15 فبراير 2024

غزة ما قبل هاشم: من إرث أسمائها تحت سمائها

غزة ما قبل هاشم: من إرث أسمائها تحت سمائها

منذ أن وُلِدت على تل العجول، حيث أبكر موطنٍ خلع فيه أول غزيٍّ نعليه، وغزّة مدينة بوّابية الموقع ما بين برّين: بَر الهويّة الشاميّة شمالاً، وبَرّ الهوى المصريّ جنوباً. ليس فحسب، فهي مدينة حافيّة الموضع كذلك، تفصل الصحراء من شرقها عن البحر من غربها، لتظلّ غزة مدينة محفوفة ما بين قَدر الرمل وغدر الطين. 

ومع ذلك، بقيت غزّة على عهد هاشمها، دون أن تتخلّى عن ملامحها السامية مرّة، فهي عربيّة المنشأ من خيط مهدها الأول، مذ كان يؤمها المعينيون السبئيون من قبل الألف الثانية قبل الميلاد، حُفاة قادمين من اليمن، ليقترحوا توابل بخورهم وطِيبهم على البحر عندها.

وحتى لمّا أتى الغزو الفرنجي بهمجيته الصليبيّة على كل حجرٍ في مدن وقرى ساحل فلسطين، من حِمى عسقلان جنوباً إلى حامية عكا شمالاً في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد، ظلّت غزّة، لوحدها، سالمةً على سيف البحر، ولم ينعق فوق طلولها بومُ خراب الصليبيين يوماً.

فائضٌ  من الأسماء

ليست غزّة بنت قرنٍ من قرون الزمن، ولا وليدةَ عصرٍ من عصور الدول، كما يقول عارف العارف في مُقدمة كتابه عنها، إنّما هي أمّ الأجيال كلها، قديمة قِدم التاريخ منذ أن سطّر صحائفه الأولى. 

وقد اختلفت المصادر وبطون الكتب في أصل اسم غزّة ومعناه، فقيل: "غزّة" لأنّها مشتقّة من "العِزّ أو المِنعة والقوّة"، وهذا ما يؤكده وليام سميث في قاموس العهد القديم1العارف، عارف، تاريخ غزة، دار أضواء السلف، ص7.. بينما يقول آخرون بأنها تعني "الخزينة أو الكنز" ومرد ذلك إلى الفارسية التي تعني كلمة "غازا" فيها "الكنز الملكيّ"، وذلك يتفق مع القول بيونانية اسمها الذي يعني أيضاً "الثروة". علماً بأن غزّة قد مُنحت اسمها، قبل أن يغزوها الفرس، ويهبطها اليونانيون، مما يفند الأصل الفارسي أو اليوناني لمعنى اسمها. 

أما التفسير العربيّ لأصل التسمية، وبحسب صاحب معجم البلدان، فيقول: "إنّ العرب تقول قد غزّ فلان بفلان واغتز به إذ اختصه من بين أصحابه"، ما يعني أن من بنوا غزّة، قد اختصوا موقعها من بين المواقع الأخرى على حوض البحر لبنائها فيه.

صورة قديمة لمدينة غزة، (المصدر: موقع فلسطين في الذاكرة)

لقد تبدّل لفظ اسم المدينة مع تبدل الحضارات والدول عليها مراراً، فالكنعانيون الذين نبتوا فيها في عهدٍ لا يُعرف له تاريخ، سمّوها "هزاتي"، واعتبروها الحدَّ الجنوبيّ لبلادهم. كما كانوا أول من عبد الإله الكنعاني القديم "بعل"، الذي صار لاحقاً في غزّة الوثنية إله الشمس الشهير "هيليوس". 

أما الفراعنة الذين انتبهوا إلى أن لا ازدهار لمِصرهم إلا بالسيطرة على غزّة، فقد وردت المدينة في أسفارهم باسم "غازاتو أو غاداتو". ولمّا أضحت غزّة مُلكاً خالصاً لتحتمس الثالث، أَطلق عليها اسم "المدينة التي حاصرها الحاكم"، وعلى هذا اللقب ظلّت مع حكم رمسيس الثاني عليها، لتغدو غزّة ذلك الدهليز الذي يتوق إليه كل فرعون2المبيض، سليم عرفات، غزة وقطاعها: دراسة في خلود المكان.. وحضارة السكان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987، ص 84.. ومنذ ذلك الحين، ما بين الألفية الثالثة والثانية قبل الميلاد، والعدوى المصرية تخزُ غزّة وأهلها في السُحنة واللهجة والرداء وعادات الفرح والموت إلى يوم الغزيين هذا.

أوّل نفق 

ليس النفق في فكرته ضيفاً حديثاً في رمال غزّة، فأول وأشهر نفقٍ حُفر في بطن المدينة، يعود إلى زمن الهكسوس أو "الملوك الرعاة" فيها، والذين نزلوها في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، فحفروا من باب المدينة إلى برّها نفقاً تجاوز طوله 500 قدم في حينه، حتى يلوذ سكانها به إذا ما ألمت بهم ملمة أو كارثة. 

ويُحسَب للهكسوس أنهم أوّل من أدخلَ الخيل إلى مصر وغزّة والبلاد عموماً، للحد الذي قيل فيه بأن قبر الهكسوسي في غزّة كان يتسع له ولحصانه معاً3العارف، عارف، المرجع السابق، ص21.. وقد عثرت الحفريات الحديثة في تل العجول على بقايا عظام بشرية اختلطت بعظم الخيل في القبر نفسه.

صورة قديمة لغزاوي يمتطي حصاناً. (المصدر: موقع فلسطين في الذاكرة)

وكما تبدّلت غزّة في أسمائها، فقد تقلّبت في موقعها على تلك البقعة الجغرافيّة غير مرة، إذ شدّها البلستينيون عندما هبطوها عن حافة البحر في تل العجول، وأعادوا بناءها إلى الداخل عند حافة وادي غزّة، وأُحيطت لأول مرّة بسور، لتغدو في موقعها الذي ظلّت تدلُ عليها الخرائط فيه طوال تاريخها الحديث. كانت غزّة واحدةً من المدن الخمس الشهيرة، التي بناها الفلسطينيون القدماء: غزة وأشدود وأشقلون وعقرون وغات. وظلت بعض خرائط الرحالة والحجّاج والمستكشفين حديثاً، تعرّف فلسطين بحدود جغرافيا تلك المدن الخمس. 

إلى هذه المرحلة تعود نشأة سيرة صراع القبائل الفلسطينية مع بني إسرائيل ومملكتهم يهودا، إذ أخضع يهوشع بن نون (1189 ق.م) في عهده كلَّ المدن الكنعانيّة إلا غزّة التي سمّاها "عزّا"، ظلت عصيةً شاقّة على بني إسرائيل عصا الطاعة، في صراع ولّد كل تلك السردية عن غزّة وجبّاريها في مواجهة "شمشوم الجبّار" وأسطورته.

في سنة 743 ق.م، داهم الآشوريون غزّة التي أطلقوا عليها اسم "عزاتو". وفي عهد ملكهم سرجون، أصبحت غزّة تُسمى "مارنا"، أي سيدنا. لم يرحب الغزّيون بغزو الفُرس لهم سنة 525 ق.م، بل قاوموهم بضراوة، وحكاية الأصل الفارسي لتسمية غزّة تعود إلى تلك المرحلة، حين قام قمبيز ملك الفرس بدفن كنزه في رمال غزّة أثناء مروره بها في طريقه إلى مصر، فنُسبت المدينة في تسميتها للفرس، إذ تعني كلمة غزّة بالفارسية "الكنز"4المبيض، سليم، المرجع السابق، ص113.. ترك الفُرس في غزة قشلاقاً5القشلاق هو المَشتى أي عِزبة أو مكان للمبيت المؤقت شتاءً. يدل على مرورهم بها، والأهم منه كان عِملة نقودهم المعدنية، إذ يُقال إنّ أوّل عِملة صُكّت في فلسطين حملت اسم غزّة تحديداً، ما يدلّ على عظمة المدينة وبأسها في حينه.

أوّل حصار

"الحصار"؛ يعني غزّة طبعاً، وكأن حِصارها سُنّة من سُنن الدهر ودورانه عليها. كان أول حصار ضربه الدهر على المدينة وأرّخت له الكتب، عندما اصطدمت جيوش الإسكندر المقدوني الكبير في سنة 332 ق.م بأسوار غزّة، فحاصرها أربعة شهور، قبل أن يدخلها ويقتل ما لا يقل عن عشرة آلاف من رجالها، للحد الذي عجنت فيه حوافر خيل الإسكندر لحم أبناء غزّة بشظايا طين فخّارهم. ظلّت غزة وحصارها ندبةً موشومةً في كتف الإسكندر الكبير، بفعل رمية حَربة رماهُ إياها أحد الغزيين، كما تقول مصادر ذلك الحصار6الطبّاع، الشيخ عثمان مصطفى، إتحاف الأعزة في تاريخ غزة، تحقيق: عبد اللطيف زكي هاشم، مكتبة اليازجي، غزة، 1999، ج1، ص72.

حصار غزة عام 332 ق.م. (المصدر: موقع فلسطين في الذاكرة)

عَرفَ اليونانيون غزّة باسم "رازا"، وما الذي لم يلّقبوا به غزّة؟ "المدينة العظيمة" و"غزّة المقدسة والمستقلة" و"غزّة المُضيئة" وكذلك "سيدة البخور" 7المبيض، سليم، المرجع السابق، ص125.لأنها كانت بلد البخور والطِيب واللِبان والمرو، وهي طيوب يَمنية الموطن، ما تزال تفوح بموقف يَمنها إلى يوم الغزيين هذا. 

ومما خلّفه اليونانيون أثراً في غزّة، كان إنشاؤهم لميناء "ميومة" على حَرف البحر، والذي حمل في اسمه ذلك الإرث الطقوسي المتصل باختلاط ماء النهر الحلو بماء البحر المالح، الذي عرفته وقدّسته شعوب حوض المتوسط قديماً. وقد تحول ميومة الميناء، إلى مدينة بذاتها في حينه، أُطلق عليها "مدينة الزهور"8المرجع السابق، ص123..

ومع أنّ الغزو اليونانيّ لغزّة، كان غزواً استيطانيّاً كاد أن يُطيح بملامح عُروبة المدينة بعد تهجير أهلها منها، إلا أنّ بعض المؤرخين اعتبروه غزواً "زيتونياً"، فقد تحول برّ المدينة مغرساً لشجر الزيتون مع قدوم اليونانيين. عَرفَ تراب غزة الزيتون بعد حربٍ وحصار، واجتُثّ من تُرابها بعد حرب وحصار أيضاً، فقد جاءت الحرب العظمى الأولى سنة 1917م على زيتون غزّة عن بِكرة أبيه، بعد أن أطعمهُ الأتراك وقوداً لبابور قِطارهم، وحطباً لنار تدفئة جندهم، ليغادر الزيتون غزّة بلا رجعة.

قوات الاحتلال البريطاني تقوم بعملية إنزال لقواتها على شاطئ غزة لاحتلالها عام 1917م . (المصدر: موقع فلسطين في الذاكرة)
قوات الاحتلال البريطاني تقوم بعملية إنزال لقواتها على شاطئ غزة لاحتلالها عام 1917م . (المصدر: موقع فلسطين في الذاكرة)

نهاية الوثنية

"مينوا" هو الاسم الذي أطلقه الرومان على غزّة، وقد قالوا عنها كذلك "المدينة الشريفة"، إذ أضحت مقاطعةً رومانيّةً بعد حربٍ شنّها عليها القائد الروماني يانيوس وحصاره لها الذي دام سنة كاملة من عام 96 ق.م. نظر الرومان للغزيين على أنهم شعبٌ مستقل بذاته، ولمّا صكّ الرومان نقودهم فيها، نقشوا على وجه عِملتهم اسم "شعب المدينة"، وعلى وجهها الآخر حرف "ميم باللاتينية" في إشارة لمعبد آلهتهم "مارنا"9العارف، عارف، المرجع السابق، ص138.، إذ كانت غزة في أوج وثنيتها في حينه، وعلى موعدٍ مع نصرانيتها في ظلّ حكم الرومان عليها. كان لغزّة الرومانية تقويمها الذي كان يسبق التقويم الميلادي بواحد وستين عاماً، وسُمّي التقويم "الغزي الهدرياني" نسبةً للإمبراطور الرومانيّ أوريليوس هادريانوس الذي زارها وثبّت تقويمها فيها سنة 129م10المبيض، سليم، المرجع السابق، ص136.

في الوقت الذي صارت فيه غزّة الرومانيّة سوقاً لبيع العبيد، خصوصاً من اليهود الذين ضاق الرومان بهم ذرعاً في البلاد، كانت المسيحية تتسلّل خرساء إلى المدينة، وتحديداً عبر البحر في منطقة الداروم، حيث أقام القديس "هيلاديون" سنة 290م عندها منسكاً، صار يُعرف بـ " دير الروم"، يُقال بأن القديس أنزل فيه ألفي راهبٍ لتبدأ مع دير الرهبان الروم حكاية النواة الأولى لنشأة دير البلح وكذلك المسيحية في غزّة. 

لم تُطح المسيحية بالوثنية في غزّة بمجرد إقامة دير الروم في الداروم، إنما استمر الصراع بينهما مدة قرن آخر من الزمن، وغزّة المدينة كانت ما تزال متمسكة بوثنيتها خلف أسوارها، وتحت سقف معبد إلهها "مارنا". بينما المسيحية تطوقها من شاطئ البحر، بدءاً بدير الروم في الداروم، مروراً بصوامع النسّاك في ميوما البحرية التي أضحت قسطنديا على اسم الإمبراطور قسطنطين بعد أن اعتنق هذا الأخير النصرانية وزار غزّة سنة 321م، وصولاً إلى أديرة رهبان وادي العريش.

وما إن صارت غزّة في ذمة البيزنطيين أواخر القرن الرابع للميلاد، حتى اقتحمت المسيحية غزّة المدينة بهدم معبد إله وثنيتها مارنا، وإقامة أول كنيسة على أنقاضه بنفس حجارته، هي كنيسة أفذوكسيا، نسبةً للإمبراطورة أفذوكسيا البيزنطية في مدينة القسطنطينية، التي أنفقت على بناء الكنيسة من كيسها الخاص، ودشنتها سنة 406م، لتغدو كل غزّة بعدها قسطنديا في اسمها. لاحقاً وبعد أن فتح المسلمون العرب سنة 634م مدينة غزّة، أقاموا أول جامعٍ فيها، هو الجامع العمري الذي بُني على أنقاض كنيسة أفذوكسيا نفسها، في نفس موقع الإله مارنا الوثني بحسب السيرة العُمرية للجامع.

مشهد عام يحيط بمسجد السيد هاشم بن عبد مناف في غزة 1911م. (المصدر: موقع فلسطين في الذاكرة)
مشهد عام يحيط بمسجد السيد هاشم بن عبد مناف في غزة 1911م. (المصدر: موقع فلسطين في الذاكرة)

في ظل غزّة البيزنطية، كانت أخفُ جِمال قوافل قريش والجزيرة العربية، ترسمُ بعبورها الصحراء خرائط مسار "رحلة الصيف" إلى بر الشام بدءً من غزة، تماماً مثلما كانت ترسمُ خرائط مسالك "رحلة الشتاء" جنوباً. وفي حينه، كان هاشم بن عبد مناف جد نبينا العربي الكريم، ينزل غزة ويهشّم الثريد فيها، لتحمل غزة من عادته تلك اسمها لاحقاً؛ "غزة هاشم". وإلى ذلك الحين كان العرب القرشيون يُطلقون على غزّة اسم "حمراء اليمن".