حين أحكم الجندي القيد على يديّ ووضعهما خلف ظهري، شعرتُ أن الدنيا انسحبت من أطرافي، كل انشغالات الحياة تلاشت، لهاثها، وتطلعاتها، وهمومها انطفأت فجأة، ولم يبقَ إلا صوت داخلي يقول: "اقترب من الله أكثر.. فهذا أوانه".
كنت أظن أن السجن سيكون عزلة خاشعة: كتاب، وسجادة، وبعض السكون، وخلوة تليق بأن أُهديها لله، لكني وجدت نفسي في جحيم اسمه "سدي تيمان"، جحيم لا عزلة ولا خشوع فيه، بل عتمة دائمة، وقيود لا تُفك، وعصبة سوداء تخنق عيني وتحرمني حتى من نورها.
لم يكتفِ السجّان بأن يسلبنا حريتنا، بل جرّدنا من أبسط حقوقنا الإنسانية: من الصلاة، ومن الوضوء، ومن الذكر، من تلك الهمسات الخفيّة التي اعتدنا أن نرفعها لله منذ الطفولة، من حقنا في أن نرفع رؤوسنا إلى السماء ونقول: "يا الله".
دخلتُ السجن في السابع من رمضان عام 2024، وكان قلبي يعجّ بعزمٍ كبير، نويت أن أختم القرآن كل يوم وليلة، كما كان يصنع الإمام الشافعي، نويت أن أتهجّد، وأن أركع، وأن أسجد، وأن أُهدي لله ليالي السجن. لكن أولى الصدمات كانت أنني وجدت نفسي مقيّد اليدين، ومعصوب العينين، مطبق الفم، لا أملك من أمري شيئاً، كالحيّ الميت، الساكن إذا تحرك عُوقب بتحريك عظامه عن موضعها.
اقرؤوا المزيد: وحوش بزي أطباء.. شهادتي عن سجن "سدي تيمان"
لم تكن هذه المفاجأة الوحيدة داخل مسلخ "سدي تيمان"؛ ذلك المعتقل الذي خرقت فيه "إسرائيل" كل قانون، وانتهكت فيه كل حق، فقد كان الوضوء جريمة، والصلاة جرماً، والتسبيح تهمة تستحق العقاب.
لم يكن السجن كما كان في ذهني، مكاناً يمكن أن يكون للعزلة والخلوة والعبادة، أو سريراً وكتاباً وقلماً، بل كان نوعاً من أنواع الجحيم.
في ذاك الجحيم، كان التيمم سلاحنا، وكان السجود بأطراف الرموش المختبئة تحت العصبة، دون أن نولّي وجوهنا قبلة ربنا، كان الجنود يفحصون أقدامنا بعد الخروج من الحمام، فإن بلّ الماء بشرتنا، اعتبروها دليل إدانة، فالوضوء كان تهمة، والاستغفار إعلان تمرد، والدعاء خرقاً لقانون السجن.
الله لن يُنقذكم
لم أعد أحلم بختم القرآن، بل بتكبيرة إحرام لا تسبقها صفعة، وبسجدة لا يعقبها عذاب، كنا نعرف أن السجود يُرمّم الكسور، يُداوي الجراح، وهم أرادوا أن يقطعوا عنّا كل حبلٍ موصلٍ إلى الله، أرادوا أن يُبقونا معلّقين بين الأرض والسماء، لم يعلموا أن الله هنا في كل مكان، أن الله مع كل دعوة مظلوم، ومع كل دمعة كسير داخل هذه الأقبية.
يُستثنى من ذلك بعض الأقسام في مسلخ سدي تيمان التي سُمح لهم فيها بالصلاة لمرات قليلة، شريطة ألا يُجهر بالتكبير أو القرآن، وأن يُؤديها كل أربعة أو خمسة أسرى منفردين، في حين أن جُلّ الأقسام لم تسجد جباههم فيها طوال فترة اعتقالهم.
كنا نُقاوم بالذكر، ونتحدى بالاستغفار، ونرتل الأدعية في صدورنا كأنها أناشيد ثورة لا تُكتم، وكان الدعاء صرختنا في وجه الجلاد، ولحظة تمرد نُعاقب عليها.
اقرؤوا المزيد: الناجي من جحيم "سدي تيمان"
ففي أحد أيام العشر الأواخر من رمضان، رأى أحد الحراس أسيراً يتوسل إلى الله بدعائه، فشبحوه ساعات، ثم قال له الجندي ساخراً: "لا داعي للصلاة، فالله لن يُنقذكم".

لكننا كنا نعرف أن الله هنا، ليس في الحرية فقط، بل في القيود، وفي الدموع، وفي الأنين، وفي التسبيح الساكن، وفي الرجاء الذي لم يمت يوماً.
لم يكن منع العبادة والصلاة في سجن سديه تيمان فقط، بل امتد إلى سجن النقب حيث منع السجان صلاة الجمعة، وصودرت المصاحف وسجادات الصلاة، وأُسكت الأذان في كل الأقسام. وفي سجن مجدو اضطر بعض الأسرى إلى الصلاة وقوفاً، بلا ركوع أو سجود، خشية من حفلات التعذيب إن ضُبطوا وهم ركّع لله.
ولم يتوقف سجانو الاحتلال عند منع الصلاة، بل تعمدوا إذلال كل ما يرمز إلى الدين، فدنّسوا المصاحف، وداسوها، ومزقوها خلال حملات التفتيش والقمع، وبصقوا عليها، وألقوها قرب دورات المياه.
أول مرة أصلي
في زنازين معسكر عوفر، وبعد ثلاثة أشهر ونيف من اعتقالنا، كان موعدنا مع أول صلاة دون خشية الإمساك بنا في "جُرم" الصلاة، صلينا كما لو كانت فاتحة الكتاب نزلت لتوّها، كان الإمام ينتحب، وصوته يتقطع بين الآيات، كأنها أول مرة نُصلي، وأول مرة نذوق لذة القرب، وأول مرة نشعر أن القيود قد سقطت. وإن كانت لا تزال في معاصمنا، تلك الصلاة، لم تكن فقط صلاة، كانت بعثاً جديداً، كانت لقاءً مع الله بعد طول حرمان.
كان يوم الجمعة معركة من نوع خاص، رأيت بكاء الأسرى كالأطفال الذين أضاعوا أمهاتهم، وقد تفلتت آيات سورة الكهف من ذاكرتهم، أو لأن رؤوسهم أنهكها التحقيق فلم تعد تحفظ كما كانت، يبكون لأن أبسط حقوقهم بات حلماً لهم.
صلوات مؤجلة
ليست حكاية الأسرى مع الصلاة فصلاً عابراً في دفتر النكبات، بل جرحٌ مفتوحٌ ينزف عند كل أذانٍ يُخنق، وعند كل سجدةٍ تُؤدى في الخفاء، وعند كل مصحفٍ يُمزق تحت بسطارٍ لا يعرف قداسةً ولا رحمة.
هناك، خلف الأسوار، حيث يضيق الوقت ويتّسع الوجع، تُعلّق الأرواح بين السماء والأرض، لا تملك إلا فتات يقينٍ تُقاوم به، ولا ترتوي إلا من بقايا رجاءٍ تسلّل من شقوق الزنازين.
اقرؤوا المزيد: نايف نصّار: كلّ ما أردته أن أمُدَّ قدمي!
صلاتهم ليست كصلاتنا، بل همسات تُرتل في صمت، وركعات تُؤدى في الخيال، وسجدات تسقط من أطراف الرموش المُقيدة بالقهر.
ذلك الألم الذي لا تلتقطه عدسة، ولا يُروى في نشرات الأخبار، ما هو إلا صرخة مكتومة، تستغيث من خلف القضبان، وتنبض في وجه العالم المُتخم بالإنكار.
فلا تتركوا صوتهم يغيب، دعوه يهمس في آذانكم مع كل تكبيرة، ودعوا قلوبكم تركع معهم في صلاتهم المؤجلة، حتى يأذن الله بفرجٍ تُفتح له الأبواب، وتُرفع فيه الجباه إلى السماء بلا وجل.
هذه ليست قصةً من زمن مضى، بل حاضرٌ يُجلد كلّ فجر، في كل سجنٍ تُطفأ فيه المصابيح ليُخنق الدعاء، وفي كل زنزانةٍ تُحرم فيها الجباه من احتضان الأرض.