حضّر مصعب سلاحه وجعبته العسكرية، تفقّدهما جيداً، ورتّب ذخيرته بعناية، ليس استعداداً لخوض اشتباكٍ جديد، وإنما ليكشف لعائلته ما لا يعرفونه عن ويبلّغهم بما ينتظرهم في الأيام القادمة: "هذا سلاحي، وهذه عدتي، وأنا اخترت طريقي".
خلال ذلك، كان قد شمّر عدد من شباب مخيّم الفارعة، جنوب طوباس، عن سواعدهم، وارتدوا جعبهم العسكرية وحملوا أسلحتهم بعد أن كتبوا وصاياهم، ورصفوا أرض المخيم وأزقته بالعبوات المتفجرة. ومن ضمن التجهيزات أنّهم نصبوا الشوادر، وأغلقوا مداخل المخيم بالسواتر الحديدية، وتوزّعوا على مهام المراقبة والرصد، استعداداً لمرحلة جديدة عنوانها: كتيبة الفارعة.
قائد الكتيبة مع ابنته
جالساً في بيته، وحوله طفلته الوحيدة أرجوان، ابنة الأربع سنوات، تشاكسه وتُلاعِبُه. لم يكن مصعب سليمان سرحان (33 عاماً)، المكنّى بأبي الرضوان، يرتدي بيجامته في هذه اللحظة العائلية شديدة العاديّة، بل كان يرتدي جعبته العسكرية، ويضع إلى جانبه بندقيته، متأهباً لأي اقتحام مفاجئ قد يشنّه جيش الاحتلال على مخيم الفارعة، فهو مذ التحق بالكتيبة ومذ أصبح قائدها وهو متيقن أنَّ الطريق الذي اختاره لن يكون ثمنه إلا الدم، دمه هو.
"أكثر شيء بحب أوصي عليه هو بنتي، إنه تحفظ القرآن، وتكون من الصالحات البارات"، يقول مصعب موصياً، فمنذ 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 جهّز وصّيته ووضعها جانباً إلى أن يجيء موعد فتحها.
أول ما يُعرّف مصعب به نفسه، بأنه ابن قرية الكفرين المُهجّرة قضاء حيفا، وأنه لاجئ وُلِدَ في مخيم الفارعة، وتفتّح وعيه في انتفاضة الأقصى (2000 - 2005). وعندما يتذكر شيئاً من طفولته، لا يحضره إلا مشهد من سنين طفولته الأولى، وهو يقف بجانب والده بينما يمرّ ضابط الاحتلال ومعه مجموعة من الجنود وسط المخيم. وأبرز ما يُعرّف به اليوم أنّه قائد "كتيبة الفارعة".
يتحدث مصعب لـ "متراس": "كل التراكمات إلي عايشناها منذ تهجير جدي عام 1948، وما تبعها من سنين مرت علينا فيها انتفاضات وهبات، شكلتنا اليوم وولّدت بداخلنا حقد على العدو، مش طبيعي إنه يمر علينا كل الدمار والشهداء والأسرى والتنكيل بدون ما يتحرك فينا إشي، وبدون ما يفور دمنا"، ثمّ يستدرك: "وجودنا ككتيبة اليوم، هو ردة فعل طبيعية على كل ما عايشناه ونعايشه".
ظهرت كتيبة الفارعة عام 2023، أي بعد نحو عامين من بدء ظاهرة تشكّل الكتائب المسلّحة شمال الضفّة عام 2021. إلا أنّ أبناء المخيم عُرِفوا بـ"فزعاتهم" للكتائب والمجموعات المُسلّحة التي نشأت في نابلس وجنين وطولكرم، سواء في الإعداد والتحضير أو في التصدي لاقتحامات جيش الاحتلال. وقد نشطوا في البلدة القديمة في نابلس، والتصدي لاقتحام المستوطنين لقبر يوسف، وصولاً إلى الاشتباكات في مخيم جنين ومخيم نورشمس. ويُرجع مصعب التأخر في تشكيل الكتيبة وإعلانها في مخيم الفارعة لعدة أسباب، منها: عدم وجود الإمكانيات اللازمة، ووجود أطراف وجهات حرصت على عدم تشكل حالة وطنية في المخيم وإبقائه خامداً، وفراغٌ سببه غياب تنظيمات المقاومة، وأخيراً استنزاف المخيم منذ سنوات بالاقتتال العائلي.
اقرؤوا المزيد: "لا تُطلِقوا رصاصَكم في الهواء".. من هي كتيبة جنين؟
ورغم ذلك كله، اشتدّ عود الكتيبة خلال معركة "طوفان الأقصى" التي عبأت شبابها بمعاني الجهاد. يقول مصعب: "من 7 أكتوبر تبين قديش إسرائيل دولة ضعيفة، ودولة جبانة.. هما تفوقوا علينا بالعدة والعتاد صحيح، ولكن بالروح والجرأة والإيمان إحنا نتفوق عليهم، ووصلنا لمرحلة نقدر نوقع فيهم إصابات في الجنود والآليات". لذا، أصبح طموح الكتيبة تحقيق النصر "كأصل للجهاد"، كما يقول مصعب، وقد أخذ وشباب الكتيبة على عاتقهم استكمال السير على درب الشهيد براء الأمير، ومجموعة شبان معتقلين اليوم في سجون الاحتلال كانوا شرارة هذه الكتيبة.
شرارة الفارعة
بعد أن تحرّر براء الأمير (30 عاماً) من سجون الاحتلال في نيسان/ أبريل 2022، أخذ يسابق الزمن في المخيم لإنهاء الخصومات بين العائلات، والتي تراكمت على مدار سنوات طويلة، حتى باتت تُنبئ بانفجارٍ وشيك. كان براء يعلم جيّداً أنّ تشكيل كتيبةٍ مسلّحة في المخيم أسوة بالمخيمات الأخرى، لن يتحقق إلا بحاضنةٍ شعبيّة متينة تلتف حولها. يقول شقيقه موسى لـ "متراس": "عُرف براء في المخيم أنه عنوان لنصرة أي مظلوم. اتخذه الناس قدوة، وأصبحوا يتوجهون إليه دائماً.. واستطاع أن يحول البوصلة نحو نصرة غزة، ودفاعاً عن أهل غزة".
شقّ براء درب الجهاد منذ كان فتى بسن الـ 16 عاماً، حينها أُصيب برصاص الاحتلال لأوّل مرّة، وتوالت بعدها اعتقالاته وإصاباته. وقد اعتقل ثلاث مرات قضى خلالها ست سنوات ونصف في سجون الاحتلال لم تنل من عزيمته شيئاً، بل استغلها في بناء شبكة علاقات مع مقاومين من جنين وطولكرم، كان لهم الدور فيما بعد في تشكيل الكتائب، أبرزهم صديقه الشهيد قائد كتيبة طولكرم، محمد جابر "أبو شجاع".
بعد خروجه من السجن لم تكد تمر بضعة أيام حتى أصبح براء مطارداً للاحتلال، إذ كان يتصدى لاقتحامات جيش الاحتلال للمخيم، وشارك أيضاً في مساندة الكتائب المُسلّحة في مخيّمات طولكرم وجنين، كما استقبل وآوى عدداً من رفاقه المطاردين، وبدأ فعلياً بتأسيس مجموعة مُسلّحة في المخيم ستمتدُّ وتتوسع بعد استشهاده.
وفي فجر يوم الجمعة، 8 كانون الأول/ ديسمبر 2023، كان براء على موعد مع الشهادة، إذ كثّفت مسيّرات الاستطلاع الإسرائيلية دورانها على علو منخفض في سماء المخيم، فتأهب براء ورفاقه واستعدوا لمواجهة قريبة. لم يمض الكثير من الوقت حتى دوّى الرصاص معلناً الاشتباك مع قوّة خاصّة لجيش الاحتلال تسلّلت إلى المخيم. سريعاً اندفع براء ليساند رفيقه المحاصر معاذ عيسى، وقد اعتقله جيش الاحتلال بعد ساعات. غير أن الخبر الأصعب الذي وصل إلى براء، كان استشهاد صديقه عامر صبح. يروي شقيقه موسى: "كان براء يشتبك وقد غرغرت عيناه بالدموع على فقدان صديقه عامر.. ولم يتوقف عن المواجهة واستدرج الجنود من زقاق إلى آخر، وصولاً إلى حارة الدمج حتى يُمكن الأهالي من سحب جثامين الشهداء".
هكذا، استشهد براء في قلب حارته مشتبكاً مع جنود الاحتلال. في الحارة التي اتخذها المقاومون مقراً، بعد أن أسموها حارة الدمج تيمّناً بحارة الدمج في مخيّم جنين. يشير موسى إلى مكان استشهاد شقيقه: "اشتبك براء وجهاً لوجه مع الجنود، واستشهد مقبلاً غير مدبر"، واستدرك: "كان يتمنى أن يستشهد دون أن يُصاب في وجهه حتى تتمكن أمي من وداعه، ورغم أنه استشهد برصاصة بالرأس إلا أن وجهه لم يتأثر ولم ينتفخ.. وأوصانا أن لا نضعه في ثلاجة الموتى، وأن لا نلفه في كفن، فأصبح شهيداً ونال ما تمنى".
اقرؤوا المزيد: "رح أعمل عملة أرفع فيها راسكم".. تفاصيل لأول مرة عن كمين الدمج
شكّل استشهاد براء ضربةً قاسيةً للكتيبة التي كانت في بداياتها، إلا أن ذلك لم يزد رفاقه إلا إصراراً على المضي في الدرب ذاته، وتأكيداً على أنهم لن يضلوا الطريق من بعده أضافوا اسمه على اسم الكتيبة، فأصبحت: كتيبة الفارعة - مجموعات الشهيد براء الأمير.
10 = 100
شيئاً فشيئاً، تحوّل مخيم الفارعة لجبهة قتال وثغر رابطت فيه الكتيبة، وذلك بالرغم من أنّ جغرافيا المخيم وهندسته العمرانيّة شكّلتا تحدياً، إذ يقع المخيم على تلة سفحية مفتوحة، تُحيطه أراضي الفارعة الزراعية، وتحدّه شمالاً سلسلة جبلية، أما عمرانياً، فللمخيم الصغير الذي لا تتجاوز مساحته 0.26 كيلومتر مربع، ويسكنه نحو 11 ألف لاجئ فلسطيني، أزقة واسعة ومفتوحة تجعل من حركة المقاومين داخله مكشوفة أمام جيش الاحتلال.
مع ذلك، طوّعت الكتيبة جغرافيا المخيم وهندسته العمرانية بشكلٍ يخدم معاركها، وهو ما أطال عمرها وأفشل العديد من محاولات اغتيال مقاوميها، الذين كانوا يخوضون الاشتباكات ثم ينسحبون ويختفون عن مرأى جيش الاحتلال. يشرح مصعب ذلك: "في المخيم نُعدُّ ما نملك من عدة وعتاد، ولكن نعتمد مبدأ الكر والفر.. نضرب ضربتنا وننسحب، لأننا لا نملك القوة الكافية لنخوض المواجهة المباشرة مع الجيش"، ويكمل: "نسعى للاستمرارية، ونُفشِل محاولاتهم في القضاء علينا.. نحن نضرب، ونرجع حتى نعاود البناء ونقوي أنفسنا أكثر، ونجهّز الشباب عقلياً ونفسياً وعقائدياً، وأيضاً نجهز الناس لنضمن استمراريتهم في احتضاننا".
يتحدث مصعب - أبو رضوان - معنا بصوتٍ منخفض بالكاد يُسمع، فهو شخصٌ هادئ وحذر، ينتقي كلماته ويرتّب جمله، تماماً كما يُرتِّب الرصاص في مخزن بندقيته بعد أن يتفقدها واحدة واحدة، وهكذا يكون في الميدان أيضاً. يروي لـ متراس: "حاصرني الجيش مرة في زقاق دون أن يدرك، من جهة جرافة عسكرية، ومن الجهة الثانية قوة من المشاة، قرأت آية "وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" (سورة يس، الآية 9)، ثم قطعت أمام الجرافة وانسحبت من المكان".
ويروي مصعب موقفاً آخر، عندما وقع في 10 حزيران/ يونيو الماضي في كمين للقوات الخاصة الإسرائيلية التي اتخذت مقراً لها في مركز لذوي الاحتياجات الخاصة بالقرب من مدخل المخيم، وبدأت باستدراج المقاومين إلى المنطقة. يقول: "عندما قطعنا الشارع انهال علينا الرصاص، كنت أشعر وأسمع الرصاص يمر من فوق رأسي، ومن بين قدمي.. حينها أُصيب أحد الشباب، ولكن نجونا الثلاثة من موت كان محتوماً لولا حماية الله ورحمته".
يستدرك مصعب: "أنا كإنسان مجاهد لدي ثلاث قناعات: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا" (سورة التوبة، الآية 51)، و"فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" (سورة الأعراف، الآية 34)، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: "إعلم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"".
هكذا هو مصعب، يستحضر معية الله بشكل مستمر في حديثه، على اعتبارها جزءاً من الإعداد المستمر للمقاومين في المخيم. يعلق: "لما بدنا نشتبك مع الجيش أو نفقع عبوة، بنقول بسم الله وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.. اعتمادنا الأول والأخير على ربنا، وبإذن الله إذا العبوة قوتها 10 مع توفيق ربنا بتصير قوتها 100.. وهاد إشي موجود وشفناه، وهذا بعطينا أمل ومعنويات عالية".
فتيان الكتيبة
بحقيبة ظهر معبأة بالعبوات، كان يتنقل يزن الخطيب (17 عاماً) بين أزقة مخيم الفارعة، يكْمن لآليات الاحتلال مرّة، وينسحب مرّة أخرى بعدما تدوي انفجارات عبواته. أسوةً بباقي الكتائب المسلحة، برز فتية مخيم الفارعة في البداية بأدوار الرصد والمراقبة، ثم أصبحوا جزءاً من عمليات إعداد وتصنيع العبوات وزراعتها أو إلقائها. وكان يزن أحدهم، بعد أن كان يقاتل بعبواته في مخيم جنين ومخيمات نابلس. يروي شقيقه أحمد لـ متراس: "يزن بِدَمّه الجهاد، وكل الي براسه أنه بده الشهادة وبده يقاوم.. وبعد الحرب على غزة زاد إصرار وتمسك بطريقه.. كانت أمنيته أن يمتلك سلاحاً، ولكنه قاتل بإمكانياته بإعداد وتصنيع العبوات وإلقائها".
اقرؤوا المزيد: الأرض المفخّخة.. عبواتُ حفظ البلاد
كذلك من أمنيات يزن، أن يصبح إمام جامع، وقد لقبه رفاقه المقاتلين بـ "شيخ الكتيبة". يقول شقيقه: "كان يزن يسأل الأئمة باستمرار كيف يحسّن صوته". عرف المخيم صوت يزن وهو ينعى شهداء جنين وطولكرم وغزة في سماعات مسجد المخيم، ويدعو للمسيرات ويقودها بهتافاته. وكان ليزن دور لطالما آمن به، وهو دعوة الشباب وتعبئتهم دينياً. وهكذا كانت وصيته التي جاء فيها: "أوصيكم بالصلاة، الصلاة والصلاة وما ملكت أيمانكم (..) أوقعوهم في الكمائن، واحذروا من كمائنهم".
في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وبالقرب من عتبة منزلهم، اخترقت ثلاث رصاصات جسد يزن من رشاشٍ حراري معلّق على الجيب العسكري، بعدما فشلت رصاصات جنود الاحتلال في إصابته إذ كان يتنقل بخفة من حولهم، ويلقي عليهم العبوات كل مرة من مكان مختلف. يقول أحمد: "بعد استشهاد يزن حلمت فيه يخطب بمجموعة من الناس، وهو يرتدي عباءة بيضاء، ووجه صافي ويضحك.. فاطمأننت أنه يزن نال ما أراد".
أما محمود نبريصي (17 عاماً) أحد فتية الرصد في المخيم، أوصى بتأسيس كتيبة في المخيم، جاء فيها: "وصيتي لأبناء المخيم ولهذا المخيم أن يأسسوا كتيبة للدفاع عن الأرض، أرض المخيم، وأرض فلسطين، وأن يتصدوا للاحتلال القاهر".
يتحدث مصعب عن محمود فيقول: "كان محمود من الشباب اللي بتسهر معنا وعُرف بمساعدته لشباب الكتيبة، وكان من رواد المساجد". نُشرت وصية محمود بعد استشهاده في 10 حزيران/ يونيو 2024، وفي هذا اليوم تحديداً سُجِّل الظهور الرسمي للكتيبة خلال اشتباكاتها مع قوات الاحتلال، وكُشِف اللثام عن كتيبة مسلحة كانت تُعد نفسها وتتحضر منذ شهور عديدة.
"كان محمود محبوباً في المخيم، جميع الشباب تعرفه وتحبه.. كان يتحضر لتقديم الثانوية العامة، وكان يريد أن يُصبح ممرضاً مثل أشقائه"، يقول إبراهيم نبريصي عن نجله محمود لـ "متراس". بعد شهرين من استشهاد محمود، وقفت العائلة مجدداً في بيت عزاء الشهداء، وقد قدمت شهيدها الثاني: أحمد صالح نبريصي (19 عاماً)، ابن عم محمود بقصف استهدفه في 28 آب/ أغسطس 2024، وقد ارتقى برفقته الشهداء: الشقيقان مراد ومحمد مسعود جعايصة، وإبراهيم عبد القادر غنيمي. يقول إبراهيم نبريصي: "العمل الي بقوم فيه شباب المخيم والمقاتلين برفع الرأس.. والطوفان أعطانا الأمل، أن بالقوة والعزيمة بنقدر نعمل كل شيء، مش بالمفاوضات أو الاستسلام".
المعادلة بسيطة!
14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995، بعد انسحاب جيش الاحتلال من المكان، اقتحم أهالي مخيم الفارعة السجن الذي يفصلهم عنه شارع ضيق، وتجمعهم معه ذاكرة عجّت بصراخ المعتقلين وآهاتهم على مدار 13 عاماً (1982-1995).
كان من الممكن أن يردع وجود السجن أهالي المخيم من الانخراط بأي فعل مقاوم لاحقاً، ويجعلهم يورّثون هذا الردع جيلاً بعد جيل، لكن العكس هو الذي جرى. يعلق باسم منصور صبح، أحد أبناء المخيم والذين عايشوا تلك الفترة: "وجود سجن الفارعة بالقرب من المخيم حفز تطور المقاومة بدءاً من استهداف السجن بشكل مستمر واستهداف الإمدادات التي تصل إليه، وصولا إلى تحول المخيم إلى نقطة مواجهة مشتعلة قبل بدء انتفاضة الحجارة".
لقد ساهمت تجربة مخيم الفارعة مع السجن في بناء حاضنته، وأصبحت هذه التجربة جزءاً من الثأر الذي ورّثه الآباء لأبنائهم. يُشير باسم إلى منزله الذي حوّله استهداف الاحتلال المستمر في كل اقتحام إلى منزل بنوافذ من كرتون، ويقول: "بيتي نموذج كحاضنة شعبية ووطنية دائمة، وهذا نفخر ونعتز فيه، ونعلم أننا ندفع ثمنه غالياً". إذ كان منزل باسم من أوائل المنازل في المخيم التي استهدفها الاحتلال بهدم واجهته، واستهدافه بالرصاص الذي ما زالت آثاره بادية على الجدران.
يقول باسم ابن قرية أم الزينات المهجرّة لـ "متراس": "المعادلة بسيطة: احتلال يعني مقاومة"، ويكمل: "مصرون أن نبقى بجانب أبنائنا المقاومين، صحيح لا نستطيع أن نحمل السلاح، ولكن الجميع يستطيع أن يشارك بما يمتلك من قدرات ولو حتى بدعاء صادق".
بجوار منزل باسم، وقفت نجاة صبح تسقي زهورها المعلقة على حائط منزلها الذي حولته لحاكورة، حاكورتها الخاصة. نجاة كما كل أهالي مخيم الفارعة، استغلت كل مساحة لتزرع فيها. تجد الشجر والورد أمام كل منزل، ربما ليس تجميلاً لواقع المخيم، وإنما إعلاناً للأمل، هو الذي تراه أيضاً بوجوه الأهالي البشوشة، واستقبالهم الكريم.
"كل ما تفعله إسرائيل ما بضعفنا، وما بجعلنا نتراجع.. إحنا أقوياء، وهذا حقنا"، تعلق نجاة على استهداف منزلها وتدمير البنية التحتية في المخيم خلال اقتحام جيش الاحتلال في 28 آب/ أغسطس الماضي. وتضيف في حديثيها مع متراس: "ما دام الاحتلال موجود، المقاومة مشروعة وهو فرض عين على كل واحد فينا.. فلسطين غالية، وفلسطين تستحق أكثر".
لا تخفي نجاة دموعها السخية على شهداء المخيم ومقاوميها، تقول: "بأبسط الأدوات الشباب بتقاوم، بدهم يضحوا، بدهم يثأروا، من يوم 7 أكتوبر الشباب تغيرت شخصيتها، وما في شيء بخوفهم أو بوقف بطريقهم". تدرك نجاة كما أهالي المخيم، أن استهدافهم ليس متصلاً باستهداف الكتيبة ومقاوميها فقط، وإنما يستهدف وجودهم أيضاً، وهو ما يزيد صلابة حاضنة المخيم للكتيبة. تعلق نجاة: "شباب المخيم بعيونا، ونفديهم بأرواحنا".
حائط الشهداء
أشار الفتى مراد مسعود جعايصة (13 عاماً) إلى أحد الجدران الفارغة في المخيم، وخطط هو وأصدقاؤه ليعلقوا عليه صور شهداء المخيم. إلا أن مراد استشهد وشقيقه محمد (17 عاماً) بقصف طائرة مسيرة استهدفتهم وهما فوق سطح منزلهم قبل أن يتمكن مراد من تعليق صور الشهداء.
يعتبر مراد أصغر شهداء المخيم البالغ عددهم 23 والذين ارتقوا خلال عام الطوفان الأول. فجرت المُسيّرة رأسه، وظلّت العائلة يومين تجمع أشلاءه من محيط مكان استشهاده. أما أصدقاؤه، فلم يجدوا وجهاً يودعونه ويقبلونه. وسريعاً، لم يتركوا الجدار الذي أشار إليه صديقهم قبل أيام، وحمّلوه صوره، كل صورة منها تضم مراداً مع أحدهم، وكأنه إعلان عن ثأرهم الذي تركه لهم مراد. وكأنه استشراف لمستقبل قادم، يواصل فيه المخيم مسيرته وتنتقل فيه مسؤولية المقاومة لجيل جديد.