25 نوفمبر 2025

عندما اعتبرت "إسرائيل" أشجار غزة مقاتلين

عندما اعتبرت "إسرائيل" أشجار غزة مقاتلين

"كنت أملك أرضاً تزيد مساحتها على عشرة دونمات، تضم ألفاً وثلاثمئة شجرة مثمرة من ليمون وبرتقال وتين وعنب ونخيل، وآلاف الشتلات من بذور الفراولة والبازيلاء، لم يُبق منها الاحتلال شيئاً" يقول المزارع طه أبو مسلم محاولاً تلخيص مأساته، إذ دمر الاحتلال الجزء الشرقي من أرضه أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بالأحزمة النارية، ثم عاد لتجريفها بالكامل في شباط/ فبراير 2024.  

مأساة أرض أبو مسلم في بيت لاهيا شمال قطاع غزة تشبه تلك التي حلت بآلاف المزارعين في القطاع على مدار عامين من الحرب، نتيجة الاستهداف الإسرائيلي الممنهج لقطاع الزراعة، مثل بقية القطاعات الحياتية. وتؤكد منظماتٌ دولية أن هذا التدمير طال غالبية المساحات الزراعية في قطاع غزة، لكن الأمر قد لا يتوقف هنا، إذ يُخشى من أن يتحول هذا التدمير إلى سلب للأراضي من خلال تثبيت واقع جديد بعد وقف إطلاق النار.

سحق الأرض 

بدأ جيش الاحتلال اجتياحه البري لقطاع غزة بتنفيذ عشرات الأحزمة النارية من الطائرات وسلاح المدفعية، محدثة هزات عميقة في باطن الأرض، قبل أن تدخل الجرافات العملاقة من طراز (D9) لتسحق آلاف الدونمات المزروعة بثمار الزيتون والحمضيات والجوافة، ليدشن الجيش الإسرائيلي أول محور بري في القطاع، الذي عرف باسم "نتساريم"، وامتد على مساحة تتجاوز 40 كيلومتراً مربعاً (بطول 7 كلم وعرض 6 كلم) أي ما يعادل مساحة دير البلح تقريباً.

أقيم محور "نتساريم" على أنقاض عشرات آلاف الدونمات الزراعية في بلدات جحر الديك، والمغراقة، والبريج، والنصيرات حتى الشيخ عجلين شمالاً، التي تحولت لاحقاً إلى رماد، بعدما كانت تعد من أغنى أحواض غزة الزراعية، وتمثل مخزونها الغذائي، وسلة غذائها.

اقرؤوا المزيد: القصفُ على غزّة: التربة تموت أيضاً!

ومع استمرار الاجتياحات الإسرائيلية لمناطق شمال القطاع ووسطه وجنوبه، برزت ملامح أزمة غذاء واضحة، إذ اختفت أصنافٌ أساسية من الأسواق، وارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، فعلى سبيل المثال ارتفع سعر الكيلوغرام من البطاطا من ثلاثة شواكل إلى 70 شيكلاً، والطماطم إلى 90 شيكلاً، والباذنجان إلى 40 شيكلاً، والحمضيات إلى 55 شيكلاً. ومع توقف معاصر الزيتون عن العمل، ارتفع سعر اللتر من الزيت لنحو 200 شيكل.

تدمير جيش الاحتلال الأراضي الزراعية في منطقة جحر الديك وسط قطاع غزة. (تصوير: خالد أبو عامر/ متراس)
جانب تدمير جيش الاحتلال الأراضي الزراعية في منطقة جحر الديك وسط قطاع غزة. (تصوير: خالد أبو عامر/ متراس)

المزارع أحمد أبو دقة (61 عاماً)، النازح في إحدى خيام منطقة العطار في مواصي خان يونس، عاش طويلاً مع أبنائه الخمسة من عائدات الزراعة في أرضه التي بلغت مساحتها ثلاثة دونمات، وكانت مزروعة بالبندورة والباذنجان والليمون، قبل أن يجرفها الاحتلال خلال الحرب، ولم يعد قادراً على الوصول إليها حتى بعد وقف إطلاق النار، كونها واقعة داخل الخط الأصفر.

جرف جيش الاحتلال أرض أبو دقة على مرحلتين، الأولى في الفترة الواقعة بين كانون الأول/ ديسمبر 2023 ونيسان/ أبريل 2024، والثانية بين أيار/ مايو وأيلول/ سبتمبر 2025، مشيراً إلى أنه حاول الاقتراب من أرضه قبل أيام، لكنه تعرض لإطلاق نار من قناصة الاحتلال.

حين تصبح الأرض هدفاً عسكرياً

يشكل القطاع الزراعي أحد أهم أعمدة الاقتصاد في غزة، إذ ساهم قبل الحرب بنحو 10% من إجمالي ناتجه المحلي، وشكلت صادراته نحو نصف الصادرات السلعية بقيمة 30 مليون دولار، في حين بلغ عدد العاملين فيه 55 ألفا. ولذلك عدَّه الاحتلال تهديداً مزدوجاً: اقتصادياً لأنه يقلل من تبعية قطاع غزة له، وسياسياً لأنه يمنح أهله قدرة على الصمود. 

وفرضت "إسرائيل" على مدار سنواتٍ قبل الحرب سلسلة من الإجراءات الهادفة لإنهاك القطاع الزراعي، عبر منع عمليات التصدير، وتقييد استيراد المستلزمات الزراعية والبذور، وتجفيف مصادر المياه، وصولاً إلى استخدام إجراءات ذات طابع عسكري وتحديداً بعد عدوان 2008-2009، عبر رش مواد كيميائية قاتلة من الجو، وتجريف الدفيئات والمزارع.

تدمير جيش الاحتلال الأراضي الزراعية في منطقة جحر الديك وسط قطاع غزة. (تصوير: خالد أبو عامر/ متراس)
جانب من تدمير جيش الاحتلال الأراضي الزراعية في منطقة جحر الديك وسط قطاع غزة. (تصوير: خالد أبو عامر/ متراس)

ومع إطلاق "إسرائيل" حرب الإبادة على قطاع غزة، اتخذ استهداف الزراعة بُعداً أوسع، فقد عمل جيش الاحتلال على تدمير ما تبقى من الأراضي الزراعية شرق القطاع وغربه عبر القصف المباشر والمتكرر لمناطق الإنتاج الزراعي في بيت حانون شمالاً، وجحر الديك ودير البلح وسطاً، وخزاعة والفخاري جنوباً، وهي مناطق كانت تُعرف بأنها "سلة غزة الغذائية". 

اقرؤوا المزيد: ازرع أشجاراً.. تحصد مستعمرات!

وبحسب أحدث التقييمات الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "الفاو" ومركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (يونوسات) في آب/ أغسطس 2025، فإن نسبة الأضرار التي لحقت بالأراضي الزراعية وصلت إلى 98.5%، بينما أقل من 2320 دونماً ظلت صالحة للزراعة. ومع ذلك فإن 12.4% من هذه الأراضي يستحيل الوصول إليها كونها تصنف مناطقَ عسكرية، وتقع خلف الخط الأصفر الذي أُقِر في اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في تشرين الأول/ أكتوبر 2025.

أما بالنسبة إلى الآبار، فقد تجاوزت نسبة الأضرار التي لحقت بها 82.8%، في حين بلغت نسبة الأضرار في الدفيئات 71%، ويمكن اعتبار أن محافظتي رفح وبيت حانون تضررتا بشكل كامل، جراء تدمير الاحتلال لهما. وقد أدت العمليات العسكرية إلى تقليب التربة وإتلاف بنيتها الحيوية، ما جعلها غير صالحة للزراعة لسنوات، بسبب تلوثها بمخلفات القذائف والمواد السامة وارتفاع معدلات الملوحة فيها.

من خسارة الموسم إلى خسارة الأرض

بلغت مساحة الأراضي الزراعية قبل الحرب 117 كلم من أصل 365 كلم، تغطي نحو 44% من احتياجات القطاع الغذائية، وتساهم في نصف الصادرات السلعية بقيمة 30 مليون دولار سنوياً.

ووفقاً لوكيل وزارة الزراعة في غزة المهندس إبراهيم القدرة، فقد بلغ إجمالي الإنتاج الزراعي في القطاع 1400 طن يومياً، يستهلك السوق المحلي 1100 طن منها، بينما تذهب 300 طن يومياً للتصدير إلى أسواق الضفة الغربية والداخل المحتل.

تدمير جيش الاحتلال الأراضي الزراعية في منطقة جحر الديك وسط قطاع غزة. (تصوير: خالد أبو عامر/ متراس)
جانب تدمير جيش الاحتلال الأراضي الزراعية في منطقة جحر الديك وسط قطاع غزة. (تصوير: خالد أبو عامر/ متراس)

وحققت غزة، قبل الحرب، اكتفاءً ذاتياً في عدد من الأصناف الزراعية: البطيخ، الطماطم، البطاطا، الحمضيات، الزيتون، الفراولة، الخيار، الفلفل الحلو والحار، الكوسا، الباذنجان. وإلى جانب الاكتفاء الذاتي كانت غزة تصدر أيضاً أطناناً من هذه الأصناف.

اقرؤوا المزيد: أرض التوت الحزين

وتقدر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "الفاو" القيمة الإجمالية للأضرار والخسائر التي تكبدها القطاع الزراعي في قطاع غزة بأكثر من ملياري دولار، منها 835 مليون دولار أضرار، و1.3 مليار دولار خسائر. أما احتياجات التعافي وإعادة الإعمار فتشير تقديرات "الفاو" إلى أنها تصل إلى نحو 4.2 مليارات دولار.

وبدأت منذ منتصف 2025 محاولات محدودة لاستصلاح الأرض، بجهود محلية وفلسطينية مدعومة بمشاريع محدودة التمويل من الأردن، تضمنت إعادة تأهيل مساحات في جنوب القطاع، وتزويد المزارعين بشبكات ريّ مؤقتة وبذور مقاومة للملوحة، وتجريب زراعة المحاصيل قصيرة الدورة قرب المواصي ورفح.

"الخطّ الأصفر"

وبعد تدمير الأرض، وتجفيف مواردها، سعى الاحتلال إلى فرض واقع ميداني جديد عبر ترسيم ما يُعرف بـ"الخط الأصفر"، الذي يشير إلى منطقة عازلة تمتد على طول الحدود الشرقية والشمالية للقطاع بعمق يتراوح من 1 إلى 3.5 كيلومترات داخل القطاع، تُمنع فيها أي أنشطة مدنية أو زراعية. وبهذه الخطوة، صادر الاحتلال آلاف الدونمات من أخصب أراضي غزة الزراعية.

ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار ينص على أن "الخط الأصفر" هو إجراء مؤقت يفترض أن ينتهي بانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة بعد الاتفاق على تسليم المقاومة في غزة سلاحها، فإن تاريخ دولة الاحتلال منذ إنشائها يشير إلى أن الإجراءات المؤقتة غالباً ما تتحول إلى واقع دائم، ما يعني أن الأراضي لم تُجرف فقط، بل قد تُسلب من أصحابها أيضاً.

وفي حال نجح الاحتلال مدعوماً من الولايات المتحدة في تحويل "الخط الأصفر" إلى واقع جديد، فإن هذا يعني رسم الخارطة الزراعية لقطاع غزة بما يخدم الأهداف الإسرائيلية في تفريغ المناطق الحدودية، وخلق بيئة طاردة للفلسطينيين، عبر تشجيع الهجرة الطوعية، وهو ما يسعى الاحتلال لتحقيقه خلال الفترة المقبلة.