6 أكتوبر 2025

شوكولاتة وحلم.. هكذا تحدت ياسمين المجاعة

شوكولاتة وحلم.. هكذا تحدت ياسمين المجاعة

كنت أجلس في الركن الصغير الخاص بأسرتنا في مركز إيواء داخل مدرسة تابعة للأمم المتحدة في غزة، عندما اقتربت مني ابنتي ياسمين، ذات الثلاثين عاماً وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة، وعيناها تتلألآن فرحاً، إذ بدت وكأنها تحمل خبراً مهماً. أصغيت إليها وهي تنطق كلماتها بصعوبة: "بابا، أنا أكلت شوكولاتة". قالتها وكأنها تعلن انتصاراً شخصياً وسط هزيمة جماعية.

انتابني الذهول للحظة! من أين لياسمين بالشوكولاتة وغزة ترزح تحت حصار إسرائيلي خانق؟

اقرؤوا المزيد: الطريق المفخخ إلى كيس الطحين

لطالما عاشت ياسمين حياتها في عالم له إيقاعه الخاص، ولغته الخاصة، وبراءته الخاصة، وعواطفه الخاصة.

للأسف، عندما كانت في عمر أربعة أشهر فقط، أصابتها حمى شديدة تركتها بإعاقة نمائية. وفي سن السابعة، أصيبت بالتهاب رئوي مزمن وخضعت لعملية جراحية، ما أثّر أكثر على صحتها ونموها.

عندما تبددت مملكة ياسمين

حاولنا أن نوفر لياسمين حياة مريحة قدر المستطاع. جهزنا غرفتها بكمبيوتر وتابلت وكتب تلوين وألعاب مختلفة: مكعبات، ودمى محشوة، وبالونات، وحتى أرجوحة معلقة من السقف. كما نظمنا أنشطة داخل المنزل وخارجه. وكانت لعبة "الاستغماية" لعبتها المفضلة التي تمنحها فرحاً ونشوة. كذلك استشرنا مختصين وصفوا لها أدوية خاصة.

لسنوات طويلة، استطعنا إلى حد كبير تدبير حالة ياسمين. لكن في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، قصفت طائرة إسرائيلية منزلنا وحولته إلى ركام. تبدد كل شيء، بما في ذلك "مملكة ياسمين".

اقرؤوا المزيد: الجوع والخيمة

منذ ذلك الوقت، لم نعرف الاستقرار. تعرضنا للنزوح القسري مرات عديدة، متنقلين بين مراكز إيواء مختلفة في غزة. واليوم، تنام ياسمين على فرشة غير مريحة، وسط زحام خانق، بلا خصوصية، ولا هدوء، ولا أبسط مقومات الراحة.

أصبحت رعايتها مهمة شاقة: فهي تحتاج إلى المساعدة في ارتداء ملابسها، والانتظار الطويل لدخول الحمام، والمشي وسط الزحام. بالكاد نستطيع توفير بعض أقلام التلوين لها. أما أدوية علاجها، فأصبح العثور عليها معجزة.

ياسمين توزع الحلوى على الأطفال النازحين.
ياسمين توزع الحلوى على الأطفال النازحين.

ياسمين فتاة جميلة، واجتماعية بطبعها. ومن اللافت أن الناس لا يجدون صعوبة كبيرة في فهم كلماتها. قد تتصرف أحياناً بما يثير الضيق، لكن معظم من يعرفها يظهر تعاطفاً معها. 

طيبة للغاية، كثيراً ما تشارك صديقاتها طعامها، وتصر في مناسبات مختلفة على إعداد هدايا لهنّ. ففي عيد الأضحى من العام الماضي، زينّا صينية حلوى ووضعنا على كل قطعة بطاقة صغيرة كُتب عليها: "العيد أجمل مع ياسمين". قامت بتوزيعها بفخر، وبثت البهجة في قلوب الأطفال النازحين.

حلم ياسمين

على مدار الشهور الماضية، ازدادت الأوضاع قتامة. فبالإضافة إلى القصف والتدمير المتواصل على غزة، شددت "إسرائيل" حصارها غير القانوني واللاإنساني، ومنعت وصول الطعام والوقود والدواء. اختفت من الأسواق الخضار والفاكهة واللحوم والدجاج والحليب والبيض والسكر… وحتى الشوكولاتة!

لقد أصبح شح الطعام مشكلة خطيرة لجميع أهالي غزة. فكل من أعرفه هنا أصبح أنحف، وجوههم شاحبة وأجسادهم هزيلة. الدوار يلازمني أنا وزوجتي. أما ياسمين، وهي الأكثر عرضة للخطر، فقد تضاءل وزنها وتدهورت صحتها كثيراً.

ياسمين بعدما فقدت الكثير من وزنها وتدهورت صحتها خلال الحرب.
ياسمين بعدما فقدت الكثير من وزنها وتدهورت صحتها خلال الحرب.

وسط هذه الظروف القاسية، وقفت ياسمين أمامي بابتسامة مفعمة بالحياة، وفاجأتني بعبارتها: "أكلت شوكولاتة!". سألتها بدهشة: "أكلت شوكولاتة يا ياسمين؟ أين؟ من أعطاك إياها؟". هزت رأسها بلطف وقالت بابتسامة هادئة: "لا، لا يا بابا، أنا ما أكلت شوكولاتة. أنا قلت، أنا حلمت"!

قفزت من مكاني واحتضنتها بقوة، وضحكت ضحكة عالية لم أضحكها منذ شهور، لكنها كانت ضحكة ممزوجة بحزن عميق وإرهاق شديد.

اقرؤوا المزيد: "بحثت عن قطة فلم أجد".. عن تجويع الشمال

في وسط أهوال الحرب والمجاعة، حلمت ياسمين بشيء حلو. وكانت حلاوة هذا الحلم كافية لتمنحها سعادة غامرة.

ياسمين، الفتاة ذات الاحتياجات الخاصة، لم تكن تدرك المعنى السياسي لحلمها. فهي لم تعلم أن حلمها البسيط، الذي تذوقت فيه شيئاً بعيد المنال، كان فعلاً مقاوماً وتمرداً على جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين، وأملًا بالعيش بحرية وسلام وكرامة.