7 يناير 2025

شتاء غزة القاتل  

شتاء غزة القاتل  

رفع يحيى يديه الاثنتين حاملًا طفله، وصرخ في الجموع التي أحاطت به: "متنا من الجوع والسكعة". ثم حدق في الكاميرا: "اتخيل بني آدم بطلّع على أبناؤه الاثنين اللي بموتوا يوم يوم، ومش قادر يعمللهم شيء". ضرب يحيى بكفيه عاجزًا عن إنقاذ طفليه التوأمين جمعة وعلي - البالغين من العمر شهرًا واحدًا - وقد ماتا من البرد، كما مات خمسة غزيين آخرين منذ بدء فصل الشتاء. 

لئيمًا وقاسيًا، جاء الشتاء للمرة الثانية على أهالي قطاع غزة خلال الحرب التي يشنها جيش الاحتلال عليهم منذ 7 تشرين الثاني/ أكتوبر 2023، إذ تعصف الرياح بالخيام التي تؤوي آلاف النازحين، فتخلعها من مكانها، وتترك الناس تحت زخات المطر الباردة. أما الخيام التي صمدت أمام الريح، فترى داخلها الأمهات يسابقن المطر عسى ألا يصل إلى أطفالهن وأغطيتهم البسيطة. ولكن، يفوز المطر في النهاية، ويُغرق كل ما في الخيمة. 

تعصف ريح الشتاء وأمطاره بـ 135 ألف خيمة و543 مركزًا للإيواء والنزوح، فيها نحو مليونَي نازح هجّرهم جيش الاحتلال من مختلف محافظات قطاع غزة - حسب المكتب الإعلامي الحكومي - إذ تُنبئ هذه الأرقام الهائلة بأن الشتاء سيكون أشد قسوة على الأهالي الذين نجوا مرات ومرات من الموت بصواريخ الاحتلال، وهم الآن يقاسون أيامهم بأجساد ضعيفة لا تحصل إلا على قليل من الطعام في اليوم بالكاد يسد جوعها. 

خيام مهترئة 

في ظروف صعبة تفتقر إلى كل مقومات العيش، يحاصر جيش الاحتلال أكثر من مليون ونصف مليون نازح في 35 كيلومترًا مربعًا، تُشكل 10% من مساحة قطاع غزة، وتمتد من وسطه (النصيرات والزوايدة ودير البلح) إلى مدينة خانيونس جنوبًا. وتقع هذه المنطقة التي يصنفها الاحتلال أنها "إنسانية" بمحاذاة شاطئ البحر في المنطقة المعروفة بـ"المواصي".

نازحون فلسطينيون يتفقدون خيامهم المتضررة بفعل الرياح والأمطار بعد هطول أمطار غزيرة في دير البلح، وسط قطاع غزة، في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. (تصوير: مجدي فتحي/نور فوتو)

في هذه المنطقة الرملية، وبمواجهة مباشرة مع أمواج البحر وبرد شتائه، أجبر جيش الاحتلال النازحين على نصب خيامهم، إذ لا توجد عوازل أسمنتية أو أحزمة شجرية تخفف من سرعة الرياح، والتي سريعًا ما تضرب الخيام، وتشدها نحو البحر حتى يبتلعها. 

اقرؤوا المزيد: النزوح من قصف الطيران إلى تصفية الأونروا

معظم الخيام شيدها أصحابها في بداية الحرب من قطع القماش أو البوليستر أو النايلون والشوادر، مرّ عليها الشتاء والصيف، وتقلب الطقس المستمر حتى نال منها ما نال. وقد تجددت نداءات أهالي غزة لإدخال مزيد من الخيام إلى القطاع، بعد أن اهترأ وتلف نحو 81% من خيام النازحين، إلا أن الاحتلال يواصل رفضه، مستخدمًا ذلك أداة للضغط على أهالي قطاع غزة ومقاومتهم. وحسب مكتب الإعلام الحكومي، فإن الاحتلال منع إدخال 250 ألف خيمة إلى القطاع.

"نموت بردًا" 

في خيمة أغرقها المطر في خانيونس، جلس أحد الآباء محاطًا بأطفاله الثمانية، يبكي عجزه وقلة حيلته: "خايف على ولادي يموتوا من البرد، بطلّع (أنظر) عليهم ومش قادر أساعدهم أو أغطيهم.. الوضع مأساوي". فخيام النازحين تحولت إلى "ثلاجات موتى"، كما يصفها مدير عام وزارة الصحة في غزة الدكتور منير البرش، تعقيبًا على وفاة طفلين نتيجة البرد القارس الذي تعرضَا له في الخيام.

تحولت جملة "نموت بردًا" إلى حقيقة، وافتتح الشتاء قائمة جديدة لشهداء البرد، فحتى الثاني من كانون الثاني/ يناير 2025، سُجلت في هذه القائمة سبعة أسماء: عائشة القصاص (21 يومًا)، وعلي حسام عزام (4 أيام)، وسيلا محمود الفصيح (14 يومًا)، وكريم المطوق (3 أشهر)، والتوأمان جمعة وعلي يحيى البطران (شهر واحد)، والطفل إسلام هيثم أبو مور، والممرض أحمد الزهارنة (35 عامًا). 

معظم شهداء البرد، أطفال لم تتجاوز أعمارهم ثلاثة أشهر، إذ لم تقوَ أجسادهم الصغيرة على الصمود طويلًا أمام انخفاض درجات الحرارة، الذي يؤدي إلى فشل في الأعضاء الحيوية للجسم، وبالتدريج تتوقف عن العمل بشكل صحيح، ويختل النظام الكهربائي للقلب، فتزيد لزوجة الدم ويقل تدفقه إلى الأعضاء، وتتدهور وظائف الدماغ والجهاز العصبي، حتى يصاب الإنسان بسكتة قلبية أو دماغية. 

يتسبب ذلك في عدة أعراض شديدة الألم، يصفها طبيب الأطفال درويش أبو العمرين لـ متراس: "تظهر أعراض على الإنسان منها انخفاض درجات الحرارة بشكل متسارع، ويبدأ الجسم الارتعاش في محاولة للتدفئة، ويعاني الإنسان حينها من التلعثم، وضعف النبض، وفقدان الذاكرة، وفقدان الوعي". أما في حالة الأطفال الرضع، يبيّن أبو الخير أنه تظهر عليهم علامات احمرار في الجلد ويعانون من الإسهال والجفاف.

ويشير أبو العمرين إلى أن عدم وجود طعام صحي في قطاع غزة، يزيد من نسب الوفاة بالبرد، إذ يعتمد الجسم على نسب عالية من الدهون الصحية والبروتينات من الخضراوات واللحوم لتوليد الطاقة والوقاية من البرد.

اقرؤوا المزيد: الجوع والخيمة

وأمام افتقار النازحين إلى أي مصدر للتدفئة داخل الخيام، تلجأ الأمهات إلى احتضان أطفالهن وتدفئتهم بأجسادهن. تقول إحدى الأمهات: "نقوم بفرك أقدام أطفالنا، ونغمرهم في أحضاننا لمنحهم شعورًا بسيطًا بالدفء".

أطفال يقفون دون أحذية بالقرب من خيمتهم في دير البلح أثناء تساقط الأمطار في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2024 ويحاولون منع دخولها إلى الخيمة. (تصوير: أشرف عمرا/ الأناضول)

لكن، حضن والدة سيلا الفصيح لم يكن كافيًا لمنحها ما تحتاج إليه لتظل على قيد الحياة. تقول الوالدة لـ متراس: "غرقت خيمتنا من شدة المطر، حملت طفلتي سيلا ونحن في العراء حتى يتسنى لأخوتها نقل ما يمكن نقله من الفرشات والأغطية إلى الخارج، احتضنتها بشدة". ولكن سيلا لم تتوقف عن الصراخ والبكاء بصوت عال. تكمل الوالدة: "ارتجفت بشدة حتى انكمشَت، وكان رأسها باردًا وأشبه بقطعة الثلج، ثم ماتت بين ذراعي".

الشتاء يضاعف الأمراض 

بملابس خفيفة، وأقدام حافية، وأجساد نحيلة، هكذا ترى كثيرا من الأطفال في الخيام يرتجفون من البرد، وتسمع صوت اصطكاك أسنانهم بلا توقف، فلا نار يستدفئون بها، ولا أغطية، ولا حتى معاطف وملابس مناسبة للشتاء. تُشير الأمم المتحدة إلى أن ما لا يقل عن 945 ألفا منهم يحتاجون إلى إمدادات الشتاء، التي أصبحت باهظة الثمن في غزة. 

 اقرؤوا المزيد: كيف تتواطأ المنظّمات الأممية على العدوان على غزّة؟ 

ذلك كله يأتي بعد أكثر من عام من الحرب التي نالت من مناعة أجساد أغلب أهالي القطاع، أمام قلة الغذاء، وانتشار الأوبئة، وانهيار المنظومة الصحية، وعدم توفر الأدوية والمطاعيم للأطفال.

طفل يجمع الحطب أثناء تساقط الأمطار في رفح جنوب قطاع غزة، في 2 شباط/ فبراير 2024. (تصوير: محمد عابد/ وكالة فرانس برس)

ويشير تقرير منظمة الصحة العالمية إلى أن 90% من أطفال غزة دون سن الخامسة أصيبوا بأمراض معدية، وأن 25% من النساء يعانين أمراضا جلدية، كما سُجلت 11 ألف إصابة خطرة بالتهابات حادة في الجهاز التنفسي.

توظف "إسرائيل" كل الأدوات والوسائل في حربها على قطاع غزة، لتقتل أكبر عدد من أهله، ثم يأتي برد الشتاء وأمطاره والأمراض أدوات إضافية تستخدمها لقتل الناجين من صواريخها ورصاصها، وتنتقم من الذين يولدون في الحرب متحدّين كل هذا الموت.