قد رثيت كثيراً من الأصحاب والرفاق في هذه المقتلة، لكنني وبعد عام من رحيلك لا زلت عاجزاً عن رثائك يا حبيبي ونسيبي وأخي ومعلمي، لم تسعفني الحسرات والأحزان بما يكفي لرثاءٍ واحدٍ يليق بأولئك الذين لا تكفيهم لغة واحدة ولا دهر واحد ولا فؤاد واحد لذكر مآثرهم وحجم خسارتنا بهم.
كيف يسعنا أن نرثي آلاف الرجال من أمثالك يا معتز؟ ولا أدري إن كان سيكفينا قرن كامل من الزمان كي نعطي هؤلاء الفتيان حقهم من الرثاء والحزن والبكاء!
عشت حياتك بسيطاً في الظل، وهبت حياتك كاملة لفكرة واحدة ودفعت حياتك ثمناً للحرية التي آمنت بها، لم تحلم أن يعرفك الناس ولا أن تكون قائداً كبيراً، لكنك كنت بما تميزت به من الحكمة والرزانة وسعة الأفق.
لم تكتب عنك الصحف ولم تعلن خبر رحيلك الشاشات، لكن كل ذلك لا يهم، رفاقك يعرفون من أنت، وحجارة الأرض تعرف صنيعك، تلال الشرق وسوافي الجنوب تشهد لك، وكفى بشهادة الأرض لعشاقها.
عرفت أبا البراء مذ كنت فتى صغيراً، يكبرني بثلاث سنوات، لكنه كان أكبر قدراً ومقداراً، نحيل الجسد عظيم البأس، رقيق القلب شديد الصبر، طلق الوجه عزيز النفس، كأن جسده النحيل قد جمع الفضائل كلها في ثوب شاب بسيط غير متكلف.
كنا نقرأ الكتب وهو يفهم المعاني، نحن نتعلم في المدارس وهو يكتسب المعارف، نحن نحفظ القرآن وهو يعلمه للفتيان، نحن ننشغل بأمور دنيانا وهو ينشغل بأمور دنيانا وديننا متفكراً مصلحاً داعياً، حكيماً بين الشيوخ إذا اجتمعوا، ورجلاً بين الشبان إذا التقوا، وفتى مع الأشبال إن احتفلوا.
جاء الخبر باكراً فخرجت إليك منتحباً، أنا الذي لم أعد أقوى على مفارقة مزيد من الأحباب، وصلت إليه بينما كان جثمانه قد وصل إلى نهاية شارع عمر المختار في النقطة المرتفعة التي تطل على حي الشجاعية، الشجاعية التي عشت فيها وعشقتها، كان جثمانك ممدداً ملفوفاً بكفن أبيض ناصع، كانت أشعة الشمس الرقيقة تنعكس توهجاً على وجهك المخضب بالدم.
وجدنا وصيته بين ملابسه الممزقة الدامية، دوّن فيها وصايا جامعة وذكر كل صغيرة وكبيرة من الحقوق العامة والخاصة التي يطلب إبراء ذمته منها، أمور صغيرة بسيطة لكنها ليست كذلك لرجل يعرف حقوق الناس فلم يتخطاها حياً ولا ميتاً، ليت لهذه الوصية أن تنتشر فيرى الناس كيف تكون صفات الشهداء المصطفين الذين لا يفرطون في حقوق الناس والأوطان والرفاق وكيف يكون المرء مع أهله ومعارفه والناس في المعاملات.
رحل أبو البراء ليس له من الدنيا إلا جهاده وصبره وتلاميذه الذين رباهم على المكارم، ما ترك خلفه لا مالاً ولا عقاراً وإنما إرثاً من الإعداد والسمعة الطيبة التي سبقته في غزة من شمالها إلى جنوبها.
ثلاث صفحات وصية الرجل، ستصبح يوماً ما نموذجاً تعليمياً لحفظ الحقوق الخاصة والعامة، رحل عن الدنيا في صلاة الفجر، من أهل الصف الأول، جائعاً، صابراً مقبلاً غير مدبر ليس له من الدنيا إلا ما دوّنه في نهاية وصيته لزوجته وأبنائه وأهله، بتكراره: "فما عند الله خير وأبقى".
وكأني بكعب بن زهير قد قال ما قاله يوماً فيك وفي أمثالك:
"صموت وقوّال فللحلم صمته
وبالعلم يجلو الشك منطقه الفصلُ
فتى لم يدع رشداً ولم يأت منكراً
ولم يدر من فضل السماحة ما البخلُ
به أنجبت للبدر شمس منيرة
مباركة ينمي بها الفرع والأصلُ"
حزني عليك مؤجل يا صاحبي، حزن التلميذ على أستاذه العالم، وحزن الرفيق على رفيقه الحاني، وحزن المريد على حكيمه الفاهم، حزني عليك لا يموت ولا يزول ولا يفنى ولا ينقضي ولا يجف ولا يرتحل، حزن متجدد ثابت عميق أبد الدهر.