13 سبتمبر 2022

شرايين غزّة المفتوحة

شرايين غزّة المفتوحة

يتجدّد حزن أهالي الشهداء مع بدء العام الدراسي كما كل المواسم والمناسبات الأخرى. فكل شيء بعد جرح الفقد يتحول إلى ملح كما يقول أهالي الشهداء: "وليس أمامنا سوى أن نعيش دورة العزاء والحزن من جديد لأن جرحنا جرح لا يندمل". فيما يلي، قصص قصيرة جداً - كالحياة في العدوان- عن شهداء العدوان الأخير على قطاع غزة. 

عطش

بعد خمسة عشر عاماً من العطش، حمل الشاب خليل أبو حمادة الماء لوالديه، وفي أيام الحرّ بترَ صاروخٌ إسرائيليّ يديه، فعاد الظمأ يلتهم شفتي والديه.

** 

بعد خمسة عشر عاماً من الانتظار، جاء خليل أبو حمادة (19 عاماً)  بمشقةٍ وبعد عدة عمليات زراعة مختلفة. كانت نجوى - والدة خليل، تدخل كل عمليةٍ بقلبٍ مُثقل بالدعاء، إلى أن تكللت إحدى تلك العمليات بالنجاح وجاء خليل  إلى الدنيا. كان البيت فارغاً، إلى أن ملأه خليل كما تقول والدته. لكن ذلك لم يستمر.  في 6 آب/أغسطس الجاري، استشهد  خليل  وحيد والديه  في قصفٍ إسرائيليّ طال تجمعاً للفلسطينيّين وسط مخيّم جباليا شمال قطاع غزّة. 

كما حَمَل خليل الحياةَ معه حين جاء حَمَلَها حين رحل، وخُطفت البسمة من على وجه والدته، وعادت الحسرة مرةً أُخرى تُخَيّم على البيت، وأحالت خططَ زواجِ خليل المرتقب سراباً. "أتحسر في كلِّ مرة أرى فيها شاباً يحمل طفله إلى الروضة. بعضهم من جيل ابني خليل، كان سيحمل أطفاله بهذه الطريقة، وعدنا أنه سيملئ البيت أطفالاً، لكن الاحتلال خطف كل أحلامه"، تقول والدته.

تحليق

لوّحت كثيراً بيديها، في المسرح، وخارجه، وفي كلِّ مُرة كان كاحلُها يخطِفُها من وثبتها ويُعيد لصق قدميها بالأرض. كانت ليان خفيفة جداً ومرحة، وكما كلُّ الأشياء الخفيفة كان قدرها الرحيل المستمر.  ظلّت ليان تطمح بالتحليق إلى أن أنبت صاروخٌ إسرائيلي في ظهرها جناحين، وتحرّرت أخيراً من قبضة كاحلها. 

**

كعادتها مدّت ليان يدها من شباك السيارة التي تقلها وعائلتها إلى البحر يوم الجمعة 5 آب/ أغسطس، إذ كانت تحب ملامسة الهواء. وبينما كانت تشتعل هي وأشقاؤها حماساً للسباحة في البحر قطعَتْ غاراتُ الاحتلال مسيرهم، وصارت العائلة التي كانت تركب في سيارةٍ واحدة تبحثُ عن أجساد بعضها المُبعثرة.  أُصيبت ليان الشاعر (9 أعوام) بجراحٍ حرجة لترتقي "فراشة المسرح" شهيدةً في 11 آب/ أغسطس. و"فراشة المسرح" هو لقبها الذي كانت صديقاتها ومدربو الدبكة في مركز "نوار" حيث تتدرب، يُطلقونه عليها. كان من المقرر أن تدخل ليان الصف الخامس الابتدائي، لكن بدلاً عنها، حملت والدتها صورتها وجلست مكانها في مقعد الدراسة، ليتجدد العزاء والحداد.

"الأطفال والأهالي بكونوا فرحانين لأنهم الدراسة بدأت. لكن أنا حزينة كثير ومتألمة كثير، لأنه ليان كثير مجتهدة وبتحب الدراسة ومتحمسة للصف الخامس، وأنا الآن بفتقد طلعتها عالمدرسة، ورجعتها"، تقول والدتها.  

شكوى

اعتاد الفتى نظمي أبو كرش زيارة قبر والدته كلّ يوم. كان الفتى يشكو ثقل الحياة من بعد رحيلها، ويدلق على قبرها الماءَ خشيةَ أن تشعر بالحرّ. عصر يوم الأحد 7 آب/أغسطس، همس نظمي في أذن والدته آخر سرّ، فأخذته  في حضنها. 

**

لم يكن يمر يوم دون أن يزور الفتى نظمي أبو كرش (16 عاماً) قبر والدته التي توفيت قبل أربعة أعوام ودُفِنت في مقبرة الفالوجا القريبة من منزلهم. ما من شيءٍ بدّل حال نظمي كوفاة والدته. يقول والده فايز، إن نظمي تحوّل لإنسانٍ آخر بعد رحيل والدته. كان مشاكساً، وصار هادئاً كأنّه تهدّم. 

يقول صديقه أحمد إنَّ نظمي لا ينقطع عن الحديث عن والدته: "كان مشتاق لأكلها. وكانت عينيه تدمع إذا شاف حد ماشي مع أمه، أو أم بتنادي على ابنها". بينما كان يجاور قبر والدته يوم الأحد 7 آب/أغسطس، استهدفت طائرات الاحتلال نظمي مع مجموعة من الفتية، وتحوّل مقعده إلى قبره، ودفن نظمي في نفس المقبرة بالقرب من والدته.

بزيّه المدرسي، كان يقف أحمد قرب قبر صديقه نظمي: "كان متشوقاً للثانوية، كان مفترض أن نكون في صف أولى ثانوي مع بعض، ونروح عالمدرسة ونروح مع بعض زي ما كنا دائماً".   

ثأر شخصي

ربط على خصره وذراعه حزاماً أسود. مضت  سنوات طويلة وهو يمشي في طريق الثأر. تدرّب خلالها على مدفعٍ دقيقٍ مضادٍّ للمدرعات، لأنَّ اليد التي أوغلت في دمّ أبيه كانت يداً من حديد، وها هو يعرف تماماً كيف يُمكن صهر الحديد. لقد حلَّ العقدة التي أرّقت والده، ولم يكن هناك بدٌّ من مقابلته فوراً. 

**

"كان يوسف يقول دائماً إنَّ ثأره مع الاحتلال ثأرٌ شخصيّ، لهذا صار مقاوماً"، تقول والدة الشهيد يوسف قدوم، وزوجة الشهيد سليمان قدوم. كبر يوسف دون والده الذي استشهد عام 2002 بعد اشتباك مع قوات الاحتلال، خلال مشاركته في عملية اقتحام نفّذتها مجموعةٌ من خمسة مقاومين من كتائب شهداء الأقصى وكتائب المقاومة الوطنية، وذلك في مستوطنة نتساريم جنوب القطاع، ثمّ لاحقاً فقد عمَّه في عملية اغتيال عام 2019.  كان يوسف رياضيّاً محترفاً في نادي الزيتون الرياضي، وحاصلاً على الحزام الأسود في الفنون القتاليّة. كان يوسف سند البيت بعد والده، تقول والدته: "ونحن خسرنا هالسند".

في 5 آب/أغسطس الماضي، استشهد  يوسف (24 عاماً) في قصفٍ إسرائيليّ استهدف تجمعاً للمواطنين في حي الشجاعية شرقي القطاع، ولحق بوالده وعمّه. تقول والدته بصوتٍ رزين: "أنا مؤمنة بقدر الله، لكن أفتقد يوسف في كل ساعة وكل يوم، كل مناسبة، مش موجود فيها، بتخليني أحس بغصة في قلبي، لأن الحياة كانت بتستناه وكان طموحه عالي".

لعبة

اعتادوا أن يلعبوا لعبة الأسماء، مرّةً يأخذ الجدُّ أسماء أحفاده الأربعة، ومرةً يأخذون هُم اسمه، ويختبئون. وحين كان يكشف أحدهم الآخر، كانوا يستعيدون أسماءهم. قبل عامين، لعب جدهم معهم آخر مرة، أخذ أسماءهم واختفى، وراح أحفاده يبحثون عنه. سمعوا مسيرة تشييع تهبط في المقبرة القريبة من منزلهم.  في مخيلتهم، لم يكن ذلك سوى حيلة تخفٍ جديدة من الجد. مضت أيام طويلة، وهم يبحثون دون جدوى، ذات يومٍ من أيام شهر آب، اهتدى أحدهم إلى أول اللغز. ركض بين القبور، ووجد قبر جدهم، لوّح للآخرين، وسقطوا واحداً تلو الآخر في حضن جدهم.

**

اعتاد أن يلعب أبناء عائلة نجم الأربعة جميل (13 عاماً) وحامد (16 عاماً) ومحمد  (16 عاماً) وجميل (4 أعوام)  قرب قبر جدّهم جميل حامد محمد نجم الذي توفي قبل عامين، ودُفِن في مقبرة الفالوجا شمال قطاع غزّة.  كما كل أطفال منطقة الفالوجا، كانت المقبرة حيز اللعب الوحيد للأطفال والاستظلال في ساعات الحرّ للكبار  أمام فقر المساحات والمتنزهات. 

يوم 7 آب/أغسطس الماضي، استهدف الاحتلال تجمع عائلة نجم في المقبرة، وهم يقفون قرب قبر جدهم. تهشّم قبرُ الجد الذي ظلّ مؤنسَهم الوحيد حتى وهو في قبره، واختلط شاهد ذلك القبر بدمِّ أحفاده الذين دُفِنوا بجواره.

لم يكن جميل وحامد ومحمد يفارق أحدهم الآخر، تقول جدتهم: "كلّ صورهم مع بعض. أما جميل الصغير، فكان بخاف يقطع الشارع ويصل للمقبرة. لكنه يا حرام تجرأ ووصل المقبرة في هداك اليوم، فكانت خطواته الأخيرة".  

بعد عدوان عام 2021، تروي جدتهم أنّ حامداً وجميلاً ومحمداً، مثّلوا شهادتهم: "تمدّد جميل على سلم صغير، وحمله حامد ومحمد، كأنهم في جنازة تشييع. واليوم شيعناهم عالحقيقة". "والله بشوف هالأطفال والأولاد، وهم بروحوا عالمدارس وبروحوا، وبتحسر على أولادنا، حزننا ما بنتهي"، تقول الجدة. 

غريم

ها هو.. هتفت الفنانة دُنيانا العمور حين نزعت الوجوه السوداء وألصقتها على ورقة. تنفسّت، وقالت: تذكروه، هذا هو صياد أحلامنا التي لن نتوب عن الوصول إليها. ومنذ تلك اللحظة، تحينت الوجوهُ  لحظة الانتقام من دنيانا. 

**

من الشرق كان البلاء. صلتّ دنيانا العمور العصر، ومضت إلى غرفتها. كان لدنيانا (23 عاماً) التي تسكن شرق محافظة خانيونس قرب السياج الفاصل مع الأراضي المحتلة عالمها الخاص في غرفتها. لِيدِها لسانٌ آخر، منه تحكي ما لا تستطيع نطقه. حين تحزن كانت ترسم، وحين تفرح، أو تفكر، كل ذلك، كان يُترجم سريعاً إلى لوحة. لذلك، حين قضت شهيدةً يوم الجمعة 5 آب/أغسطس كانت لوحاتها المبعثرة في الغرفة، أول المشيعين. 

كانت دُنيانا فنانةً حالمة، كتبت بعد نجاتها من عدوان العام الماضي: "أخبروا أحلامنا أننا لن نتوب عن الوصول إليها". وحينها كانت طالبة على بُعد فصلٍ دراسيّ من التخرج من كلية الفنون في جامعة الأقصى.  وقد أمضت الكثير من وقتها في محاولة إعادة إنتاج الواقع النفسيّ والماديّ الذي يُخلِّفه العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزّة، فنيّاً، حتى تكدّست لوحاتها في غرفتها. ظلّت دنيانا ترسم حتى سال دمها وخطّ لوحتها الأخيرة. 

صلاة

كانت رؤيتُه تُذكِّر بالصلاة، كأنّه يحمل مئذنةً على ظهره. كان يعرف أهل الحي إن طلّ أنَّ الموعد قد حلّ. وحين يلمحه الصغار كانوا يتجهّزون لتلاوة القرآن. بغيابه، خيّمت غيمةُ صمت على الناس.

**

عقد قرانه قبل أسبوعين من يومه الأخير، تلا يومها بصوته الندي آية: "قُل بِفَضلِ اللَّـهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذلِكَ فَليَفرَحوا هُوَ خَيرٌ مِمّا يَجمَعونَ".  كان يتجهّز ليوم زفافهِ المرتقب. كان الشاب أحمد مازن عزام (25 عاماً) مُحفِّظاً للقرآن ومؤذِّناً في مسجد الرباط في حي الزيتون شرق قطاع غزّة. في المنطقة نفسها التي عُرِفَ فيها بخُلُقه وطيبته وزرع فيها أحلامه، قضى شهيداً بقصفٍ من طائرات الاحتلال مع بدء العدوان في 5 أغسطس/ آب الماضي. 

تقول والدته: "أحمد كان ملاك في البيت. ملاك بكل ما للكلمة من معنى، ونحن فقدنا هذا الملاك".  كان يخطّط لزفافه في وقت قريب، تحكي والدته: "كنت مستني أولاده، أحملهم، وأشوفهم، والدهم مؤذن ومحفظ قرءان كيف رح يطلعوا؟ ملائكة زيه، لكن حرمنا من كل حاجة". 

نجدة

هبّ لإنقاذ جيرانه بعد أن دمّر القصف الإسرائيلي منزلهم. لكن حدث التدمير لم ينته بعد،  سقط حائطٌ عليه وهو يمدّ يده في فم الركام لنجدة الضحايا.  أفخاخ العدوان  لا تنتهي. 

**

هرع  الشاب أحمد عفانة  (33 عاماً) لنجدة عائلة أبو جاسر - جيرانه، بعد أن قُصِف منزلهم يوم الأحد 7 آب/أغسطس، فسقط على رأسه حائط من المنزل المتهدم، وهو يحاول نجدة جيرانه. بثباتٍ، تقول والدته: "إنه كان يسعى دائماً للشهادة، وقد نالها". لأحمد ثلاثة أبناء، ورابعهم الذي سيحمل اسمه في الطريق. تحكي والدته، أنّ أحمد كان كثير الاهتمام بأبنائه، يجلس كثيراً معهم، ويهتم بدراستهم وهواياتهم، لكن الآن! لم يتبقَّ شيء، الله يعينهم على حياتهم وفقده".

 

انتظار

نصف ساعة مضت ولم يتصل. أحسّت عبير بوخزةٍ في القلب،  فانتفضت:  "النعوش وحدها من يطرق القلب بهذه الطريقة". 

**

قبل نصف ساعةٍ من الحدث كانت الشابة عبير حرب (24 عاماً) مع خطيبها إسماعيل دويك (30 عاماً) على الهاتف. قال إسماعيل إنّه سيغيب لنصف ساعة ثم سيعود لمكالمتها. بعد دقائق، قصفت طائرات الاحتلال محيط منزلهم، هرع إسماعيل ليحمي والدته هناء (52 عاماً)، ثمَّ طال القصف منزلهم فاستشهدا معاً. كان إسماعيل يُتمم تجهيزات زفافه. قالت خطيبته عبير بوجهٍ شاحبٍ إنّ: " إسماعيل لم يمت، إسماعيل موجود، لكنه غاب وتأخر". 

صهيل

عبثاً كانت تُعينه حنجرته على الصهيل. كان ينزف، وصاحبه المضرج بالدم مُسجّى أمامه. لوّح الحصان بعنقه للمرة الأخيرة، ومضى إلى حيث سبقه صاحبه. 

**

انتظر كثيراً، ثم بدا أنَّ عائلته ستموت من الجوع  إن ظلَّ في انتظار توقف عدوان الاحتلا. غسل حصانه الذي استدان ثمنه ولم يسدّده بعده، وربط عربته، وخرج إلى العمل للمرة الأول بعد يومين على بدء العدوان. كان يعمل في جمع الخردة والمواد التي يمكن إعادة تدويرها، ليعيل عائلته. بعد ساعتين، سمعت عائلته الخبر: طائرات الاحتلال تستهدف عربة حصان وسط مدينة غزة. دقائق، وعاد شادي كحيل (29 عاماً) مُكفّناً، وقد قُتِل حصانه. تقول والدته: "بسيطاً خرج، وبسيطاً عاد مُكفّناً". كان شادي يجترح اللقمة من الطرقات، ويُطعم إحدى عشر فماً.  والده المتهدم، قال: "حاولتُ منعه من الخروج، لكنه رد عليّ: لا شيء يؤكل في البيت". 

شقيقان

خطوةً بخطوة وكتفاً بكتف كانا دائماً، إلى أن فرّقَهما صاروخ. لن يؤنب أحدهما الآخر بعد الآن. 

**

كان الليل حالكاً، كما كل ليالي مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة وقت انقطاع التيار الكهربائي. لا مهرب لسكان حي عماد عقل من حرّ البيوت وضيقها حتى وقت الحرب والعدوان، سوى الشارع. هناك على الأقل يمكن لنسمةٍ هاربةٍ أن تُلطِّف الجوَّ المكتوم. مساء يوم السبت 6 آب/ أغسطس، كان أحمد  النيرب (11 عاماً) وشقيقه الأصغر مؤمن (4 أعوام)، يلعبان مع أطفال الحي في الشارع. لحظة، وأحالت طائرات الاحتلال المشهد الساكن إلى كتلةِ نار،  ليستشهد أحمد ومؤمن ومعهما عددٌ آخر من سكان الحي. كان أحمد يتجهّز للمدرسة، ومؤمن لدخول الروضة، تقول والدتهما: "كانا يُخطِّطان لشراء كسوة المدرسة والروضة لحظة أن يهدأ العدوان، وقد اختارا لون الحقائب وأشكال القرطاسية، لكن العدوان لن ينتهي بعد الآن، سيظل مستمراً بعد شهادتهما". 

بعد نحو شهر على شهادة الشقيقين، لا يزال بيت العائلة بيت عزاء. تقول الوالدة: "عودة العام الدراسي، وأنا محرومة من أطفال، بدا كأنه عذاب إضافي. لأنه من حق أولادي وحقي أن أربيهم وأراهم مع أصدقائهم في الروضة والمدرسة". 

حانوتي

آخر ما كانت تتوقع أن يتحوّل الهاتف إلى حانوتي في يدها.. في كل مرة  يخطر على بالها أخيها سلامة، لا تسمع سوى رنات الحِداد. 

**

قبل أيام من بدء العدوان على غزّة، مازح سلامة عابد زوج أخته ثائر، قائلاً: "أنا شبعت من الدنيا". منذ عام 2000 والرصاص يُطارده وهو يُطارد القتلة، نجى سلامة محارب عابد (39 عاماً) وهو أب لأربعة أطفال، ومقاتل في سرايا القدس، من محاولات اغتيالٍ كثيرة. في 5 آب/أغسطس قصف الاحتلال شقةً سكنيّةً كان يتواجد فيها سلامة، وقضى شهيداً. تُقلّب شقيقته منار هاتفها وتتفحّص سجل المكالمات: "سلامة… سلامة". "فكرتّ أنه سينجو كما كل مرة"، تقول منار: "لكني سأظل أنتظر مكالمته نهاية كل يوم كما جرت العادة".

موكب

أرادت أن يكون مروراً هادئاً: "لأن الدم السائل في الطرقات، دمنا"، وأرادوا هم أن يكون صاخباً حدَّ الفناء.. تنهّدت طائرات الاحتلال الحربية وفجّرت من جسدها نهراً جديداً من الدماء. 

 **

في غمضة عين تبدّل حال الشاب أكرم أبو قايدة يوم السبت 6 آب/ أغسطس. دخل بيته  فرحاً، وها هو يخرج منه الآن بعينين دامعتين وبصوتٍ باكٍ بحثاً عن أهله بعد أن قصف الاحتلال سيارة عرسه على باب بيته، ليجد والدته أنعام أبو قايدة (62 عاماً)، مُضرّجة بدمّها، وقد قضت شهيدة، ثم لحقت بها حفيدتها حنين (10 أعوام) بكامل زينتها التي وضعتها لحفل الزفاف الذي تحول إلى مأتم. أرادت والدة العريس أنعام أن يمر العرس هادئاً وبلا مظاهر احتفال في ظل ظروف العدوان التي يعيشها القطاع، لكن للاحتلال إرادته العدوانية التي حوّلت موكب العرس الذي تصدرته أنعام وحنين، إلى موكب تشييع لهما، وبدلاً من أن يستقبل التهاني، صار العريس يستقبل التعازي. 

افتداء

استشعرت قرب النار، أنذرت طفلها وزوجها، وكتمت في قلبها: جُعِلت فداكم.

**

مساء يوم السبت 6 آب/أغسطس، طلبت آلاء صالح الطهراوي (30 عاماً) من زوجها أن يأخذ طفلهما أحمد (3 أعوام ونصف)، وأن يشتري له من الدكان القريب. وحين وصل زوجها إسماعيل الملاحي وطفله الدكان، هوت قنابل الاحتلال ودمرت المنزل، لم يودع أحمد أمّه، لأن طائرات الاحتلال حوّلتها إلى أشلاء. دُفنت أشلاء آلاء في اليوم الثاني، وبعد ثلاثة أيام من استشهادها، استخرجت عائلتها من تحت الركام مزيداً من الأشلاء، ودُفنت مرة ثانية. 

يُمزّق الطفل كلَّ تجمعٍ أمامه وكلَّ لحظة ممكنة، بحثاً عن أمّه. أما والده فلا يجد ما يقوله: "سيكبر ويعرف قصتها وأنها لم تختر البعد طواعية". يحكي زوجها إسماعيل أنّ أكثر ما يؤذيه: "هو أن يكبر أحمد بلا أمّ، أن يذهب إلى الروضة بلا أم وأن يذهب للمدرسة بلا أم".

الطفل أحمد، ابن الشهيدة آلاء.