت القضية "المثلية" مؤخراً محلّ نقاش وردود مُتكرّرة، ولقد وصلت إلى سياقاتنا المحلية متأثرةً بالموجة العالمية. يدعم هذه القضية عدد من الناشطين الذين يشغلون أحياناً مواقع في الحراك الوطني ضدّ الاحتلال. يصرّ هؤلاء الناشطون على الربط بين الحراكين، ويضعون ذلك في صلب تعريفهم للتحرّر في سياقنا الفلسطيني، مُعتبرين أنّهم بذلك يُمايزون أنفسهم عن نوعٍ آخر من "الحراكات المثلية" في العالم؛ تلك التي ترى أنّ المشترك الوحيد بينها هو قضية الميول والهويات الجنسيّة، وليس أيّ قضية وطنية أو صراع آخر. ويذهب أصحاب هذا التوجه، إلى أنّ جزءاً من مسؤوليتهم يتمثّل في توفير مناخٍ مناسبٍ "للمثلي" الفلسطيني، يَحوُل دون أن يتوجه لتل أبيب بوصفها - وفقاً للدعاية الصهيونيّة - "مكاناً آمناً للمثليين" تاركاً مجتمعه وهويته الوطنية خلفه. 

وهذا التوجه هو ما كنا نتقاطع معه - كموقع إعلامي سياسيّ - في الماضي. لم تكن "القضية المثلية" بذاتها هي ما يشغلنا، بل استغلال "إسرائيل" لها وتوظيفها لتبييض وجهها وشرعنة وجودها. وانطلاقاً من منظورٍ وطنيّ ضيّق وقتها، كنّا نرى أنّ كشف زيف "إسرائيل" وسحب البساط من تحتها مقياسٌ كافٍ لتعريف الصواب والخطأ. إلا أنّنا نرى اليوم أنّ الوطنية بهذا المفهوم ليست كافية، ولا تُوّفر ما نحتاجُه من مخزون القيم الذي يُمكِّننا من مواجهة تحديات العصر الشاذ الذي نعيشه، فهذا العصر الذي تحتاج فيه أن تُحاجج عن الطبيعي وتبرّره لا يمكن عبوره بدون الإسلام؛ الدين الذي يشكل منبع التصورات والقيم عندنا. هذا أولاً.

كيف دخلوا في أنوفنا؟ 

أما ثانياً، فإنّ قضيّة "المثليّة" في السنوات الأخيرة، لم تعد مجرّد حالة احتجاجيّة تدافع عن مجموعة مخصوصة تتعرض للاضطهاد وتسعى في المقابل لكسب الاعتراف بوجودها وحقوقها، بل إنّها قطعت أشواطاً أبعد من ذلك بكثير، وباتت أشبه بإيديولوجيا شموليّة تريد صياغة المجتمع وفق معاييرها.

وسرعان ما تحولت هذه القضيّة من وضعيتها الأولى إلى وضعية تستعين فيها بالسلطة لتفرض توجهها في كل المجالات: في الإعلام والترفيه (تعتبر نتفلكس مثالاً بارزاً على ذلك، انظروا الأمثلة هنا، وهنا، وهنا) والقانون والتعليم والسياسة، وباتت تستعين بأدوات الترهيب ضدّ من لا يتفق معها مع وصمه ومحاصرته بشبكةٍ ممتدة من السلطة والتمويل والنفوذ.

لقد أصبحت "المثلية" اليوم توجهاً عالمياً، امتدَّ لمجتمعاتنا المحليّة -كالعادة- فارضاً معركته ضدّ الجميع. وهكذا، لم يعد ما يحصل اليوم وما يُطرح من نقاشات وتصورات محصوراً بين  جماعة قليلة تريد أن يُعترف بها وأخرى كبيرة ترفض الاعتراف بها لـ"اختلافها"، إنما المعركة اليوم في أنّ الجماعة القليلة تريد أن تحوّل مجموع الناس وتجعلهم على صورتها بكل الأدوات الممكنة. 

لم تعد القضية إذن متعلقة بممارسة فردٍ "للمثلية" في حيزه الخاص؛ فمثل هذه الممارسة لم تكن لتصبح قضيّة عامّة لو بقيت في ذلك الحيز؛ إنما أصبحت القضية عملية تعميمٍ لهذه الممارسة وتطبيع المجتمع معها، ومحاولة فرض تصورات ومقاربات بعينها، في شكلٍ من أشكال القمع الذي يُمارس على الناس في إطار صهرهم وتغيير ذواتهم، وهي عملية سياسية اتخذت من خطاب الهويات الجنسية أيديولوجيا لها.  ‏

ومن التضليل طرح المسألة على أنّها نقاشٌ بين حريّة "مضبوطة" وأخرى "منفلتة"، ذلك أنّ هذا الحراك بدأ معركته بتقييد حريات الناس في التعبير، والرقابة على أفواههم، و"تطهير" الكلمات ومطاردتها (ويسهل على مستخدمي السوشيال ميديا فهم ذلك)، بل لقد وصل الأمر أخيراً إلى الرقابة على صمتهم! نعم أصبح الصمت اليوم مثار ريبة ومدعاة لمحاكم تفتيش للضمير بحثاً عن "رهاب مثلية" محتمل، تماماً كما حدث مع لاعب كرة القدم السنغالي الذي جرى عقد لجنة تحقيق معه لتستجوبه حول غيابه عن نشاط رياضي داعم "للمثلية".

كما أنّ هذا الحراك يعتقد أنّه على عداءٍ مع الهيمنة العالمية (دول المركز الغربيّ والشركات الرأسمالية...)، إلا أنّه في الحقيقة يتحرك في فلكِها ويُغذيها سواءً كان ذلك على وعيٍ منه أم لا، فكل تقدم يُحرزه محليّاً، يعني تقدّماً في السياق العالمي. وهكذا يُصبح "نضال الحراك المثلي" في السياقات المحليّة أداةً أخرى للهيمنة الثقافيّة الغربية، يصبّ في صالح المنظومة المعولمة لهذا الحراك، والتي تتخذ من قضايا الدفاع عن مختلف الأقليات وسيلة لتفتيت الأكثرية ومشروع استقلالها التحرّري.

وهكذا تصبح الفروقات داخل هذا "الحراك المثلي" فروقات بالدرجات لا بالنوع، حيث أنها جميعها تحمل المبادئ الرئيسية نفسها وتنتهي إلى المآلات ذاتها، وبالمحصلة تكتسب الحراكات كلّها شكلاً واحداً مهيمناً وهو الذي تحدّده دول المركز تلك الآخذة بتحويل كل شيء إلى شكلها الوحيد والمشوّه (بفتح الواو وكسرها).      ‏

نعم، يعمل "الحراك المثلي" في نهاية الأمر ضدّ مكوّنات الوطنيّة (الأسرة والمجتمع) ونسيجها الاجتماعي وعمقها الديني في الوقت الذي يقّدم نفسه فيه بصيغ وطنيّة، وهو يتحرك ضدّ الدين في الوقت الذي يرفع فيه الرغبة الجنسية لتصبح مكان الله، ويستعين بـ"السلطة" واقعياً في الوقت الذي ينظّر فيه ضدّها، مثلما يستعمل أدوات الإكراه القسري التي يشتكي منها. 

وبقدر أهميّة التركيز على جوهر الموضوع والاستناد إلى مرجعيّة متماسكة في مقاربته، فإنّ علينا أن نحذر من التحوّل إلى عُصابيين همُّهم التفتيش في ميول الأفراد، أو رميهم بالتهم بلا دليل، أو المسارعة في تخوينهم أو تهديدهم أو اتهامهم بالعمالة. 

ومن الخطأ أن يتمّ التعامل مع من تسللت إلى نفسه أفكار "المثلية"، ومع من يمارس "المثلية"، ومع من يجاهر بهذه الممارسة، ومع من يدعو للتطبيع مع هذه الممارسة ثمّ منح الامتيازات لأصحابها على سويّة واحدة؛ فلكلّ حالة من هذه الحالات ما يناسبها من أدوات المناصحة والوقاية والاحتواء .. والمحاربة! ولكنّ تاريخنا، بل وتاريخ العالم، لم يشهد أيضاً مثل هذا الانقلاب الفوضوي على مكوّنات الإنسان ونظامه المرجعي (اللهم إلا في حالة واحدة تعرفونها جيّداً!).

ومن المهم أيضاً، أن ننتبه أن هناك معاداة "للمثلية" تحملها توجهاتٌ تتخذ من المحافظة على الوضع القائم أيديولوجيا لها، وإدراك هذا تمييزٌ ضروريّ قبل أن يصبح الإسلام رديفاً للمُحافظة فنخسر قيمَهُ التحرريّة وينتصر الوضع القائم بكلّ ما فيه من حسنٍ وقبيح. على سبيل المثال، في الأراضي المحتلة عام 1948، استعمل منصور عباس معاداة "المثلية" كطريقٍ لتمرير المزيد من الأسرلة للمجتمع الفلسطيني، وبذلك منح المجتمع ما يطمئنه بعد أن تخلّت التيارات الأخرى عن حماية مخاوفه، مُمهِّداً بذلك لِمُضيّه قدماً في أخذ مسار الـ"كنيست" إلى مستوى التحالف الحكوميّ بشكل غير مسبوق. ومثلما يفعل حزب السلطة في الضفّة الغربيّة وعناصرها أحياناً، حين تتصدى لبعض هذه المظاهر "المثلية" مُصوِّرة نفسها أنّها الحامية لقيم المجتمع لتغطي على إضاعتها لحقوق ذات المجتمع الذي تسعى لحمايته. فليست المسالة هنا في الاتفاق على معارضة شيء ما، بل في السؤال: على أي أرضيةٍ نقف، وإلى أي اتجاهٍ سنذهب، وما هي نوع القيم التي نحملها معنا خلال هذه الرحلة.

السرير بوصفه مشروعاً سياسياً

يسعى "الحراك المثلي" لإعادة قلب الأولويات للفرد والجماعة، فتتراجع  مسائل الهيمنة التي تسنتزفهم بقسوة من الاقتصاد إلى السيادة السياسية إلى الوراء، وتصبح الرغبة الجنسية في مقدمة الأولويات  وفق هذا التصور فإنهم يدفعون باتجاه النضال لأجل الرغبة  أولاً، ولكي لا يبدو ذلك سطحياً، فإنهم يزوّدونه بكل ما يحتاجه من "لغة أنيقة" ومعقدة ومليئة بالحشو واللاتحديد مما توفره العلوم الاجتماعية والنفسية والحراكات اليسارية الجديدة.

وهكذا يصبح سؤال "مع من تنام في السرير" قضية "التحرّر" الأولى التي ينبثق منها باقي نقاش التحرّر الذي يخُصّهم، هذا ما يعنيه الأمر مُجرّداً من الزخرفات اللغويّة! لقد رفعوا السرير إلى مستوى السياسة ونزلوا بالسياسة إلى ما بين الفخذين.

وبدل أن نكسب المزيد من الفاعلين الجديين في معركة التحرير يجري وضع الرغبات  كمركزٍ للتفكير السياسي، ثم اختزال الشخصية بغنى مكوّناتها وتطلعاتها، إلى محض رغبتها الجنسية. وبدلاً من أن تُغذّي قيم الرجولة (وهي قيمة ثابروا على تشويهها) والبطولة والمسؤولية والتضحية، أُحيطت هذه القيم بالتشكيك، وخُلق أفراد مشغولون بالمطالبة بحقوقهم عن أداء واجباتهم، ومُسِخ الفرد سياسيّاً واجتماعيّاً وروحيّاً بأن جُعلت هويته وتعريفه كامنيْن في ممارسته الجنسية.

الإطاحة بالأسرة

انقلبت الأوضاع رأساً على عقب. نحن مقبلون على تفكيك آخر مؤسسة نمتلكها، وهي الأسرة. سقط نظامنا السياسي الجامع، وسقطت محاولات استعادته، وألحقت خيراتنا واقتصادنا بدول المركز، وفقدنا أي سيادة على مصيرنا الذي يخُصّنا، وسط هذا كلّه صمدت الأسرة؛ وبكل الضعف الذي أصابها والهشاشة التي نالت منها، استمرّت في إنجاب الأبناء والحفاظ على نسلهم الفكري: فما زلنا نتذكر من نحن، وإلى أي ماضٍ ننتسب، وأي مستقبل نريد. عملت أسرنا عملَ الحزب في تنظيمنا وحمايتنا من كل أنواع الغزو. ليست أُسرنا أسراً مثالية (نعرف ذلك تماماً)، وتعاني في معظمها من الكثير من الإشكاليات (نعرف ذلك أيضاً)، لكن المطروح اليوم ليس إصلاحها بل الإطاحة بها تماماً. 

كما أنّ هذا الحراك لا يهاجم عالم الكبار فقط، بل يجري قصف الأطفال به أيضاً (كما أعلنت ديزني مثلاً عن تحويل نصف شخصياتها لشخصيات "مثلية" الجنس، وهاجمت منظمة العفو الدوليّة الدولَ التي قرّرت حظر أول أفلام ديزني المثلية). إنّ الخطاب الذي سيطارد الأطفال في بواكير استقبالهم للحياة لن يكتفي بأن يستكشف ميولهم ونزعاتهم ليوصيهم بتقبّلها كمصيرٍ أو كابتلاء، بل سيطرح السؤال المربك على كلّ طفل، ليدفعه في سنوات تقلّبه العاطفيّ إلى الانشغال بتحديد هويته الجنسية، ويطرح سويّته التي فطره الله عليها للنقاش، ويفكر في تحويلها، ثم يكتشف لاحقاً أنها ليست ما يبحث عنه فيقفز لأخرى. هكذا مسخوا مسيرة حياته وشخصيته، ووضعوا الهوية الجنسية "كعبة" يقفز حولها الإنسان ويطوف بها مكاءً وتصدية. إننا أمام عملية عنيفة لنزع السواء عن جيل بأكمله.

هذا الحراك يبدأ عمله مبكراً على الأطفال والأجيال القادمة، لأن لاوعيه ووعيه مسكون بكراهية التراتبية والنظام، وتُحرِّكُه غريزةُ فنائه لإفناء الأسرة. إنه لا يتدخل في تربية الأطفال فحسب، بل يضع الدولة والإعلام مكان الأب والأم، نازعين منهما أي قدرة على التوجيه والتربية، كما حدث مع الأب الكندي الذي تحوّلت ابنته القاصر - من خلال عملية جراحية - إلى ذكرٍ غصباً عن إرادته، ثمّ جرى سجنه لإصراره على ندائها باسمها الذي سمّاها به، والأمثلة أكثر من أن تُعدّ لمن يتابع. 

وهذا التوجّه لا يبالي البتّة بتأثير ذلك على الأطفال، بل يمنع مجرّد البحث العلمي مثلاً في آثار نشأة طفل في أسرة من زوجين "مثليين"، أو في العواقب الجسدية والنفسية البعيدة للتحوّل الجنسي، ويرى في مجرّد البحث انحيازاً إيديولوجياً ينبع من "رهاب المثلية". إننا أمام مستوى يتجاوز بكثير ما وصلت له الأيديولوجيات الشمولية في القرن العشرين.  

لا يمكننا أن نغامر في ضرب الأسرة، وإدخالها في صيرورة التشويه الجارية في دول المركز الغربي. يكفي أن تنظر بتجرّد إلى مآلات هذه الأفكار هناك لكي تصاب بالدوار، حيث يجري نزع الأنواع وخلطها وتفكيكها وتذريرها لتعود الأسر بلا معنى ولا قدرة على المقاومة، ويهيم الفرد ضائعاً ممزقاً يصنع الهويّات ليعبُدَها ثم يأكلها عندما يجوع.

من نحن؟

إنّ هذا المقال "لا" واضحة في وجه الأجندة "المثلية"، وفي وجه من يحوّل هذه الممارسة إلى دعوة علنيّة يختار معها أن يبعد نفسه بنفسه عن مجتمعه. وهو في الوقت نفسه مقال يُوَضح مآلات هذه الأجندة لمن لا يعرفها، تلك الأجندة التي تلبس ثوباً بريئاً حين تزعم بأنها مجرّد دفاع صادق عن حقوق فئة مهمّشة، بينما تعمل في واقع الحال كأداة للهيمنة الثقافية وكمنظومة قيمية لا مرجعيّة لها إلا الأهواء، تفتّت المجتمع وتحطّ بكرامة الإنسان حتّى تصبح رغبته هي هويّته!

أن نحمي أنفسنا من أن تصبح رغبتنا  الفردية هي نهاية نضالنا التحرري هو أمرٌ يقع في صلب نضالنا السياسيّ، فالنضال الذي لا يسمو بالرغبات ويُهذّبها فإنّه يُغامر في جعلها (أي الرغبات) موضوعه النهائي. أن نُحدّد أولوياتنا بأنفسنا هو جزء من عملية تحرّرنا من الهيمنة، وأن نحتمي بمرجعيتنا التي تصوغنا جزء أساسي من صيانة العملية التحرّرية نفسها. 

يقع ‏الصراع اليوم حول هوية المجتمع الذي نريده، إنه في صلب مسألة "من نحن؟" التي لم تحسم إلى الآن على المستوى السياسيّ. ونقاشات اليوم ليست ترفاً، إنها تمهد لاشتقاق المستقبل من شكل الحاضر الذي نتصارع على صوغه اليوم.



13 نوفمبر 2021
لماذا تُزعِجهم البسطاتُ؟

على شاطئ بحر غزّة، حيث فرش بائعو الذرة والشاي بسطاتهم لكسبِ أرزاقهم، صارت "الواجهة البحريّة" معلّبةً إذ صمّمت بلديّةُ غزّة…