ما يزال سؤال المرجعيّة الوطنيّة الفلسطينية مطروحاً بإلحاح، في ظل التحديات البنيوية التي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني. هذا السؤال يتقاطع دائماً مع سؤال "ما العمل؟"، ويُعيد فتح النقاش بشأن كيفية بناء مرجعية تمثيلية حقيقيّة تعبّر عن الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده.
ومع كل منعطف تمر به القضية الفلسطينية، يعود السؤال إلى الواجهة: من يمثّل الفلسطينيين؟ وهل هناك من يعكس إرادتهم سياسياً؟ سنوات طويلة من المحاولات جرت للوصول إلى صيغة وطنيّة موحدة، لكنّها ظلت بلا نتيجة حاسمة، لا سيما في حالات الشتات التي لم تحظَ بأي تمثيل حقيقي، وفي مقدّمتها حالة فلسطينيي سوريا.
مرّ أكثر من عام ونصف على "طوفان الأقصى"؛ الحدث المفصليّ الذي بدّل المشهد الإقليمي والدولي، وكان من أبرز تداعياته سقوط "نظام الأسد" وانتصار الثورة السورية، ما خلط الأوراق في واحدة من أكثر الساحات التصاقاً بالقضية الفلسطينية، وعاد سؤال المرجعية ليطرح نفسه بحدّة، خصوصاً لدى فلسطينيي سوريا الذين دفعوا ثمناً فادحاً.
عقودٌ من اللجوء بلا مرجعيّة!
يعيش في سوريا منذ ثمانية عقود، ما يقارب 700 ألف فلسطيني، جاؤوا إليها على دفعات بدأت منذ نكبة فلسطين. وكما هو حال السوريين، تعرّض الفلسطينيون هناك لكل أشكال المعاناة، من قتل وتشريد ونزوح ودمار واعتقال، وانقسموا في موقفهم من الثورة السورية كما انقسم السوريّون أنفسهم، لكن مع اختلاف أساسي: لم تكن للفلسطينيين حاضنة سياسية مستقلة تحميهم أو تعبّر عنهم.
تشير سجلات "الأونروا" و"الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب في سوريا" إلى تسجيل نحو 545 ألف لاجئ فلسطيني ممن لجؤوا بعد النكبة، وقد خضعوا منذ ذلك الحين للقوانين المدنية السورية، إذ مُنحوا حقوقاً قريبة من حقوق المواطن، باستثناء الجنسية والمشاركة السياسية الرسمية.
اقرؤوا المزيد: Impact-se: حرّض على الأونروا اليوم وغداً يوقفون التمويل
هذا الوضع القانوني جاء نتيجة المرسوم التشريعي رقم (260) الذي صدر عن البرلمان السوري في 10 تموز/ يوليو 1956، ووقعه الرئيس شكري القوتلي، في خطوة هدفت لإدماج الفلسطينيين اجتماعيًا من دون المساس بهويتهم الوطنية.
لاحقاً، وفدت إلى سوريا موجات فلسطينية أخرى من لبنان والأردن وقطاع غزة والعراق، خاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحرب الخليج الثانية. هذه الفئات عاشت غالباً في الظل، وتعرّضت للتهميش القانوني والاجتماعي، وتقلّص عددها بشكل حادّ حتى بلغ أقل من 40 ألفاً اليوم.
كانت هُنا مخيّمات!
توزع الفلسطينيون في سوريا على سلسلة من المخيمات والتجمعات المدنية، أغلبها في محيط العاصمة دمشق. وكان مخيم اليرموك (جنوبًا)، أكبر هذه التجمّعات، إذ احتضن قبل الثورة نحو ربع مليون لاجئ فلسطيني، مشكّلاً عاصمة فعلية للشتات الفلسطيني.
إلى جانبه، تنتشر مخيمات أخرى مثل "مخيّم السيدة زينب" (قبر الست)، و"مخيم جرمانا" القريب من طريق المطار، و"مخيم خان دنون" على طريق دمشق - درعا، و"مخيم خان الشيح" غرب العاصمة، على طريق القنيطرة - هضبة الجولان، ويُعدُّ الأقرب إلى الأرض الفلسطينية المحتلة، إذ لا يبعد عنها سوى نحو ستين كيلومتراً.
اقرؤوا المزيد: هنا كان مخيم اسمه اليرموك
شرق دمشق، يقع "مخيم الحسينية" الذي سكنه في الغالب نازحون من "مخيم جرمانا". أما "مخيم السبينة" جنوب العاصمة، و"مخيّم الرمدان" على طريق دمشق - بغداد، فيستضيفان أعداداً كبيرة من اللاجئين الذين نزحوا عقب النكسة، وقد لجأ أغلبهم إلى الجولان قبل أن يضطروا إلى النزوح من جديد.
هذا إضافة إلى تجمّعات فلسطينية أخرى داخل أحياء دمشق المختلفة، مثل: ركن الدين، دمّر، باب شرقي، مشروع دمّر (الشام الجديدة)، حي الأمين "حي اليهود/ الإليانس"، دوما، كفر سوسة، المزة القديمة، جوبر، القابون، برزة (مخيم حطين)، وتل منين؛ فضلاً عن الضواحي المحيطة مثل صحنايا وقدسيا وحرستا والمعضمية، وبعض قرى غوطة دمشق (داريا، كفر بطنا، زملكا، عربين، حمورية، يلدا، المليحة، ببيلا).
خارج العاصمة، ينتشر الفلسطينيون في مخيمات مثل "مخيم النيرب" و"مخيم حندرات" (عين التل) في حلب، و"مخيم الوليد" في حمص، و"مخيّم العائدين" في حماة، و"مخيم الرمل الفلسطيني" في اللاذقية. إضافة إلى مخيمات في درعا جنوب البلاد، إلى جانب تجمُّعات صغيرة في منطقة حوران.
بمرور السنوات، ونتيجة للحرب، تراجع عدد اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في هذه المخيّمات بشكل كبير، بعدما تعرّض العديد منها للدمار الكامل أو الجزئي، وأجبر سكانها على النزوح داخل سوريا أو إلى دول الجوار.
متى وصلت؟ تصنيفات الفلسطينيين في سوريا
منذ لجوئهم الأول إلى سوريا عقب نكبة 1948، صنّف الفلسطينيون هناك ضمن فئات قانونية واجتماعية متعددة، تركت آثاراً ملموسة على حياتهم اليومية وحقوقهم.
أكبر هذه الفئات ضمّت من دخلوا سوريا بين 1948 و1956، وهم الذين نالوا بموجب المرسوم التشريعي رقم 260 كامل الحقوق المدنية تقريباً، باستثناء الجنسية والمشاركة السياسية الرسمية. هؤلاء ارتبطوا بالهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب والأونروا، ونُظم وجودهم مؤسساتيًا بدرجة ما.
أمّا الذين دخلوا بعد 1956، خصوصاً في أعقاب نكسة 1967، فقد سُجّلوا لدى الهيئة والأونروا، لكنهم واجهوا قيوداً على فرص العمل، إذ لم يسمح لهم بالتوظيف الدائم أو المشاركة في الجيش السوري.
ثم جاءت فئات أخرى أشد هشاشة، أبرزها من وفدوا بعد أحداث "أيلول الأسود" عام 1970 في الأردن، ومعظمهم من فلسطينيي غزة، الذين فقدوا أوراقهم الثبوتية وأصبحوا يصنفون ضمن "فاقدي الوثائق"، محرومين من معظم الحقوق المدنية ومن دعم الأونروا الرسمي.
لاحقاً، مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحرب العراق عام 2003، دخلت مجموعات فلسطينية إضافية إلى سوريا، لكنهم ظلوا هامشيين اجتماعياً وقانونياً، بلا حماية حقيقية ولا اندماج فعليّ.
وهكذا أنتجت مراحل اللجوء المتعاقبة مشهداً فلسطينياً سورياً معقّداً، حيث اللاجئون ليسوا على قدم المساواة، بل تحدد مصايرَهم تفاصيلُ دقيقة متعلقة بتاريخ وصولهم ومكان قدومهم.
الثورة تطرق أبواب المخيّم
مع اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، وجد اللاجئون الفلسطينيون أنفسهم في قلب العاصفة. لم يكن ممكناً البقاء على الحياد في وجه قمع لا يفرّق بين سوري وفلسطيني. وسريعاً، تحوّلت المخيمات إلى مساحات صراع، وقُلبت بيوت اللاجئين إلى جبهات، واختفى الفارق بين نكبة الأمس ودمار الحاضر.
تُقدِّر أرقام "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا" أنّ نحو 438 ألفاً من فلسطينيي سوريا ظلوا داخلها، وأنّ أكثر من 60% منهم نزحوا مرّة واحدة على الأقلّ داخل البلاد خلال سنوات الحرب. بينما اضطر نحو 200 ألف منهم إلى مغادرة سوريا كلياً، موزعين بين لبنان والأردن وتركيا ومصر وحتى قطاع غزة. البعض الآخر هُجّر قسراً إلى إدلب، في واحدة من أكبر عمليات الإخلاء المنظمة بحق الفلسطينيين منذ النكبة.
اقرؤوا المزيد: اللجوء الفلسطينيّ الجديد.. أفق في بطن السّواد
وفيما يتعلق بالمخيمات، فقد تعرّض بعضها لدمار شبه كامل. مخيم جندرات في حلب ومخيم درعا جنوب البلاد شهدا دماراً تجاوزت نسبته 80%، بينما قُدرت نسبة الدمار في مخيم اليرموك بنحو 70%، مع تهجير 90% من سكانه جرّاء الحصار، وإجبار 2500 منهم على الإخلاء القسريّ والتوجه إلى إدلب في الشمال السوري. أمّا مخيمَا خان الشيح والسبينة فقد تعرّضا لتدمير جزئي، وأُجليَ سكانهما قسراً على مدى سنوات.
وفي أقبية المخابرات السورية، كانت للفلسطينيين حصتهم الثقيلة من الانتهاكات. تشير التوثيقات إلى مقتل أكثر من 4 آلاف لاجئ، واعتقال أكثر من 3 آلاف آخرين، منهم نساء وأطفال، وأن أكثر من 600 قضوا تحت التعذيب.
الثورة وما قبلها.. فشل المرجعيّة، وفصائل في حضن النظام
قبل الثورة، لم تكن لفلسطينيي سوريا مرجعية تمثيلية حقيقية. ما كان موجوداً يمكن وصفه بأنّه حراك محدود، شكّل طبقة سياسية ضيّقة توزّعت بين الفصائل القائمة، التي أدت دور الحوامل السياسية، وبين اتحادات نقابية ومؤسسات أهلية ومجتمعية، حاولت أن تلعب دوراً رديفاً.
ظل هذا المشهد هشاً ومجزأً، من دون أن يفرز مرجعية موحّدة تعبر عن إرادة اللاجئين أو تطلعاتهم، وكشف عمق الفراغ السياسي والاجتماعي الذي كانوا يعيشونه.
ومع اشتداد الأزمة السورية، لم تصمد حتى هذه الترتيبات الشكلية. الفصائل الفلسطينية انكشفت على حقيقتها، بين من تورط فعلياً في قمع اللاجئين الفلسطينيين، ومن لاذ بالصمت أو التردد. فصائل كـ "الجبهة الشعبية - القيادة العامة"، و"فتح الانتفاضة"، و"لواء القدس"، و"جيش التحرير"، انحازت إلى جانب النظام، وشاركت في حصار المخيمات وقصفها، وأدمجت سرديتها بالكامل في رواية النظام. فصائل أخرى، كـ "الجهاد الإسلامي"، اكتفت بإغاثة خجولة لم تَسلم من نقد النظام ولا اللاجئين، بينما ظلت "الجبهة الشعبية" و"الديمقراطية" أسيرتَي تذبذب سياسي لا يعبّر عن موقف مستقل.
حركة فتح، براغماتية كعادتها، اقتنصت لحظة الفراغ بعد خروج حماس، لكنها لم تقدّم دعماً فعلياً، بل سجّلت حضورها في مشاهد غير لائقة: زيارات لدمشق خلال الحصار، واحتفالات رسمية في سفارة السلطة، بينما كانت المخيمات تحترق.
ذروة هذا التورّط تمثلت في الاجتماع الذي جمع الفصائل من جديد ببشار الأسد بعد عودة حماس للعلاقة، في لحظة بدا فيها كل شيء وكأنه عاد إلى الوراء.
محاولات إعادة بناء المرجعية
مع سقوط نظام الأسد، ظنّت الفصائل الفلسطينية أن بإمكانها استعادة زمام المبادرة، فقد بادر 14 فصيلاً، بحضور قائد "جيش التحرير الفلسطيني"، إلى عقد اجتماع في سفارة فلسطين بدمشق، معلنةً تشكيل لجنة للعمل المشترك لتمثيل فلسطينيي سوريا.
غير أن هذا الإعلان لاقى سخطاً واسعاً بين فلسطينيي سوريا. بالنسبة إليهم، لم يكن مجرد اجتماع سياسي، بل طعنة جديدة، فالفصائل، التي فشلت في حمايتهم وشاركت في نكبتهم الثانية، قررت أن تتحدّث باسمهم من فوق ركام المخيّمات التي ساهمت في تهديمها، من دون أن تتجرأ حتى على الاعتذار أو التراجع.
اضطرت السفارة الفلسطينية لاحقاً إلى التراجع، وعقدت اجتماعاً مصغّراً ضمّ أربعة فصائل فقط من فصائل منظمة التحرير، متنصلة عملياً من اللجنة التي أعلنت عن تشكيلها.
بموازاة هذا الحراك الفصائلي المتعثّر، حاولت بعض الاتحادات المهنية، مثل "اتحاد الحقوقيين الفلسطينيين"، إعادة تقديم نفسها عبر بيانات ودعوات شكلية، لكنها فشلت.
وفي 19 نيسان/ أبريل 2025، اعتقلت قوات الأمن السورية كلاً من مسؤول حركة الجهاد الإسلامي في سوريا خالد خالد، ومسؤول اللجنة التنظيمية للساحة السورية أبا علي ياسر في العاصمة دمشق، وذلك بعد 48 ساعة من الزيارة الأولى لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ما يُشير إلى أن عمل التنظيمات الفلسطينية ربما لن يكون سريعاً وسهلاً في بيئة سياسية معقدة مثل الساحة السورية، التي تمر بمرحلة من النهوض والبناء.
اليوم، يجد فلسطينيو سوريا أنفسهم أمام لحظة فارقة. فمع سقوط النظام الذي طالما هيمن على تفاصيل حياتهم، ومع انكشاف عجز الفصائل عن تمثيلهم أو الدفاع عن قضاياهم، باتت الحاجة أشد إلحاحاً إلى بناء مرجعية وطنية حقيقية.
اقرؤوا المزيد: كيف أدارت "حماس" جهاز الحكم في غزّة؟
في مخيمات مثل النيرب، والعائدين (في حمص وحماة)، السبينة، خان الشيح، ودرعا، نشأت أطر أهلية بجهود فردية وجماعية من أبناء المخيم أنفسهم. شخصيات مستقلة وفاعلون محليون بدؤوا تنظيم هيئات خدمية صغيرة، وخلق آليات تشاورية. هذه البذور، وإن كانت غير مؤسساتيّة بعد، فإنها تعبّر عن تحوّل عميق في المزاج العام.
يتوزع التفكير العملي حالياً بين خيارين: الأول، انتظار استقرار الوضع داخل سوريا لإجراء إحصاء شامل وبناء قاعدة بيانات جديدة تمهيداً لانتخابات محلية واسعة النطاق؛ والثاني، الانطلاق فوراً في عملية انتخابية مرنة تشمل فلسطينيي سوريا في الداخل والخارج، باستخدام أدوات التواصل والمشاركة المتاحة، من أجل خلق هيئة انتقالية تمثيلية.
في الحالتين، المطلوب ليس الصندوق فحسب، بل البنية الداعمة له؛ روافع وطنية جديدة، مؤقتة وتوافقية، لا تضم من تلطخت أيديهم بالدم، ولا تعيد إنتاج من فشلوا في حمايتنا. الأهم أن تكون هذه العملية قائمة على الحوار، لا على الإقصاء، وعلى خدمة الناس لا التسلط عليهم.
إنّ نجاح هذه التجربة لن يكون إنقاذاً لفلسطينيي سوريا فحسب، بل نموذجاً يمكن تعميمه في الشتات، وخطوة أولى في رحلة طويلة نحو استعادة التمثيل الشعبي الفلسطيني، انطلاقاً من كوننا حركة تحرر وطنيّ.