بهيكل عظمي يتكئ على جلده، خرجت من سجن "سدي تيمان" بعدما خسرت نصف وزني، ليس لأنني استثناء، بل لأني كنت محظوظاً، فبعض رفاقي خسروا أكثر من 80 كيلوغراماً، أي وزن إنسان كامل، ومعه خسروا أجزاءً من ذواتهم.
استخدم السجان الجوع، أشد أنواع السلاسل قسوة، يكسر به يومياً إرادة الأسرى، ويحولهم إلى ظلالٍ منهكة من الألم والحرمان. وقد أصبح الحصول على لقمة الطعام معركة يخوضها الأسير من أجل البقاء، رافضاً أن تكون وسيلة لإذلال إنسانيته.
لقد كنت شاهداً على الجوع والتجويع في سجون الاحتلال طيلة فترة اعتقالي التي امتدت لمائة يوم. وها أنا أكتب عنها اليوم، وأوثقها بتفاصيلها المؤلمة من أجل آلاف الأسرى الجائعين والمنهكين في سجون الاحتلال.
خبز متعفن ولبن تالف
في سجن "سدي تيمان" كان الطعام يُوزَّع كما تُوزَّع الإهانات، لا على أساس الحاجة، بل على أساس الإخضاع، يأكل الأسير طعامه، وهو يعلم أن هذا الطعام سيؤذيه ولن يقيته، لكنه الشيء الوحيد المتاح للأكل.
يُقدم السجان للأسرى (75 - 100 غرام) من الخبز المتعفن مع قطعة صغيرة من الخضار، ونحو نصف معلقة صغيرة من اللبن أو المربى وفي مرات نادرة من التونة المعلبة.
كان الخبز يُقدَّم على شكل ثلاث أو أربع شرائح، يأكل العفن نصفها، وبعد أن يستأصل الأسير الجزء الظاهر من العفن، لا يتبقى له سوى أقل من 50 غراماً من خبز "سليم" ظاهرياً، لكن طعم العفن لا يُنتزع من قلبه، كما لا تُنتزع الإهانة من كرامة مُهانة.
وبجانب الخبز المتعفّن، يُقدَّم اللبن تالفاً في الغالب، تفوح منه رائحة الفساد، وفي أحيان كثيرة يُكتشف فيه دود حيّ، ومع ذلك يرفض السجّانون استبداله، فنضطر مرغمين، إلى أن نكتفي بوجبة من الخبز وحده، أو بما بقي منه.
لم يكن هذا الطعام الفاسد يمكّننا من الوقوف على أقدامنا، بل يُصيبنا بأمراض تنال من أجسادنا، فنصاب بالإسهال، والضعف العام، والسقوط المتكرر، وفقدان التركيز. كلها أوجاع لا يتسع لها جسد، ولا يليق بها إلا قبر.
ورغم ذلك كله، لم يشف هذا حقد "إسرائيل" التي واصلت انتقامها من الأسرى وأرادت أن يصفق لها العالم لذلك، وقال وزير أمنها إيتمار بن غفير: "سأحرص على تقديم الحد الأدنى من الحد الأدنى من الطعام". إذ تستمد "إسرائيل" قوتها من ضعفنا، وتريدنا أجساداً منهكة، وخائرة، لا تستطيع مقاومة قمع السجان، وتسعى جاهدة إلى تحويل أجساد الأسرى إلى رموز لانكسارٍ مادي يعكس انكساراً نفسياً.
لكن ما لم تفهمه "إسرائيل"، أن الجوع لا يهزم من يشتهي الحرية، وأن الجسد الهزيل قد يخفي داخله روحاً صلبة ووحشاً جامحاً.
عندما تحول الطعام إلى ذكرى
ومع طول المدة يُعيد الجوع الإنسان إلى غريزته الأولى، إلى تلك اللحظة التي يصبح فيها البقاء مرهوناً بلقمة. ومع الوقت، تتحوّل الوجبة إلى حدثٍ استثنائي، وتتحول الوجبة المتخيلة إلى وجبة بديلة نتحدث عنها بيننا ونحاول أن نتذكر ماذا كنا نأكل: أتذكر طعم المنسف؟ هل تتخيل كعك العيد؟ متى أكلتُ بيضةً آخر مرة؟ هل تذكر آخر مرة أكلت فيها طعاما نظيفا؟
الجوع يفعل بالأسرى ما لا تفعله السلاسل، يُفقدهم التركيز، يُرهقهم بدنياً، ويُضعف مقاومتهم في أثناء التحقيق، من دون أن يترك على الجسد كدمة واحدة، كثير من الأسرى كانوا يُنقلون إلى التحقيق بعد أيام من التجويع، في حالة من الإنهاك الشديد، وهي وسيلة فعالة يستخدمها الاحتلال لإضعاف المقاومة النفسية للأسير، فالجسد الجائع لا يقاوم، والعقل المشوش لا يملك تماسكاً كافياً تحت الضغط. كثير من الاعترافات تُنتزع تحت وطأة الجوع لا التعذيب المباشر.
ولأن السجّان لا يكتفي بقهر الجسد، بل يسعى لإذلال الروح، كان يتعمّد تقديم الطعام بطريقة لا يتصوّرها عقل بشري.
تارةً يُقدَّم الخبز مغموسا بالرمل والقذارة، بعد أن تتقاذفه أقدام الجنود كما يتقاذف الأطفال الكرة، ثم يدوس كل جندي على الخبز قبل أن يقدمه للأسرى. وأحيانا يقدم السجان لنا قطعاً من الخضار محشوّة بالدود، أو طعاما لا يصلح حتى للبهائم، لكنهم يرونه "مناسبا" لإطعام آلاف الأسرى.
وكانوا يرددون دوماً: "لا يهمّ ما يحدث لكم بعد هذا الطعام، حتى لو متُّم، فهذا أمرٌ جميل".
وفي مرات أخرى، كانوا يضعون الطعام في ساحة القسم تحت المطر، حتى يبتلّ ويذوب الخبز في الطين، ثم يجمعونه ويقدّمونه لنا كما هو.
أما الأواني، فكأنها لم تلامس الماء منذ أن صُنعت، يعشش فيها الصدأ والأوساخ، وأحياناً يكون الطعام مختلطاً بأعقاب السجائر. هكذا كان جنود الاحتلال والسجانون يتلذذون بتلويث الطعام، ويتنافسون فيما بينهم: من يمكنه أن يكون أشد بشاعة وحقارة من رفاقه؟
محاولة اغتيال جماعي
في أحد أقسام مسلخ "سدي تيمان"، تعرّض أكثر من ثُلثي الأسرى لحالة تسمم جماعي بعد تناولهم لبناً فاسداً، كان اللبن عفناً، برائحة كريهة نفّاذة، وقد اعترض الأسرى على توزيعه، لكن إدارة السجن رفضت تغييره أو تقديم أي بديل.
وفي مواجهة صراخ الأمعاء، وتحت وطأة الجوع المهين، اضطر بعض الأسرى إلى تناوله، على أمل أن يسكتوا الألم، لا أن يضاعفوه، لم يكونوا يعلمون أن هذه اللقمة البائسة ستُدخلهم في دوامة من الغثيان، والإسهال، والحمّى.
تسمم جلّ القسم، وامتلأ المكان بروائح القيء والموت البطيء، ومع ذلك، لم تحرّك الإدارة ساكناً لا طبيب، ولا إسعاف، ولا علاج، تُرك الأسرى يتألمون كأنهم ليسوا بشراً، وكأن المرض عقوبة إضافية في مسلسل العقوبات اليومية.
نحن المتمردون على الجوع
لم يكن الجوع الذي فُرض علينا انكساراً، بل جبهة مفتوحة خضناها بلا سلاح، سوى الكبرياء. كل لقمة مغموسة بالذل كنا نلوكها بأسنان الرفض، لا كغذاءٍ للجسد، بل كوثيقة مقاومة.
كنا نأكل القهر حتى لا يأكلنا، ونُرغم أمعاءنا الفارغة على الصبر، ونُلقِّن أرواحنا أن الكرامة لا تُقاس بالشبع.
في كل وجبة ملوثة، كنا نُطهّر ما تبقى من إنسانيتنا بالصمود، ونحوّل الطين الممزوج بالخبز إلى طين نرسم به ملامح حريتنا.
ما عشته في "سدي تيمان" لم يكن استثناءً، بل خلاصة نمط ممنهج تمارسه إدارة السجون الإسرائيلية في كل المعتقلات، من "النقب" إلى "عوفر" و"مجدو"، حيث يتكرّر المشهد ذاته بتفاصيله المذلّة: خبز متعفّن، ألبان فاسدة، خضار ترفضها البهائم، وسلوك ساديّ يتغذّى على سحق الكرامة.
لكن هذه الشهادة لا تُروى لتستجدي شفقة، بل لتكسر جدار الصمت، وتُشهِر الحقيقة في وجه العالم، كل لقمة حوّلوها إلى أداة إذلال، نحملها اليوم سلاحا للشهادة، ونذكّر العالم أن خلف كل جسدٍ نحيل، قصةَ إنسان، أماً تنتظر، وأباً يذبل، وأطفالاً يكبرون في غياب اللقمة واللمسة.