باب مخبز البلدة مغلق، لا خبزَ طازجاً يُباع اليوم في "مخبز الطيبات" في عرّابة. ورغم أنَّ الخبّازَ لم يُعلِّق على بابه إعلانَ الإغلاق، إلا أنّ الخبر انتشر بما يكفي: استشهد الشيخ خضر عدنان، ولن يعود من السجن كما كلّ مرة. لن يعود لتجهيز الخبز، كما لن يقف على الحاجز منتظراً تحرّر أحد الأسرى، ولن يسير هاتفاً في تشييع شهيد، ولن يخطب مجدداً بالجموع. أُسكِتَت حنجرة الشيخ، لكن سيرته باقية.
فجر الثاني من أيار/مايو 2023، رنّ الهاتف، فتلّقت رندة موسى الخبر بكلمتين: "الصايم مات". أغلق ضابط الاحتلال الخطّ، فيما وقفت هي أمام أَسِرَّة أطفالها التسعة تستحضر الكلمات وترتبها: "استشهد أبوكم". وأي ترتيب وصياغة تلك التي يُمكن أن تُخَفِّف من شدّة وقع الخبر وهي التي تواجه يومياً أسئلتَهم المُلِّحَة عنه؟.
في الخامس من شباط/ فبراير 2023، ودَّع الشيخ خضر عدنان (44 عاماً) زوجته وأطفالهما بعد أن اقتحمت قوّة لجيش الاحتلال منزله في بلدة عرابة جنوب جنين. وعد الشيخ عائلته حينها بعودةٍ قريبة، معلناً منذ لحظتها إضرابه عن الطعام، ورافضاً اعتقاله والذي تكرر 12 مرّةً، سلبته ثماني سنوات من حياته، كان جُلها رهن الاعتقال الإداريّ. وفي اعتقاله الأخير واجه الشيخ لائحة اتهامٍ من نيابة الاحتلال تتضمن تهم "التحريض والانتماء للجهاد الإسلاميّ"، وهي تهمٌ لم يقرّ بها الشيخ، واستمر برفضها مطالباً بحريّته.
كم مرّة قَرَع الشيخ الجرس؟
للمرّة السادسة خاض الشيخ خضر الإضرابَ عن الطعام، هو الإضراب الأطول بين إضراباتِهِ السابقة، امتد لـ86 يوماً، وبدأت فيه صحته بالانهيار المتسارع منذ الأيام الأولى، بسبب ما ألحقته الإضراباتُ السابقة بجسده، عدا عن احتجازه في ظروفٍ صعبةٍ بين زنازين سجني الجلمة والرملة، والرفض الإسرائيلي المستمر لنقله إلى مستشفى مدنيّ، مما جعله عرضةً للإهمال الطبيّ.
"أرادوا إنهاءه، وخضر كان متيقناً من ذلك"، يقول محمد عدنان الشقيق الأكبر للشيخ. يسرد محمد دلائل ذلك: فقد مُنِعت العائلة من زيارته، وماطلت مصلحة السجون بقبول طلبات الزيارة لمحاميه وللصليب الأحمر، وتعمدت إهماله ورفضت المحاكم الإفراج عنه بكفالة. وفي ظلّ ذلك، لم تتمكّن العائلة من رؤية الشيخ إلا من خلال تقنية الفيديو كونفرنس، وذلك خلال جلسات المحاكم التي عُقِدت في محكمتي عوفر وسالم، والتي خلالها أيضاً أُغمي عليه. يقول شقيقه محمد: "كنتُ أقرأ عليه آيات من القرآن، فأشار لي أنه يفقد ذاكرته، ولا يتذكر الآيات، وهو الذي كان حافظاً للقرآن منذ طفولته".
وأمام مطلب الشيخ خضر وعائلته بنقله إلى مستشفى بدلاً من عيادة سجن الرملة، جاء الردّ: "إذا أراد شيئاً فليدقّ الجرس"، أي يدق الجرس ليأتي إليه أحد العاملين هناك، إلا أنَّ خضراً كان خائر الجسد لا يقوى على الحراك، ولا يتمكن من الوصول إلى الجرس المعلّق أصلاً بعيداً عن سريره في حمام الزنزانة.
وحسب ما أُبلغت العائلة من الأسرى، فإنّ إدارة السجن لم تكتشف استشهاد الشيخ إلا فجراً عند عملية الفحص الروتينية التي يخضع لها الأسرى في الزنازين. وهو ما يترك السؤال دون إجابة واضحة: كم مرّة قرعَ الشيخ الجرس ولم يرد أحد؟
قبل أسبوعٍ من استشهاده، أخبر الشيخ خضر عدنان رئيسة جمعية أطباء لحقوق الإنسان، الدكتورة لينا قاسم خلال زيارتها له، أنه يشعر بخطر الموت، وأنه رأى طيف والديه المتوفين. ذلك ما شعر به أيضاً شقيقه محمد، إذ يقول: "حلمت بوالدي يمسك بيد خضر وهو يضحك ويقول له أريدك أن تسافر معي". وفي ليلة استشهاد أخيه لم يُفلح محمد في النوم إلا لوقتٍ قصير، ثمّ يستيقظ مفزوعاً بعد أن حلم بخضر ممداً داخل خزانة.
جند خضر يحملون الأمل من بعده
يقول عبد الرحمن (12 عاماً)، نجل الشيخ خضر، إنّه فقد القدرة على النوم المنتظم منذ إعلان والده إضرابه الأخير، وأصبح يتناوب ووالدته على النوم تحسباً لأي خبرٍ يأتي عن طارئ ما يحل بوالده. لكن عبد الرحمن لم يضع في حسبانه فقدان أبيه: "كنت بفكر أنه والدي راح ينتصر زي ما تعودنا كل مرة، وراح يطلع مرفوع على الأكتاف". إلا أنّه مع مرور الأيام أدرك أن هذا الإضراب مختلف، "بس شفت أنه ولا حدا موقف مع أبوي، شعرت بشعور سيء، شعرت أني راح أفقده".
في ديوان عائلة موسى، وقف عبد الرحمن وأشقاؤه يستقبلون المعزين، وقد تجاوزوا أعمارهم بكثير. يقول عبد الرحمن: "أصبحت الآن أنا المسؤول، اعتدت على ذلك كلما كان والدي يعتقل". ويحمل عبد الرحمن في قلبه وصية والده الدائمة القائمة على تربيته الدينية، "أوصاني والدي أن أختم القرآن في رمضان.. وختمته في ليلة القدر وهو مضرب".
يحلم عبد الرحمن أن يصبح طبيباً، أما شقيقه حمزة (10 سنوات) يقول: "بدي أصير خباز زي أبوي"، ولشقيقه التوأم علي حلم آخر: "بدي أصير شيخ وأحكي في المسيرات مثل أبوي". كان الأشقاء الثلاثة يقودون المسيرات في عرابة مساندةً لوالدهم المضرب، يُحملون على الأكتاف، ويهتفون لحريّته.
على باب المنزل وقفت الابنة الكبرى للشيخ، معالي (15 عاماً)، تبتسم للوافدين إلى المنزل وترحب بهم. كانت معالي تُخطّط أن توزِّع الحلوى على زميلاتها عندما يُحقق والدها مبتغاه بالحريّة، كما كانت تفعل في المرات السابقة، لكنها هذه المرة لم تذهب إلى الصفّ، وبقيت لتستقبل زميلاتِها اللواتي حضرن بزيّ المدرسة. دخلن واحدةً تلو الأخرى، وجلسن بصمت، بعدما لم يستطعن استحضار كلام يواسين به زميلتهن.
مضت نصف طفولة معالي وهي تنتظر تحرّر والدها من السجون، واليوم تكمل ما تبقى من عمرها دونه. تقول معالي: "كنت أدعو ألا يعتقل والدي، وخاصة أني اقتربت على التوجيهي، فأنا أريده أن يراني أحقق حلمي أن أصبح طبيبة جراحة". وتستدرك: "صحيح هو استشهد، ولكن روحه ستبقى معنا. وسأتذكر كلامه وتشجيعه كلما احتجت إليه".
لم يربي الشيخ خضر أطفاله إلا على الأمل، الأمل ذاته الذي قاتل طوال الوقت لأجله. وهكذا تبدو طفلته معالي التي كانت تبلغ أربعة أعوام عند أول إضراب خاضه ضدّ الاعتقال الإداريّ عام 2012، وعُرفت وشقيقتها بيسان في حينه بحضورهن المستمر في التظاهرات المساندة له. تقول معالي: "تعرفت على والدي وهو أسير أزوره في السجن، كنت أراه من خلف الزجاج المقوى، ويأتي صوته مشوشاً وبالكاد مسموعاً عبر السماعة".
ورغم انشغال الشيخ خضر بنشاطه السياسيّ والاجتماعيّ، إلا أنّه خصَّص وقتاً لأطفاله، يساعدهم على الدراسة، ويُرفّه عنهم، فلا يمرّ أسبوع دون أن يخرجوا لفسحةٍ معاً. كما يبدو أطفاله، رغم صغرهم، متأثرين بخطابه وذلك من خلال حديثهم المستمر عن الشهداء والأسرى. تقول معالي: "يمكن ما عشتش مع أبوي وقت طويل، بس ترك لي ذكريات كثيرة معه". تنظر معالي إلى المطبخ، وتبتسم: "كان فنان في الطبخ، وكنت أنا وأخوتي بنحب طبخه كثير".
خير المخبز الممتد
اعتقالات الشيخ خضر المتكررة حوّلت أسرته إلى خلية نحلٍ تنتظم بعملٍ يوميّ في مخبزها البسيط والذي يعتبر مصدر رزقها. لم تغلق العائلة المخبز يوماً واحداً في كل مرة اعتقل فيها الشيخ خضر، وحرصت أن يبقى مفتوحاً. كانوا يستيقظون الساعة الرابعة فجراً، ويتقاسم الأشقاء المهام بينهم والتي يجب إكمالها قبل التوجه إلى مدارسهم.
تعلّق معالي، "المخبز هو مشروع والدي الذي تعب عليه، ولذلك لا نتخلى عنه وسنبقى نعمل فيه". ومن خير هذا المخبز، كان الشيخ خضر يحرص على أن يكون الإفطار الأول لأي أسير يتحرر من السجن سواء من عرّابة أو القرى المجاورة، فكان يعدّ له مناقيش الزعتر الساخنة ويرسلها باكراً لبيته.
وفي المخبز ذاته، الذي أراد الشيخ خضر أن يكون مصدر رزقه المتحرر من أي ارتباط بمؤسسة حكوميّة أو غيرها، اعتدت عليه عناصر الأجهزة الأمنية عدة مرات. في أولاها داهمت المخبز وضربته ثم اعتقلته، وقد أضرب حينها 12 يوماً حتى أُفرج عنه. وفي المرة الثانية اقتحموا مخبزه لتهديده بمصدر رزقه إن لم يتوقف عن نشاطه. وفي المرة الثالثة، ضربوه أمام أسرته والعمّال في المخبز ثم انصرفوا، حسب ما صرح به الشيخ خضر في فيلم "بطل الأمعاء الخاوية".
سيرة مختصرة..
كان لقب الشيخ خضر بين أقرانه في طفولته "خضر الأخضر"، لأنه رُزق بعينين خضراوين، أورثهما فيما بعد لأطفاله. يضحك شقيقه محمد هو يتذكر طفولة الشيخ خضر، ويقول: "كان خضر فتى نشيط وذكي واجتماعي، كان مجتهد ومتفوق في المدرسة، واختار المسار العلمي، ثم درس الرياضيات الاقتصادية في بيرزيت". وبما أنه الأصغر بين أشقائه الذكور، فقد اعتمدوا عليه بالعناية بوالديه خاصّةً بعد سفرهم للدراسة خارج فلسطين. يقول محمد: "كان والدي يقلق عليه كثير، بس خضر جنّد أبوي معه، وصار يروح معه على المسيرات".
كان الشيخ خضر أحد الناشطين في الرابطة الإسلامية في جامعة بيرزيت، الذراع الطلابي لحركة الجهاد الإسلامي، وقد اعتقل أوّل مرّة عام 2000 في سجون أجهزة السلطة، بعد مشاركته وتحريضه على طرد رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك ليونيل جوسبان من الجامعة، بالإضافة إلى حوالي 15 طالباً آخرين. وقد تعرّض في حينه لتحقيق وتعذيب قاس في سجن أريحا.
تأثّر الشيخ خضر بشكلٍ خاصّ بشهداء الجهاد الإسلامي من بلدته عرّابة، والذين لمعت أسماؤهم في انتفاضة الأقصى، أمثال: إياد الحردان، وأنور حمران، وسفيان العارضة، ووائل عساف. تقول الأسيرة السابقة منى قعدان: "كان خضر يملك وعياً أمنيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً منذ بدء التحاقه بحركة الجهاد، وهو ما زاد من فاعليته في كل الميادين انطلاقاً من عرابة ثم جامعة بيرزيت، إلى باقي المدن".
تستقبل منى الضيوف في بيت الشيخ خضر، تخفّف عن زوجته، وتقوم ببعض مهام تنظيم العزاء. ذلك ذاته ما قام به الشيخ خضر حين توفيت والدتها، وكانت وشقيقها طارق قعدان أسرى داخل سجون الاحتلال. تعلّق منى: "الشيخ خضر نشيط في مساندة عائلات الشهداء والأسرى. محب للجميع، ومعروف بمزاحه وبساطته". وتضيف: "رغم إضراباته المتكررة، إلا أنه كان محباً للطعام وخاصة الحلويات، وكان يحب مشاركة الناس الأكل، كما كان محباً للحياة.. خضر كان يضرب من أجل كرامته وحريته".
وتنقل عنه أنّه استدل إلى الإضراب كوسيلة للمطالبة بحريته اقتداءً بما فعلته هي والأسيرة السابقة عطاف عليان، وقد خاضتا بشكلٍ فرديّ الإضراب عن الطعام بين عامي 1999-2000.
بالشوك.. لا بالورود
نشط الشيخ خضر في الميدان كفاعلٍ اجتماعيّ محاولاً ترميم الحاضنة الاجتماعية للمقاومة، فكان كثير الترحال بين مدن وقرى الضفّة، لا يغيب عن تشييع الشهداء واستقبال الأسرى، ويساند عائلاتهم. كما برز كشخصية فاعلة في التظاهرات والمسيرات السياسية والاجتماعية، بالحشد والدعوة لها، وبالمشاركة فيها وتقدمها بالهتافات.
وأمام الحضور المستمر لجانب عائلات الشهداء والأسرى، غاب الشيخ خضر عن عائلته التي اعتذر منها في وصيته التي تركها: "سامحوني على أي تقصير في جنبكم وأنا أغادر هذه الحياة الدنيا، ولكن تأكدوا إني ما شُغلت عنكم بإذن الله إلا الواجب". يقول شقيقه محمد: "كانت ألومه وأطلب منه أن يعطينا بعضاً من الوقت الذي يبذله لعائلات الشهداء والأسرى.. كان يرد أنهم يستحقوا أكثر". يصمت محمد وتنهال دموعه: "اليوم نحن أصبحنا عائلة شهيد.. أصبحنا مثلهم".
لم يكن الدرب الذي اختاره الشيخ خضر محفوفاً بالورود. فقد واجه، عدا عن الاعتقالات، حملة تحريض ممنهجة قادتها أجهزة السلطة الفلسطينية، شملت منشورات تحريضية على مواقع التواصل، ومنعاً له بالبلطجة والقمع من إلقاء الخطابات أو الهتافات في المسيرات، إضافة إلى تحريض أهالي الأسرى والشهداء عليه وتهديدهم من تبعات استقباله.
من ذلك، تعرض الشيخ خضر لاعتداء عناصر الأجهزة الأمنية خلال تواجده في تشرين الأول/ أكتوبر 2016 في حفل استقبال أسير محرر، في قرية صرة، غرب نابلس. يقول الأسير السابق، محمد علان، والذي كان متواجداً في المكان ذاته، إنّ إحدى شخصيات حركة "فتح" والعاملة في الإعلام الحكومي، حرّضت في تلك الفترة بشكلٍ مباشر على قتل الشيخ.
ومن ذلك أيضاً تعرضه للسحل والضرب خلال مشاركته في تظاهرة ضد محاكمة الشهيد باسل الأعرج، عام 2017، وتعرضه لإطلاق النار عليه خلال تواجده في نابلس في شباط/فبراير 2022. يقول علّان: "كان الشيخ يعلم أن كل ما يتعرض له من أجهزة السلطة هو جزء من التنسيق الأمني".
ما زالت الجدران في عرابة تحمل لافتات تطالب بالحرية للشيخ خضر. لم تستبدل اليافطات بعد، وربما تركت لِتُذكِّر بمعاركه. استشهد الشيخ، لكنه لم يَعُد بعد. هذه المرة ستكون عودته إلى المقبرة حيث سيدفن كما أوصى بجانب والده: "إذا كانت شهادتي فلا تسمحوا للمحتل بتشريح جسدي، وسجّوني قرب والدي واكتبوا على قبري هنا عبد الله الفقير خضر عدنان".