في مسرحيَّةٍ أميركيّةٍ عن اللُّجوء، كانت ممثّلةٌ تحكي قصَّةً بالغة الشعريَّة عن رحلة هجرة من أميركا الجنوبيَّة إلى حدود الولايات المتحدة الأميركيّة. بدأت الممثّلة بجملة تقول فيها: "حين كنتُ صغيرةً، كنت أعتقد أنّ القمر يكلّمني كلّ ليلة". ثمّ انضمّ إليها خمسة مُمثِّلين آخرين، يخبطون بأقدامهم على خشبة المسرح، كأنَّهم يدفعون الرّمال، ويشقّون طريقهم نحو "المستقبل"، كما قالوا.
كان القمر أعلى بقليلٍ من مروحيّة تبحثُ عن مهاجرين "غير شرعيين"، فيما كانت الممثلة تجلسُ القرفصاء على المسرح، مختبئةً تحت شُجيرة في الخيال. هنالك صوت شخيرٍ يُخيّم على المسرحيّة؛ شخيرُ عاملٍ لاتينيِّ يجلسُ في الصفّ الأوّل، مُرتدياً ملابسَ ببقعٍ بيضاء حملها معه من ورشة بناء. اعتقدَ من دعاه للحضور أنَّه سيُسعدُ بمسرحيَّة تحكي عن مأساته، لكنّ التعَب قد هزمه، و كان شخيره أكثر بلاغة.
تُشكّل المسرحيَّة مثالاً على المحتوى الليبراليّ الُمقدَّم عن اللاجئين، وليس لهم، حين يفترض المحتوى معنى واحداً سطحيّاً للّجوء؛ أنّه العبورُ الشاعريُّ إلى المستقبل الأفضل. ودائماً ما تحاول بعض المنصَّات الفنّيَّة والإعلاميَّة الغربيَّة أنْ تقدَّم رواية مضادة تُدافع عن اللّاجئين وتُأنسنهم، ردّاً على الإعلام اليمينيّ الذي يجرّمهم باستمرار. لكنَّ تلك الرواية نادراً ما تنجو من السطحيَّة، ونادراً ما تنجح في خلق معنى بديل، بل غالباً ما تحصرُ اللَّاجئين في مواقع الضعفِ، مُكرِّسةً علاقات القوى ذاتها التي يحافظ عليها الخطابُ العنصريّ.
القصَّة النموذجيَّة التي اجترَّها الإعلام حتى اهترأت، هي أنَّ لاجئاً لم يكن يملك في جيبه إلا بضعة دولارات، بينما يملك الملايين منها الآن. ولم يكن ليصبح مليونيراً لو لم تحتضنه بلاد الحلم، التي يُفترَض أنَّها تقدّم الربحَ للساعين إليها ببساطة. تلك نسخة واحدة من الحلم الأميركيَّ، مثلها نسخٌ أخرى؛ كقصَّة لاجئ سوريٍّ، كان مهدّداً في بلاده بسببِ ميوله الجنسيَّة، وينتهي التهديد وتختفي جميع مشاكله حين وصوله إلى الولاياتِ المتحدة. لا يقتصرُ هذا التوجُّه على الإعلام الأميركيّ، فنجدُ قصَّة مماثلة للأخيرة، عن لاجئ كرديّ مثليّ قرَّر التطوّع بانضمامه للقوات المسلَّحة الكنديَّة ليخدمَ البلد التي أعطته فرصته، حسب تعبيره، بعد أن اضطُهِدَ في بلاده.
لجوء الأحضان المجانيّة
إحدى المبادرات غير الربحيَّة، والتي تُدعى "قصَّة اللاجئ"، تنشرُ قصصاً شخصيَّةً للاجئين في أميركا بهدفِ تعزيز التعاطف معهم. 72% من القصص التي نشروها حتى الآن، كانت للاجئين تحت سنّ 35 عاماً، وكلُّها بلا استثناء قصص نجاح لعلماء، راقصين، موسيقيِّين، كُتَّاب، وناجين -ممتنين- من أهوال الحروب والمجاعات.
يقولُ أحد مؤسِّسي هذه المبادرة، سانكار رامان، إنَّه يختارُ تلك القصص بالذات لينفيَ المقولة العنصريِّة: أنَّ اللاجئين عبءٌ على الاقتصاد الأميركيّ، وإنّما هم دافعو ضرائب موهوبون، ويملكون الحلم الأمريكيّ ذاته، بأنْ يعملوا جاهدين لتأمين حياتهم وحياة عائلاتهم.
رغم أنَّ قصدَ هذه المبادرة إيجابيٌّ تماماً، إلَّا أنّها بشكلٍ أو بآخر، تقسِّم اللاجئين إلى فئتيْن: ناجحين مستحقين للمواطنة، وآخرين غير مستحقين. ماذا لو كان اللاجئ غيرَ موهوب، أو مُعطَّلاً عن العمل، أو مجرَّد إنسانٍ عاديّ -كالكثير من الأميركيّين- ولا يستطيعُ تقديم أيِّ شيء استثنائيٍّ للبلدِ الجديد؟ ضمنَ هذا المنطق، يكون من حقِّ أميركا عدم قبول هؤلاء كمواطنين.
هكذا يأخذ "الرجلُ الأبيض" على عاتقه مسؤوليَّة اختيار هؤلاء الذين يحقُّ لهم العبورُ إلى المستقبل الأفضل، بناءً على صفاتٍ ينفردُ في تحديدها، فيتمّ إقصاء المختلِفين عنه، واستثناء أيّ فئةٍ يجدُ فيها تهديداً -دينيّاً، أو سياسيّاً، أو اقتصاديّاً- على هويَّته. تأتي الرِّواية المضادَّة ومعها الحلّ؛ أن تدفَعَ باللَّاجئين الذين ينسجمون مع معايير الفئة المهيمنة إلى الواجهة، أملاً في أنْ يرى المجتمعُ اللاجئين بطريقةٍ إيجابيَّة. ثمّ يُخلَق نموذج لـ"اللاجئ الودود" المُستَحِق، فيما يتوارى المهاجرون "غير الشرعيِّين"، وغير المسيحيِّين، والفقراءُ، والعاديِّون خلفَ الكواليس.
طالت هذه الانتقائيَّة اللَّاجئين المسلمين بشكلٍ واضحٍ، وهم مثالٌ واحدٌ ضمن جماعاتٍ أخرى لم يكنْ التعامل معها أقلَّ سوءاً، إذ يُجبَرون، ضمن أنماط الاندماج المهيمنة، على التبرؤ من هويَّتهم الأمّ، لتنصهرَ داخل الهويَّة الجمعيَّة هناك، آملين أنْ يُقبلوا يوماً ما كلاجئين "ودودين". الرواية المضادَّة المتعلِّقة بالمسلمين تأتي كردِّ فعلٍ على منشوراتٍ وسياساتٍ تجرِّم الإسلامَ والمسلمين، وتحرِّضُ ضدَّهم، وتصفهم بالإرهاب. كنتيجة، يتأهَّب المسلمون للدفاع عن أنفسهم، متمترسين خلفَ عنوانٍ مثل: "الإسلام دينُ سلام"، ومستعدِّين أن يقدِّموا الأحضانَ للغرباءِ في الشوارع، وأن يُشاركوا في مناظراتٍ سخيفة للدفاع عن ثقافتهم مراراً وتكراراً، ليثبتوا نواياهم الحسنة، وانتماءهم لبلدانهم الجديدة.
تماماً مثلما نشرتْ مجموعةٌ من الفنانين والناشطين والمثقفين المسلمين في أميركا تعهداً، بمناسبة مرور عشرة أعوام على أحداث 11 سبتمبر، يقول: "نحن مسلمون أمريكيِّون، وأمريكيِّون مسلمون. نحنُ جيرانكم، أصدقاؤكم، أطباؤكم، جنودكم، رجالُ الشرطة (...) نحنُ مندمجون تماماً في الفسيفساء الأميركيَّة، وفخورون بذلك".
دائماً ما يُحصَرُ المسلمون في خطابٍ إعلاميَّ حدوده ضيِّقة؛ خطابٌ لا يتعدَّى نقاشاتٍ سطحيَّة حول الحجاب، وعلاقة الدينِ بالإرهاب، وجوانب قليلة من الشريعةِ الإسلاميَّة. هذا الخطاب، لا يتيحُ لهم التعبير فيما تسمى بواحاتِ الديمقراطيَّة، إلَّا حول ما يتعلَّق بتلك القضايا فقط. وحين لا يُرون إلَّا في تلك السياقات الضيِّقة الخاصَّة، لن يتغيَّر شيءٌ من التمييز ضدَّهم، لأنَّ غير اللاجئ سيفهمُ من المحصِّلة أنَّ المسلمين اللاجئين يختلفون عنه، ثمّ يفترض أنَّ من الصَّعب التعامل معهم كجزءٍ من مجتمعه. إضافةً إلى أنَّ الرّدود على الخطابِ الهجوميّ على المسلمين، تعطي شرعيَّةً للإسلاموفوبيا، وتجدّد من بروزَ الإسلام كلّما ذُكِرَ الإرهاب، حتَّى إنْ كان الردُّ نفياً لارتباط الأمريْن، سيسقطُ النفي أحياناً، ويعلقُ الإسلام والإرهاب في جملةٍ واحدة.
خطر الشفقة
الشّفقة هي خطابُ أنسنةٍ آخر يضعُ اللّاجئين في موقعِ ضعف، مبرِّرةً ممارسةَ المجتمع الجديد للسلطةِ عليهم. قد تبدو صورة طفلٍ غارقٍ على شاطئ حدوديّ أبعد ما تكون عن النهايات السعيدة التي يحبُّها الإعلام، لكن من المؤكد أنَّ البطل المخَلِّص هو ذاته: الرجلُ الأبيض.
لطالما لعب الأطفالُ دوراً مُهِمّاً في أنسنة اللاجئين، وجعلهم أقرب عاطفيّاً من الجمهور الغربيِّ، إذ يستطيعُ الجميع التفكيرَ بطفلٍ واحد -على الأقلّ- يهمّه أمره، ويستطيعُ الأكثريَّةُ أن يفهموا كم من المفجع أنَّ طفلاً قد مات.
المشكلة هي أنَّ صورةً مثل صورةِ الطفل أيلان الكردي، أو صورة الرضيعة السلفادوريَّة فاليريا راميريز، اللذيْن وُجدا غارقيْن على شواطئ حدوديَّة؛ صورهما تجرُّ النقاشَ حول اللُّجوءِ إلى مربَّع الشفقة. الشفقة خطيرة، لأنَّها تحتفي بالجمهور "المُشفِق" كأشخاصٍ خيِّرين، مصوِّرةً اللاجئين على أنَّهم جموعٌ من الأطفال منزوعي الفاعليَّة، فتسلبُهم حقَّهم في تقرير مصائرهم. يعطي ذلك الحقَّ للجمهور -أي المجتمعات الغربيَّة المستضيفة- أن تمارسَ نوعاً من الأبويَّة تُجاههم، وتتعامل مع مسؤوليَّتها اتجاه قضيَّة اللّجوء على أنَّها محض عملٍ خيريّ.
لا شكَّ في نُبلِ التعاطفُ الإنسانيّ، ولا في حاجةِ اللَّاجئين له، حين يجدون مجتمعاتٍ مُرَحِّبة بعد الذي قاسوه من تهجير، لكن الأهمّ هو أن تفهمَ تلك المجتمعات أنَّ الدُّموعَ والبطانيَّات لا تكفي. لدى الغرب مسؤوليَّة أكبر اتّجاه اللَّاجئين، بحكم امتيازاته الاقتصاديَّة، والخراب الذي سبَّبه هو في بلاد هؤلاء اللَّاجئين.
إنَّ إظهارهم ككتلةٍ بشريَّة لا ملامح لها، أو كمواضيع لإثارة الشفقة لدى أصحاب الضمائر الحيَّة، أو معاملتهم كـ "آخر" وإقصاء ثقافاتهم الأمّ، هي جميعها أساليب تنزع الإنسانيَّة عن اللّاجئين، وليس العكس. ما سيخدمُ اللاجئين حقّاً هو الانشغال بالكتابة عن أسباب اضطرارهم للّجوء ودور حكومات الدول المُستَضيفة في التسبب بهذا اللجوء، والتفكير بأساليب توزيع المصادر حتّى تستطيعَ المجتمعاتُ الجديدةُ التكيَّف مع حاجاتهم، والدفاع عن حقِّهم -كلِّهم دون انتقائيَّة إقصائيَّة- بأنْ يكونوا آمنين مُكرَّمين، دون منَّةٍ من أحد.