قبل أيام، تناقلت صفحاتُ الأخبار مقطع فيديو لشابٍ فلسطينيّ لا يقوى على الوقوف، قربَ حاجز بيت سيرا العسكريّ، شمال غرب رام الله، يصوّره شخصٌ من على بعد أمتار، دون أن يقتربَ منه. كان ذلك الشاب مالك غانم (29 عاماً) من قرية صَرة غرب نابلس، وهو أحد العمّال الفلسطينيّين الذين اضطروا للإقامة في الأراضي المحتلة عام 1948، لضمان التحاقهم بعملهم في ورش العمل الإسرائيليّة في ظلّ "إغلاقات الكورونا".
يقول غانم الذي كان يعمل في ورشة في تل أبيب، إنّه استيقظ في ذلك اليوم، وقد أصابته حمّى شديدة. حاولَ مالك استكمالَ عمله، لكن حالته ازدادت سوءاً، فاتصّل زملاؤه بسيارةِ إسعافٍ إسرائيليَّة. في البداية، لم يقبل سائق السيّارة بأن يُقلّه لأنّه عامل فلسطينيّ، لكنّه قبل بذلك بعد تلقّيه مبلغاً ماليّاً، فأوصله إلى مشفى "إيخيلوف" في تل أبيب. المشفى بدوره رفضَ إدخالَ العامِل وتقديمَ أيّ رعايةٍ طبيَّة له، وعوضاً عن ذلك، وصلَ عناصرُ شرطةٍ إسرائيليَّون يرتدون زيّاً واقياً، وكبّلوا يديْه وقدميْه، وأوصلوه في سيارة جيب عسكريَّة إلى الحاجز.
الساعة الثانية ظهراً، على حاجز بيت سيرا، وبالقرب من خطّ شارع 443 الاستيطانيّ الواصل إلى تل أبيب، كان مالك منهاراً نفسيّاً وجسديّاً، ليس لديه أيّ خيارٍ سوى انتظار سيارة إسعافٍ فلسطينيَّة، وتحذير المتطوّعين الفلسطينيّين من احتماليَّة إصابته بـ"كورونا"، منادياً: "ابعدوا عني". انتظر العاملُ لمدّة ساعتيْن كاملتيْن إلى حين وصول سيارة الإسعاف. تبيَّن لاحقاً أنَّه غير مصاب بـ"كورونا"، إنّما بانفلونزا حادَّة، تفاقمت إثر مناعته الضعيفة، ومعاناته سابقاً من تضخمٍ في الكبد.
يقول يوسف الحاج، رئيس المجلس القرويّ في بيت سيرا، إنّ متطوّعين من القرية قد شكّلوا لجنة طوارئ منذ أسبوعيْن، ويتوفر لديهم جهازٌ فاحص للحرارة، لكنّهم لا يرتدون ألبسةً واقيةً، فلم يستطع أيٌ منهم الاقترابَ من العامل. أضافَ الحاج أنَّ هذه ليست الحالة الأولى، فقبلها وقفَ عاملٌ آخر في النقطةِ ذاتها لمدّة ثلاثِ ساعات، منتظراً الرعايةَ الطبيَّة، المتأخرة مجدداً. أبلغَ عنه مشغّلُه "الإدراةَ المدنيَّة الإسرائيليَّة"، حالَ ظهورِ أعراضٍ عليه، تُشبِهُ أعراضَ الإصابة بـ"كورونا"، وأنزلته بعدها قوات الاحتلال من سيارتها بالقوّة على الحاجز.
ووفقاً لمهند (اسم مستعار)، عاملٍ آخر تحدَّث إلى متراس، من مكان مبيته في ورشةِ دهانٍ في تل أبيب، فإنّ هناكَ قلقاً كبيراً لدى العمّال. يقولُ مهنّد إنَّ أيّ عاملٍ معرّض لأنْ تمسكَ به الشرطةَ الإسرائيليَّة- حتى لو كان من حملة التصاريح- وأن يُنقَل فوراً إلى الحواجز، ليعبرَ بعدها إلى الضفَّة.
تكررت هذه القصص في مختلف محافظات الضّفة الغربيّة على مدار الأسبوع الماضي؛ يُشغّل المقاولون الإسرائيليون العمّال إلى أقصى طاقةٍ لهم، وحين يُشك في صحتهم يُسرّحون من أعمالهم، ويُسلّمون إلى قوات الشرطة والجيش، والتي بدورها تنقلهم إلى الحواجز الفاصلة بين الضّفة الغربية وأراضي الـ48. هناك تنتظرهم ظروفٌ أخرى من اللوم الاجتماعيّ، و"الملاحقة القانونيّة".
كيف وصلنا إلى هنا؟
بعد تسجيل الإصابات الأولى بفيروس "كورونا" في بيت لحم مطلع الشهر الجاري، فرض الاحتلالُ طوقاً أمنيّاً على المحافظة، ومنع عمّالَها من الوصول إلى أماكن عملهم في أراضي الـ48. كان من المتوقع أن يتوّسع القرار ليشمل كل محافظات الضّفة الغربيّة، وبالتالي تخلو ورش العمل الإسرائيليّة من أي عامل فلسطينيّ.
أمام هذا الاحتمال، تحرّك قطاع المقاولات الإسرائيليّ بالضغط على حكومته لإنقاذه من خسارة متوقعة، إذ يقدّر عدد الفلسطينيّين العاملين في مجالات البناء داخل أراضي الـ48 –حسب المصادر الإسرائيليّة- بأكثر من 65 ألفَ عامل. وفي حال مُنعوا من الدخول، سيؤدّي ذلك إلى التأخر في تسليم 70 ألف شقة سكنية إسرائيليّة، بخسائر تُقدّر بـ4.56 مليار شيكل في الشّهر.
اقرأ/ي أكثر: "الناس بتشتغل عشان تتزوّج، احنا منتزوّج عشان نشتغل"
نتيجة هذا التحرك، توصلت وزارة الأمن الإسرائيليّة إلى صيغةٍ يضمن فيها الاقتصاد الإسرائيلي بعضاً من أرباحه على حساب أجساد العمّال. وضعت هذه الصيغة العمّال أمام خيارين أحلاهما مرّ؛ تركِ أعمالهم والبقاء في بيوتهم دون مصدرٍ ثابتٍ للدخل، أو المخاطرة بأنفسهم وصحتهم في ظروفٍ صعبةٍ، بعيدين عن عائلاتهم وقراهم. قالت الوزارة إنّ العمل في قطاعات حيويّة كالزراعة والبناء سيستمر بشرط أن يلتزم المقاولون وأرباب العمل – وفي جلّهم إسرائيليون- بتوفير أماكن للمبيت للعمال الفلسطينيين، وبشرط أن يبقوا في أماكن عملهم لمدّة تتراوح بين شهرٍ وشهرين.
تبعاً لذلك أقرّ جيش الاحتلال بزيادة عدد تصاريح الإقامة داخل أراضي الـ48 ورفعها من 15 ألف تصريح إلى 55 ألف تصريح. وفي 17 من الشهر الجاري أُعلن عن هذا "الحلّ" رسميّاً، إذ نادت "إسرائيل" العمّال الراغبين بالالتحاق بأعمالهم إلى المرور عبر الحواجز قبل أن تُغلق نهائياً في 22 مارس/ آذار.
السّلطة الفلسطينيّة التي اقتصر موقفها في قضية العمّال وتأثيرات الـ"كورونا" قبل هذا القرار على توزيع المُعقمات والنشرات التوعويّة على الحواجز، لم تقترح جديداً هذه المرة كذلك. بل بدا أن القرار الإسرائيليّ جاء بتنسيق معها. سارت السّلطة وراء الدعوة الإسرائيلية، وعلى لسان رئيس وزرائها، أعطت العمّال "مهلةً" مُحددة بثلاثة أيام لـ"ترتيب" أمورهم بالمبيت في الداخل، دون السؤال عن رعايتهم الطبيّة أو تأثيرات الإغلاق الكامل في "إسرائيل" عليهم.
العمل والنوم في مكانٍ واحد!
خلال هذه المهلةِ القصيرة، اتخذ عشرات آلاف العمّال قرار الدخولِ على أيّة حال، حتى لو عنى ذلك انقطاعهم عن عائلاتهم، وافتقار ظروفِ عملهم لأدنى شروط العيش الصحيَّة، ودون أيّ ضماناتٍ لتلقيهم العلاج. حملَ العمَّال أغطيةً ومخداتٍ على ظهورهم، وقطعوا الحواجز، ولم يكن لديهم أيّ خيارٍ آخر، لتحصيل لقمةِ العيش لهم ولعائلاتهم.
حسبَ عمّالٍ تحدّثوا إلى متراس، فإنَّ نسبةً قليلة من المُشغّلين قد أمّنوا مساكنَ وغرف مناسبة للعمّال، فيما لجأ عمّالٌ قلّة آخرون لاستئجار غرفٍ يدفعون إيجارها بأنفسهم. أما البقية، وهي الأكثرية، ينامون في الورشات، أي الشقق غير مكتملةِ البناء. يغلقون الشبابيك المفتوحة فيها بأغطية ولحافات، ويضعون فراشاً فوق الطوب، ليرتفع عن الأرض الباردة قليلاً. انتشرت صورٌ على وسائل التواصل الاجتماعيّ لأماكن مبيتِ العمّال غير الصحيَّة في تلك الورشات، إذْ يشتركُ في الورشةِ الواحدة ما يزيدُ عن خمسِ أشخاص، ينامون على فرشٍ رفيعٍ على الأرض، ولدى بعضهم مدفأة كهربائية صغيرة لتدفئة المكانِ بأكمله.
وعدا عن حملة التصاريح من العُمّال، فإنّ القلق يتصاعد حول العُمّال الذي يصلون أراضي الـ48 عبر "التهريب". هؤلاء يكون مصيرهم إما النوم في ورشات العمل، أو في العراء. يبدو أن الاحتلالَ لن يتنازل بسهولة عن العمالة الماهرة- الرخيصة نسبيّاً- التي يقدّمها الفلسطينيّون، فقال شاهر سعد، الأمين العام لاتحاد نقابات عمال فلسطين، إنّ الاحتلالَ قد التفّ على إغلاق المعابر بترك ثغرات في الجدار الفاصل بمنطقة بئر السبع، مما سمح بدخول عددٍ من العمال.
أمام هذا الواقع، بدأ بعض العمّال بالعودة. سامر واحدٌ من العمّال الذين عادوا، ليلة الأربعاء، عبر حاجز برطعة جنوب جنين، خوفاً من إصابته بفيروس "كورونا". كان يعملُ في حيفا، لكنّ تزايد عدد الإصابات في "إسرائيل"، ومعرفته قصص العمّال الآخرين، الذين انتهى بهم الأمر على الحواجز، دون حصولهم على الرعاية الطبيَّة؛ كلّها دعته إلى التضحية بمصدر رزقه مقابل الحفاظِ على صحّته.
بعد عودته، توجّه سامر إلى المشفى الميداني المقام في المركز الكوريّ الشبابيّ بجنين، لإجراءِ فحوصاتٍ روتينيّة، ودخل في حجرٍ منزليّ سيستمرّ لمدّة 14 يوماً. ومثل سامر كثيرون، أخذوا طريقَ العودةِ بأنفسهم عبر الحواجز، وحرصوا على الابتعاد عن عائلاتهم وحجر أنفسهم، بينما يؤكد آخرون ظلّوا في ورشاتهم أنَّهم حريصون جداً حيالَ اختلاطهم بالآخرين.
"الإبلاغ" عن العمّال
بعد حادثةِ مالك غانم على حاجز بيت سيرا، وما تبعها من قصص لعمال أعادهم الجيش إلى الحواجز، وبعد تصاعد إجراءات الإغلاق الإسرائيليّة في الداخل، تغيَّرت اللهجة. الحكومةُ الفلسطينيَّة التي أعطت العمّال الضوءَ الأخضر للتوجه إلى العمل، ودعتهم لترتيب أمور المبيت هناك لأسابيع، بدت كالمتفاجئة عن ظروف معيشتهم، وأصبحت الآن تدعوهم للعودة إلى منازلهم. عددٌ منهم استجاب وعاد، وفي بعض الحالات وجدوا على الحواجز طواقم صحيّة فلسطينيّة تفحص حرارتهم، وتنصحهم بالحجر الصحيّ. لا يغيب عن هذا ضعفُ الإمكانيات، فالحكومة نفسها التي شجعتهم على الذهاب إلى أعمالهم تقول اليوم إنّها لا تملك شرائح فحص كافيّة لفحص جميع العائدين من العمّال.
اقرأ/ي المزيد: ما المفزع أكثر من "كورونا"؟
وفي حين تأتي تدخلات الحكومة متأخرة ومتخبطة ودون الاستناد إلى خطّط، تصل تصريحاتُها إلى تغذيةِ المنشوراتِ الهجوميَّة على العمّال، بصفتهم "حاملي الوباء". في هذا السياق، أشارَ الناطق باسم الحكومة، إبراهيم ملحم، في تصريحٍ له، أنَّ الوفاة الأولى في فلسطين لمصابةٍ بفيروس "كورونا" تؤكد على مطلب الحكومة بعودة العمّال إلى منازلهم. إذ ثبتت إصابة أحد أبناء السيدة المتوفاة، وهو عامل في الداخل، ما قاد ملحم للتحذير من نقلِ العمّال الوباءَ "لأطفالهم وأمّهاتهم وأسرهم"، محاولاً استثارةَ شعورِهم بالذنب تجاه أحبائهم.
تبعاً لهذه اللهجة، نشرت إحدى وسائل الإعلام دعوةً مرفقة باسم "وزارة العمل" للـ"إبلاغِ" عن العمّال العائدين، وكأنهم "فارون من العدالة"، لكي تتم متابعتهم في تطبيق الحجر المنزليّ. بينما"أوقفت" الأجهزة الأمنيَّة الفلسطينيَّة عدداً من العمّال عقب عودتهم عبر الجدار الفاصل قربَ جنين، وانتشرت فيديوهات لـ"اقتحام" مخزن نام فيه عمّال عائدون من العمل في المستوطنات. وفي محافظةٍ أخرى، قال المحافظ إنّهم سيتعاملون مع العامل العائد وغير الملتزم بالحجر الصحيّ "كأنه مجرم وقاتل مع سبق الإصرار"، مُهدّداً باعتقال إخوانه وأفراد عائلته إن لم يُبلغوا عنه. ووصل الأمر إلى مشاركة ملثمين "مُسلحين بالهروات" في إحدى القرى لـ"إجبار العمال على الحجر المنزلي".
رغم إدراكِ السلطة لكوْن سوق العمل الإسرائيليَّة نظاماً يستغلّ العمّال، ورغم وجود دلائل على انتهاكِ حقوقهم يوميّاً، وصلت إلى ارتفاع نسب الوفيات في حوادث العمل بينهم في العقد الأخير، وبغضّ النظر عن أنَّ ذلك كلّه يصبّ في مصلحةِ اقتصادِ الاحتلال في المقامِ الأول، فإنَّ موقف السّلطة كان سلبيّاً اتجاه العمّال خلال السنين الماضية. لم توفّر لهم أيَّ فرصٍ بديلة، ولم تقدّم لهم أيّ حماية، سوى الحرص على جباية الضرائب من معاشاتهم المُحوّلة إلى البنوك الفلسطينيّة.
والآن، في ظلِّ هذه الأزمة، تركّز موقفها في سلسلة إجراءاتٍ تلاحقُ العمَّال أنفسهم، بدلاً من محاسبةِ الاحتلال أو حتى انتقاده، أو حتّى تحمُّل مسؤوليَّة إرسالِ هؤلاء للعملِ في مكانٍ لا يحترمهم، وتهيبُ السلطة الآن- هي وأجهزتها الأمنيَّة- بالعمّال الالتزام بالإجراءات، وإلّا ستعرّضهم للمساءلة القانونيَّة. يُذكّرنا هذا المشهد مرة أخرى بمعاني "السيادة" المفتقدة في أراضي الضّفة الغربية، وانعدام أي بُنية اقتصاديّة كان من الممكن أن تحمي هؤلاء العمّال من خطر العمل في هذه الظروف.
إنّ آلاف العمّال الآن عالقون في حملةٍ تهدف لشيطنتهم، ووصمهم بالجهل والاستهتار، ما بين "إلقائهم" و"الإبلاغ" عنهم، يقعُون ضحيَّةَ احتلالٍ يستغلُّ عملهم، دون الاكتراثِ لسلامتهم، وضحيَّةً لسلطةٍ توكل للشعب مهمّة تسليمهم للجهاتِ الرسميَّة، دون أن تقدّم- في أي حال- بديلاً لأجورهم الضائعة بعد هذه الأزمة، ولا قبلها.