"وحكيتُ لهم عن بناء فلسطين، وطارحتُهم مسائل في البناء. فقال لي الأستاذ: أنت مصريّ؟ قلت لا، بل فلسطينيّ، فقال: سمعتُ أن عندكم تُخرّم الأحجار كما يُخرّم الخشب. قلت: أجل. قال: أحجاركم ليّنة ولِصُنَّاعِكم لطافة"1نقلاً عن: لعيبي، شاكر، الفن الإسلامي - سوسيولوجيا الفنان الغفل، ترجمة: عبد النبي ذاكر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2020، ص 348.. هذا ما ذكره الجغرافيّ الرحّالة شمس الدين المقدسيّ عن حوارٍ دارَ بينه وبين أحد البنّائين عن حِجار وحجّاري فلسطين. غير أنه إنْ كان لِطَرقة الشاكوف مَدى، ولرنّةِ الإزميل صَدى، فإنّ ذلك قد كان في صفد؛ مدينة الحجّارين والعمّارين.
لمّا وصف الرحالة التركيّ أوليا جلبي صفدَ في رحلته إليها سنة 1645، بأنها "مثل حمامة تتحفّز للطيران"، فإنّ هذا التشبيه لم يُولَد على لسانه إلا من شكلِ معمارها على جبالها، فصفد مدينة مُصفّدةٌ بالجبال2 القلا، د. فخر الدين، صفد، مقابلة شفوية على موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي لنكبة فلسطين، تاريخ 12/7/2008. واُختلف في معنى تسمية صفد، إذ قيل عنها "صفاة" أي الصخرة الصلد، أو أنها كلمة آرامية وتعني الربوة أو المُرتفع، ومن هُنَا كان اسمها. وفي معنى آخر لتسميتها، يقال بإنّها "صفاة" أي "الصخرة الصلد"3العسكري، محمد أمين صبحي، مدينتي صفد - الشمس تُشرق من هناك، دار فلستينا/ الشجرة للنشر والتوزيع، دمشق، 2017، ص 41.، وصلدُ صوانِها معروفٌ للحجّارة. ومن أشهر حاراتِها التاريخيّة حارةُ الصواوين نسبةً لصوان حِجار أزقتها وأدراجها، التي يُقال إنّ دبابات الـ"هاغاناه" الصهيونيّة داستها نزولاً يوم تهجير المدينة دون أن ينكسر من صوانها حجرٌ.4تقي الدين، عبد الرحمن مصطفى السيد، صفد، لاجئ صفدي، مقابلة شفوية أجراها معه الكاتب عبر تطبيق زوم، تاريخ 17/8/2021.
إذا كانت بيوت صفد، المُحجّر بعضُها بالصوان الأبيض، لم تحمل تواقيعَ عمّاريها، فإنّ الذوق المعماريَّ لبيوتها التي أبقى عليها الصهاينةُ بعد النكبة باعتبارها "غنيمةَ حرب"، هو توقيعٌ بذاتِه، يدلُّ على همّةِ حَجّاريها، وقِمة عمّاريها عبر التاريخ. لم يُكتب عن احتراف الصفديين في قلعهم الحَجر وصقله ثمَّ دَقهِ، لكن قيل عنهم الكثير، فَهُم بناؤون وحجّارون بقدر ما كانوا حُيّاكاً وتجاراً وأكثر.
ذاكرة الدمار والعَمار
في صفد إرثٌ معماريٌّ يعودُ بثقله إلى التاريخ المملوكيّ وولع سلاطينها في عمار المدينة، وظلَّ هذا الولع حتى التاريخ العثمانيّ، إلى أن جاء زلزال سنة 1837 على آخر حجرٍ من حِجار معمار المدينة وبيوتها5العابدي، محمود، صفد في التاريخ، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 1977، ص 103.. ذلك الزلزال الذي يُقال بحسب صاحب كتاب "الأرض والكتاب" بأنه جعلَ كلَّ بيتٍ من بيوت صفد يترنح مثل رجلٍ سكران6طومسون، "الأرض والكتاب" - The land and the book. نقلاً عن العابدي، صفد في التاريخ، ص103. فبعثرها على أهلها، مات فيه أكثرُ من خمسة آلاف من البشر، ولم يَترك الزلزال في المدينةِ حجراً على حجر.
كان زلزال ثلاثينيات القرن التاسع عشر هذا مُدمِّراً إلى الحدِّ الذي جعل في كلِّ قريةٍ ومدينةٍ في الجليل والجولان وجبل عامل عائلةً تُدعى الصفدي! فقد ترك الصفديون الناجون مدينتَهم في حينه وهاموا على وجوههم. ولأنَّ صفد، هي مدينة "أهل بين الجبلين"، كما تعارف أهلها وزوّارُها عليها، حيث تقع بين جبل كنعان وجبل القلعة، فقد كان لطبيعة المعمار الصفديّ الذي ظلّ يأخذ شكل البيوت المُدرّجة فوق بعضها مسنودةً على سفوح جبالها، كبيرُ أثرٍ على حجم دمارها في الزلزال. وذلك، لأنّ أسطح البيوت السفلى كانت ممراتٍ وطرقاتٍ للبيوت التي هي أعلى منها، ولمّا ضَرَبَها الزلزال انهدمت البيوتُ المرتفعةُ على التي تحتها وهكذا، فهُدمت معظمها.7المرجع السابق، ص 104.
كما نال الزلزالُ من قلعة صفد الشهيرة التي بناها الصليبيّون سنة 495هـ / 1012م، وأعاد ترميمها السُّلطانُ المملوكيّ الظاهر بيبرس بالحَجر الهرقلي، وظلّت القلعةُ مركومة حتى عام النكبة. بينما استخدم الحجّارون والعمّارون حجارها المبعثرة في إعادة بناء بيوت المدينة بعد الزلزال. كما أطاح الزلزال بمئذنة الجامع الأحمر، أحد أشهر معالم مدينة صفد المعماريّة وأجملها. بنّاه بيبرس في حارة الوطاة عام 674هـ / 1275م، قيل عنه الأحمر لِلمعة حِجارته الكلسية الحمراء، فكان أقرب في بنائه وبُنـيـتِهِ للقلاع منه للمساجد. ظلّ الجامعُ مبتوراً من مئذنته إلى يوم تهجير أهله، بينما مدخله بقي مقرنصاً بأربعة صفوف من المقرنصات التي تركها المماليكُ توقيعاً عنهم وعن طُرز معمارِهم، بأمنها وجمالها معاً إلى يوم النَّاسِ هذا.
حتى حمّام العنبرية، الذي غَسَّلَ ماؤه بدنَ كلِّ صفديٍّ وصفديّة، وَقَعَ في الزلزال ولم تبقَ منه غيرُ أحواضِهِ بحجارتِها السوريّة (البازلتيّة) السمراء. إلى عام النكبة، كانت أحواضُ الماء في حمّامات صفد تُبنى من الحَجرِ البازلتيّ الأسود كي يظل ماؤها ساخناً، في تقليدٍ مُتعارفٍ عليه في معمار الحمّام الشاميّ.
الحجّارة وأياديهم الخشنة
ما كان لصفد أن تنبُتَ مُجدداً عند جبليها، بعد زلزالها وزوالها، لولا حجّاريها قبل عمّاريها، تلك الفئة الغالبة والمغلوبة على أمرها، فمعظم فُقراء صفد منها، ومع ذلك كانت مغلوبة، لأنها عاشت قصيّةً عن حياة المدينة وإيقاعها اليوميّ، إلى أن صارت فئةً مَقصيةً من ذاكرتها. راح الحجّارة براحاتِ أكفّهم يُعِدّون أضرحةَ الضحايا وذلك من حِجارة بيوتهم التي هزّها الزمن. والباقي منها أعادوا كَتَّها وحَتَّها لدبِّ الحياة فيها، ثمّ في المدينة ومعمارِها.
"تِزْعِلِش الجار والحجّار"، هذا ما اعتاد الصفديون قوله في مدينتهم. الجار، لأنّ حُسن الجوار واجب، أما الحجّار فلأن يَدَه حَجر، يتحاشاهُ الناس. حتى أن الحجّارين كانوا أكثر الناس تفادياً لضرب أبنائهم كما يقول السيد عبد السلام خَرمة8خرمة، عبد السلام، مهندس معماري، صفد، مقابلة شفوية، أجراها معه الكاتب عبر تطبيق زوم، تاريخ 16/8/2021.. ومِن الحجّارين مَن كان يُمكِنُه لخشونةِ أصابعه مسح النقش عن العِملة، كما يقول الحاج محمود الرفاعي9خرمة، عبد السلام، مهندس معماري، صفد، مقابلة شفوية، أجراها معه الكاتب عبر تطبيق زوم، تاريخ 16/8/2021.. ويُقال إنَّ الفتاة الصفديّة كانت تبكي حين يتقدّم لِخطبتها حجّار، وتقول: "إيدو خشني بتطبُشني"، فيواسيها أهلُها، ويحاولون التخفيف عنها قائلين: "هو نحّيت مش حجّار".
كانت مقالعُ صخرِ جبال صفد تحت ضربات شواكيف الحجّارين فيها، منها مقالع في جبل كنعان الذي ظلّتْ بعضُ أحياء المدينة مسنودةً عليه، مثل حارة الأكراد شرق المدينة، وكذلك جبل الجرمق غرب المدينة الذي يَفصلهُ عنها وادي الطواحين الشهير. كانت صخور ميرون في الجرمق مطلبَ يهودِ صفد، الذين اشترطوا على معمرّجية المدينة البناءَ بحجارةٍ مُقصّبةٍ ومصقولةٍ من صخر ميرون لقداستها لديهم.10 جايجر بنيامين، مذكرات بالعبرية بعنوان "أحاد مزكيني تسفات" - أحد من مُسنّي صفد، 2011، ص49.
لم يكن يكتفِ حجّارو صفد بمقالع ومحاجر الجبال المحيطة بمدينتهم، إنما يُذكر أنَّهم كانوا يتغيّبون عن بيوتهم ومدينتهم أياماً وأسابيع، وأحياناً لشهور، قاصدين جبال عامل إلى لبنان شمالاً، وشرقاً إلى الشام، لجلب الحجارة من محاجر ومقالع تلك البلاد، نقلاً على الحمير والبغال.11 تقي الدين، عبد الرحمن مصطفى السيد، المقابلة السابقة.
وإذا قَصَدَ الحجّار مقالعَ جبال عامل، ظلَّت زوجتُه على أعصابِها إلى حين عودته، فقد تعوّد بعضُهم الزواجَ على زوجاتهم في رحلاتهم من عامليات المتاولة هناك. الغريب في زواج الحجّارين هذا، أنهم كانوا يعودوا إلى صفد ومعهم حِجارهم على بغالهم فقط!12خرمة، عبد السلام، المقابلة السابقة. ولذلك قد تكون حكاية زواجهم على هامش رحلة المحاجر هذه محض وساوس عند زوجاتهم.
ليس لخشونة حِرفة "الحجّار" وخِشيّتها فقط كان الحجّارة فئةً مُهمّشة، إنما كذلك لِعُزلتهم الدائمة في التلال والجبال الصخريّة. هذا ما يفسّر اتباع سُلطات الحكم والدول في التاريخ الحديث عقاب سُجنائها بدفعهم إلى المحاجر لقلع الصخر وكسره.
المُلفت فلسطينيّاً أنّ الشيخ الشهيد عز الدين القسّام حين بدأ يحرّض من حيفا في ثلاثينيات القرن الماضي على الاستعمار البريطانيّ وهجرة الصهاينة للبلاد، لم يكن مُصلو جامع الاستقلال أول من استجاب لثورته، إنما حجّارة جبال الكرمل والكبابير، كانوا هم أول من التحق به!13 عن ذلك، راجع : حمودة، سميح، الوعي والثورة - دراسة في حياة وجهاد الشيخ عز الدين القسّام 1828-1935م. دار الشرق للنشر والتوزيع، عمان،1986، ص 52. إذ انتبه الشيخ في حينه إلى هذه الفئة الاجتماعيّة المُهمَّشة، وضرورة تجنيدها.
الحجّار قبل العمّار
وقبل أن يتعرّف الحجّارة على تقنية تفتيت الصخور بقنابل الديناميت مطلع القرن العشرين، كانت لهم أدواتهم الخاصّة. منها النُخُـل، وهو عصا الحجّار، تلك الأداة المصبوبة بالحديد صبّاً، من أجل تحريك الصخر وقلعه من مكانه. وغير النُخُـل، كان "الشاكوف"، مطرقة يساوي وزنها 12 كيلوغراماً، وطول عصاها يصل إلى كتف الحجّار، يستخدمها لطرق الإزميل بها، وذلك من أجل كسر الصخر وفلقهِ.
وإذا ما كان الصخر صلداً أصماً، "بَخَشَهُ" الحجّار بواسطة "البِـيْـك" (من أدوات الحجّار)، وذلك بقدر حجم كوب ماء، ثم سكب الماء في التجويف، وترك الصخرة حتى اليوم التالي، وومن ثمّ يضربها بالشاكوف مرةً أو اثنتين، وكان ذلك كافياً لشطر الصخرة نصفين. وهذا تقليد متعارف عليه في عالم المَحاجر، إذ للماء قُدرة على الخَرّ في الصخر ونخرهِ حتى إضعافه.
كان العمّارون يعرفون التمييز بين حجّارٍ وآخر، فمنهم من اشتغل مُكسِّراً للصخر، ومنهم من امتهن قَصَّه وتقصيبه وجعلِه حِجارةً مصقولة على الشكل المطلوب للبناء. بينما آخرون احترفوا حَتَّه ونحتَّه، فضلاً عن التفجيم والتخريم، ما جعلهم بنظر العمّارين فنّانين، إلى حدٍّ ذاع صيتُ بعضهم في صفد، مثل الحاج سليم عبد المجيد الأسدي وآخرين، ولذلك كان البعض عندما يريدون بناء بيت في المدينة يتوّجهون للحجّارين قبل العمّارين.14 النقيب، د. أسامة مصطفى، صفد، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 23/12/2012
كانت حارة "الجورة" الصفديّة مأوى الحجّارين ومسكنهم، وما زالت حجارة بيوتها حتى يومنا بيضاء مبصومة أطرافها بأصابع أكُف حجّاريها المدمّاة، بعد أن جرّحها صوان جَبليّ الجرمق وكنعان. تلك الجبال التي لم يُبقِ صلد صخورها على كف عمّار إلا وشققته، ولا حذاء حجّار إلا ومزقته. جبالٌ، كان مجرد صعود انحدارها كافياً وحده، لخض كل دَم الحجّار بكامل لحمهِ.
هذا بعض ما حملته الذاكرةُ عن بيوت حارات الأكراد والصواوين والجورة والوطاة، وكذلك النصارى واليهود الصفدية، التي ظلت حِجارتها مصفوفة ومشطوفة من غبارها، الذي غطى وجوه الحجّارين وقمصانهم إلى يوم الاقتلاع والرحيل. وسيرة السَير شرقاً وشمالاً، والعودة بأحمالٍ على قافلة جِمال أو قِفل بغال إلى صفد صعوداً، قوافل كلما أثقلتها حجارُ خِراجها، خفَّ وقع أخفها وحوافرها، ليبقى حِسُّ أنفاسها، كلما نهرها الحجّارون، مسموعاً من بطن وادي الطواحين.