ما إن تقترب الحافلة من أطراف مخيم جنين، حتى يعم الصمت فجأة، ويشد كل الركاب وجوههم نحو اليسار، باتجاه المخيم، الكل يبحث عن منزله، أو ربما عن نفسه في أزقته التي نزحنا عنها. نأخذ جميعاً نفساً عميقاً، وكأننا لا نتنفس إلا من هوائه. وتمضي الحافلة بنا، ونترك خلفنا هناك على عتبات المخيم، أنفسنا وأرواحنا.
هذا ما يحصل كل صباح، كلما صعدنا حافلة المواصلات التي تنقلنا من مكان نزوحنا في سكنات الطلبة بالجامعة الأمريكية، إلى أعمالنا في مركز مدينة جنين. الحافلة التي تحملنا يحملنا نحن المتعبين والمثقلين من النزوح، والمشتاقين إلى مخيمنا، مع أسئلتنا التي نكررها كل يوم: "أعرفت هدوا دار فلان؟ وينتا بدنا نرجع ع المخيم؟ ساق الله وإحنا راجعين على ركام بيتنا، بيقولوا في بوادر انسحاب؟"
لم تعد هذه الحافلة مجرد وسيلة نقل للركاب، بل مساحة متحركة للذاكرة، لذاكرتنا نحن المهجرين من مخيم جنين. في كل صباح، أجلس على المقعد الأول حيث اعتدت دوماً أن أجلس، وتبدأ الذكريات تدور في ذاكرتي لتعيدني إلى 10 سنوات سابقة، عندما كنت طالباً في الجامعة الأميركية، بيدي القلم وكتب كلية الحقوق، أتعجل الخطى لأشرب القهوة مع أصدقائي، ثم أركض إلى محاضرتي خوفاً من طردي منها.
اقرؤوا المزيد: مخيم جنين: الدولة النوويّة في مواجهة نصف كم2
استفيق من جديد وأعود إلى اليوم، لأجد نفسي أركب في الحافلة نفسها، التي يقودها السائق نفسه، ونمر من الطريق الذي لم يتغير، ولكن القلب ليس نفسه أبداً، والعودة الروتينية إلى المخيم بعد يوم دراسة طويل، أصبحت حلماً مستحيلاً.
ولكني أعود، أغمض عينيّ، وأتسلل بقلبي إلى المخيم، وصولاً إلى منزلي الذي أخاف أن أتخيله مهدوماً أو محروقاً، أو ربما تحول إلى ثكنة عسكرية. الصمت في الحافلة ليس إلا إعلاناً، أنني لم أتسلل وحدي في هذه اللحظة، كلّ مَن في حافلة تبعني أيضاً، كلنا دخلنا منازلنا، وأزقتنا.
هكذا، لا نعتاد فراق المخيم والنزوح عنه، في كل يوم يتعمق جرحنا أكثر، ولا نمل من تكرار الحديث نفسه كل يوم أثناء ركوبنا الحافلة، عن ألمنا واشتياقنا، وعن ذكرياتنا.. آآآخ ما أحلى ريحة المخيم!
ورثة النزوح
كبرت على حكايا والدي وهو يحدثني عن جدي الذي هُجّر من قريتنا المنسي بقضاء حيفا. ويا كثر ما حدثني عن جمالها! - كما لطالما وصفها جدي وتحدث عنها. كان لجدي في المنسي، منزل وبقالة وحياة واسعة في حي كان يعرف بحي الحواشين آنذاك، الذي حملناه جزءاً من أسمائنا، واعترافاً أبدياً بامتدادنا إليه الذي لا نتنازل عنه.

لم يكن جدي يعرف ربما أنه هجرته عن المنسي ستطول، وأنه سيموت في عام 2000 بعيداً عنها، لاجئاً في مخيم جنين، داخل حي الحواشين الذين نقلوه اسماً فقط من القرية المهجرة إلى عمق جغرافية المخيم. ولكن ورثنا أمانة ما زلنا نحملها، ألّا ننسى المنسي، التي مُسحت ولم تعد تذكر إلا تاريخاً في الخرائط القديمة وروايات اللاجئين.
اقرؤوا المزيد: من وراء جُدُر: كيف يقاتل الاحتلال في أزقة المخيّمات؟
بعد عامين من وفاة جدي، نزح والدي من مخيم جنين خلال اجتياح جيش الاحتلال عام 2002، وقد هدم حينها منزل العائلة. كنت طفلاً بالكاد أكمل عامه الخامس من دون عيد ولا كعكة. وأول ما حفظته آنذاك، تمييز صوت المركبات العسكرية وهي مسرعة، ومعرفة نوعها: الميركافاه من المجنزرة، وجيب العزيزة من جيب الهمر.
رائحة الموت
أتذكر رائحة الموت التي شممتها للمرة الأولى في حياتي، لم يغادر ذاكرتي مشهد البحث عن جثث في أنقاض بيوت المخيم، تلك الأيام غرست في ذاكرتي الطفولية مشاهد لا يمحوها طول السنين. حينها أصبح "الردم" عنواناً يتداوله أهل المخيم لمنازلهم ومحالهم التي هدمتها جرافات الاحتلال.
كان ابن عمي محمد (14 عاماً) يأخذني كل يوم معه جولة على دراجته الهوائية، بين الردم. ولكن محمد لم يكبر معنا، وكان الشهيد الثاني الذي يرتقي في الاجتياح الكبير عام 2002، بعد الشهيد زياد العامر. لا أنسى دموع والدي الغزيرة على محمد، كلما ذكرناه واشتقنا إليه.
في عام 2002 عندما هدم جيش الاحتلال حي الحواشين، اضطر والدي للعيش في شقة سكنية قريبة من المخيم في حي الزهراء، برفقة والدتي وشقيقي محمد - الذي اغتاله الاحتلال في 20 آذار/ مارس عام 2024 - وهناك أنجبت أمي شقيقتي الصغرى.

عشت في حي الزهراء ثلاث سنوات، كنت ألعب مع شقيقي محمد ذي الشعر الأشقر والملامح الجميلة، مكان النزوح هذا ظل محفوراً في قلبي كمساحة باردة اختلطت فيها لحظات الطفولة الجميلة مع أخي الشهيد، النائم طويلاً، وصعوبة النزوح واقتحامات الجيش المتكررة حتى لمكان النزوح.
الذاكرة: رأس مالنا الوحيد
نزحت من جديد في كانون الثاني/ يناير 2025، ولكن من دون والدي الذي توفاه الله في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وكأننا ندور في ذات الدائرة، ونكرر قصة النزوح ذاتها. تجربة لم أتخيل أنني سأعيشها مرة أخرى، وأنني سأعود إلى جامعتي نازحاً أسكن فيها، منتظراً انسحاب جيش الاحتلال. الجامعة التي لطالما حلمت أن أعود إليها طالباً في مرحلة الماجستير أو ربما موظفاً، أو ضيفاً في حفل تخرج.

تركت منزل عائلتي وركام منزلي الملاصق، الذي فجره جيش الاحتلال في كانون الأول/ ديسمبر 2023. تركت منزلي المدمر الذي كنت أنوي بدء حياة جديدة فيه. في كل مساء تحاصرني الذكريات ويتوغل الشوق في أعماقي وأتساءل: هل هدموا منزل عائلتي أيضاً؟ هل مرت عليه النيران؟ هل ينام الغريب على فرشتي وسريري؟ هل صورنا المعلقة على الجدران ما زالت موجودة أم أصبحت الصورة والجدار رمادا؟
اقرؤوا المزيد: "لا تُطلِقوا رصاصَكم في الهواء".. من هي كتيبة جنين؟
نعم خرجت من المخيم مرة أخرى، لا أملك سوى حقيبة، وذاكرة ثقيلة محملة بثلاثة أجيال لاجئة. وأعيش تجربة النزوح الصعبة التي تعيد نفسها كل مرة بالألم ذاته، وبغرابة لا أستطيع احتمالها. ولكني النازح المشتاق دائماً إلى مخيمه، الذي كلما هاجمه اليأس والضعف، تذكر أنه ابن مخيم جنين، المخيم الذي أحبه، المخيم الذي أنا منه وهو مني، المخيم الذي ورَّثَنا أنه لا يليق بنا الاستسلام.
وما نعرفه نحن أبناء المخيم جيداً، أن هذا المكان لا يرث الألم ومرارة الفقد فحسب، بل يرث الصمود والمقاومة، وينهض كل مرة من بين الركام، كأنه ولد من جديد، وسيظل المخيم عصياً على الانكسار. ومهما حاول العدو تغيير جغرافيته وهدمه، فلن ينجح أبداً في إخراجه من الجغرافيا أو التاريخ.. مخيم جنين لا يموت، بل يغلي في صمت، كالمعادن الدفينة في هذه الأرض.